fbpx

حاتم علي: ما قبل “الليل الطويل” وما تلاه…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حافظ حاتم علي في فيلم “الليل الطويل” على حساسيته الشاعرية التي اعتدنا عليها في أعماله الدرامية، لكن هذه المرة مع اختفاء الألوان الدافئة الحميمة والإضاءة الصفراء، إذ غلب على الفيلم اللون الأزرق القاتم…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في سوريا ما قبل عام 2011، كانت شريحة كبيرة من السوريين متعطشة لرؤية أعمال فنية، أدبية أو سينمائية تتناول الوجه الحقيقي للقمع السياسي في البلاد. 

كان موضوع الاعتقال السياسي والسجن لسنوات طويلة في زنازين النظام السوري يشكل كابوساً لأي سوريّ، سواء كان مواطناً عادياً أو يعمل في مجال الفن أو السياسة…

لكن الأعمال الأدبية القليلة التي ألّفها كتّاب اعتقلوا سابقاً بتهم سياسية، كانت بمثابة إلقاء نظرة مكثفة على سوريا السُّفلية، سوريا التعذيب والموت في الزنازين. 

الذين نجوا حاولوا توثيق تجاربهم داخل تلك المعتقلات، فقدّموا أعمالاً أدبية مثل رواية “القوقعة” لمصطفى خليفة، أو أعمال القاص السوري إبراهيم صموئيل التي تناول فيها تجربة السجن مثل “رائحة الخطو الثقيل”، و”النحنحات”، أو “أصابع الموز” للقاص والمسرحي السوري غسان جباعي على سبيل المثال لا الحصر. وتمكن إضافة رواية “شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف، التي كنا نقرأها في سوريا ونسقط أحداثها على الواقع الذي نعيشه. 

حاول حاتم في أعماله الدرامية (الاجتماعية والتاريخية)، خلق صيغة درامية ما، وإن من طريق التلميح غير المباشر، في إشارة إلى مشكلات اجتماعية والفساد في سوريا. 

بالتزامن مع استلام بشار الأسد السلطة عام 2000، شهدت سوريا انفتاحاً سياسياً عبر السماح لقوى سياسية وشخصيات معارضة بإقامة منتديات وصالونات، تناقَش خلالها قضايا سياسية واجتماعية وفكرية، سينتج عنه لاحقاً “بيان 99” الذي وقع عليه 99 مثقفاً سورياً طالبوا فيه “برفع حالة الطوارئ وإطلاق الحريات العامة والإفراج عن المعتقلين السياسيين”.

لم يدم طويلاً هذا “الانفتاح” السياسي المزعوم من النظام السوري، والذي تزامن مع حالة ازدهار لصناعة الدراما التلفزيونية السورية. 

وفي هذا السياق، سطع نجم المخرج السوري الراحل حاتم علي، لتترواح أعماله خلال تلك الفترة ما بين الأعمال الدرامية والاجتماعية، والأعمال التاريخية التي حقق نجاحها شهرة أوسع لحاتم في أنحاء العالم العربي. 

حاول حاتم في أعماله الدرامية (الاجتماعية والتاريخية)، خلق صيغة درامية ما، وإن من طريق التلميح غير المباشر، في إشارة إلى مشكلات اجتماعية والفساد في سوريا. 

لم يكن حاتم يطمح لانتقاد رأس النظام، أو حتى النظام نفسه ولو بشكل غير مباشر، كان واضحاً أن الرجل ينتقد هذا النقد الناعم للأوضاع في من وجهة نظر إصلاحية لكن بنفس تشاؤمي واضح (مسلسل عصي الدمع نموذجاً)، وبالطبع لا يملك رفاهية الاختيار أي مخرج سوري قرر أن يتقدم بخطوات ثابتة في صناعة الدراما السورية التي تتحكم بها السلطة ورجال الأعمال المرتبطين بها، ويُقدم على مغامرة يمكن أن تضعه خارج اللعبة تماماً. 

في هذه الفترة أيضاً سيظهر فيلمان وثائقيان سيسببان إزعاجاً للنظام، الأول هو “طوفان في بلاد البعث” (إنتاج 2003) للمخرج السوري الراحل عمر أميرالاي، و”رحلة إلى الذاكرة” (إنتاج 2006) للمخرجة والشاعرة السورية هالا محمد. الأول يتناول موضوع انهيار سد زيزون في محافظة حماه، وهو من السدود التي شيِّدت بالتزامن مع “الحركة التصحيحية”، أو ما يعرف بـ”انقلاب البعث” 1970، ووصول حافظ الأسد إلى السلطة. كما تناول الفيلم حكاية قرية جعيفية الماشي التي يحكمها شيخ عشيرة والعضو في مجلس الشعب عام 1954 دياب الماشي، وكانت حكاية الماشي وقريته، صورة مصغرة ومجازية عن سوريا “الأسد” ككل. 

إقرأوا أيضاً:

الفيلم الثاني، يتناول قصة اعتقال ثلاثة معارضين للنظام السوري وسجنهم سنوات طويلة، وهم الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، والشاعر فرج بيرقدار، والقاص والمسرحي غسان جباعي، وشهاداتهم عن سجن “تدمر” سيئ السمعة، وجرى تصوير الفيلم داخل ميكرو باص على طريق سفر من دمشق إلى تدمر. 

كان يمكن ألا يثير هذان الفيلمان حفيظة النظام لو لم يعرضا على قنوات تلفزيونية عربية، فالأول عرض على قناة “العربية” وأحدث ضجة كبيرة، استدعي بسببها المخرج عمر أميرالاي إلى مقر من مقرات المخابرات السورية وتم التحقيق معه. والثاني عرض على قناة “الجزيرة”، ولعله لم يأخذ حقه من الزخم الإعلامي، إذ كان النظام يواجه ضغطاً دولياً بعد اغتيال رفيق الحريري في لبنان 2005، وحرب تموز 2006. 

في سياق هذه الأحداث والتغييرات والتخبطات السياسية، جاء نجم الدراما التلفزيونية حاتم علي وصنع فيلماً روائياً عن حياة أربعة معتقلين سياسيين تحت عنوان ” الليل الطويل” (إنتاج 2009)، والفيلم تأليف المخرج و(شيخ الدراما السورية) هيثم حقي، وهو أستاذ حاتم علي، الذي عمل مع هيثم كمساعد مخرج في بداياته، قبل أن يشق طريقه كمخرج متفرد.

ولعل معظم السوريين في ذلك الوقت لم يستطيعوا مشاهدة الفيلم، لأنه كان يعرض في المهرجانات السينمائية الدولية، ولم يكتب له العرض تلفزيونياً. 

حافظ حاتم علي في فيلم “الليل الطويل” على حساسيته الشاعرية التي اعتدنا عليها في أعماله الدرامية، لكن هذه المرة مع اختفاء الألوان الدافئة الحميمة والإضاءة الصفراء، إذ غلب على الفيلم اللون الأزرق القاتم الذي يتناسب مع موضوع الفيلم وعنوانه، ليل طويل ذي زرقة كاحلة، هو لون سوريا السفلية التي لا ترى ضوء الشمس. 

 حاتم وهيثم اختارا زاويةً مختلفة لتناول قضية الاعتقال السياسي، وهي حالة الإنهاك الناتجة عن طول انتظار الخروج من السجن، ولحظة الخروج وتداعياته على السجين، وعائلته التي تنتظره في الخارج. 

أربعة معتقلين في العقد الثالث من عمرهم، كريم (أبو نضال) قام بدوره الممثل خالد تاجا، كمال، الممثل سليم صبري، ماجد، الممثل حسن عويتي، حسن (أبوعلي) الممثل نجاح سفكوني. سيفرج عن ثلاثة منهم تباعاً، بدءاً من أبو نضال التي يدور معظم الفيلم عن تداعيات خروجه من السجن على أبنائه نضال وكفاح وثائر وابنته عروبة، وصدمة صديق عمره أبو فادي (الممثل السوري رفيق سبيعي) الذي خان أبو نضال، وكانت خيانته له سبب اعتقاله، بسبب خلافاتهما السياسية. 

بقي حاتم علي متمسكاً برؤيته، وهي توجيه عدسة الكاميرا إلى أثر شيء ما، أثر قضية ما، وتداعياتها، البحث دائماً عن الأثر.

في فترة اعتقال أبو نضال، ستتزوج عروبة من فادي، ابن صديق أبيها الخائن، وسيستفيد الابن الأكبر نضال، الذي يمتهن المحاماة من علاقات أبو فادي النافذة بالسلطة، ليفتح مكتب محاماة ويكسب جميع القضايا التي يرافع بها ويدافع عنها، لكنه في المقابل لن يهتم لقضية والده المعتقل، لأنه يحمّله كامل المسؤولية عن اعتقاله، وعدم التفكير به وبإخوته، إضافة إلى أنه مختلف معه سياسياً. أما ثائر الذي يلعب دوره المخرج حاتم علي، فهو يعيش منذ زمن في فرنسا، ومتزوج من ابنة كمال رفيق أبو نضال في السجن. زوجان تمر علاقتهما ببرود وخلافات، تنتهي بفرحة تلقي ثائر خبر الإفراج عن أبيه وعمه. أما الابن الأصغر كفاح الذي يلعب دوره الممثل باسل خياط، الكاتب والمثقف المعارض مثل أبيه، فهو ناقم على أخيه الأكبر وأخته بسبب خيانتهما أبيهما. 

حتى في هذا الفيلم، بقي حاتم علي متمسكاً برؤيته، وهي توجيه عدسة الكاميرا إلى أثر شيء ما، أثر قضية ما، وتداعياتها، البحث دائماً عن الأثر، لا عن الموضوع ذاته، وبعبارة أخرى ليس الهدف تناول الحدث، إنما أبعاده وأحياناً نتائجه!

حين يخرج أبو نضال من السجن سيجول طويلاً سيراً على قدميه شوارع دمشق، متأملاً الحياة العادية التي حرم منها طوال سنوات السجن، زحام الشوارع، شكل الفواكه المعروضة بشكل أنيق في محل لبيع الفاكهة والخضروات. سيارة ضخمة على ظهرها صندوق عرض كبير لأثاث بيت معاصر. هذه اللقطة المدهشة والتي تحمل رمزية عالية وسخرية من عملية “التحديث والتطوير” الذي وعد بها بشار الأسد بداية تسلمه السلطة، لتظهر اللقطة الأولى من المشهد، لأبو نضال وخلفه أثاث البيت، وكأنه بالفعل في بيت جديد، إلا أن عدسة الكاميرا تتراجع إلى الوراء قليلاً، وتتحرك السيارة، متابعة تجوالها في شوارع المدينة. كما تتقاطع هذه اللقطة مع حالة الاستنفار التي تحدث في بيت العائلة الذي قرر نضال السكن والزواج فيه، ظناً منه أن والده لن يخرج من السجن، فإذا به يأمر زوجته بإعادة نظام البيت وترتيبه على ما كان عليه قبل ذهاب والده إلى السجن. 

ولعل الفيلم الذي سبق أوان تفجر الاحتجاجات في سوريا بعامين تقريباً، كان بمثابة صلة الوصل بين سوريا التي يحاول النظام بشتى السبل تجميلها من الخارج، وسوريا غير المرئية المدفونة تحت الأرض. والفيلم شكَّل حلقة وصل سينمائية مهمة، في سياق تناول قضية الاعتقال والسجن السياسي في سوريا، ما بين التوثيق والسرد الروائي السينمائي، ما قبل الـ2011 وما تلاها من أحداث. 

ينتهي الفيلم بجملة من مسرحية “العاصفة” لويليام شكسبير على لسان حسن (أبو علي) الكاتب المسرحي والسجين الرابع الذي بقي وحيداً في الزنزانة: “ما بالكم تشتهون أن تكونوا كالفطائر في منتصف الليل، وتترقبون بابتهاج انبلاج الصباح، فلقاء تخاذلكم يا سادتي الضعفاء، أخذت شمس الضحى تتباطأ، أما أنا فرجلٌ مظلوم أكثر من كونه ظالماً، عقلي بدأ يُصيبه الخبل”.

إقرأوا أيضاً: