fbpx

لقمان سليم ممنوع … لأن التعافي ممنوع

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عندما تحين مرحلة “التذكر والحزن”، فسوف نتذكر بكل تأكيد، أننا مررنا بالكثير من الحزن بالفعل. وسوف نتأكد من أن التاريخ أيضاً يتذكر، يتذكر لقمان وأولئك الذين ماتوا قبله في سبيل حرية عقولهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

جاء اغتيال لقمان سليم في ذكرى مرور ستة أشهر على انفجار مرفأ بيروت ليذكرنا بأن التعافي ممنوع في هذا البلد، حيث تتراكم الصدمات بلا مسوغ. يعاني لبنان باستمرار من كمٍ من الصدمات الهائلة في الحجم والنطاق: تتمثل في انتهاكات في كل جانب من جوانب الحياة، وبمنتهى الحِدة والوقاحة. بيد أن ما يربط بين هذه الصدمات هو أنها مصممة على المستوى الفردي والجماعي، بحيث تجعلنا على الدوام خائفين ومنشغلين بمداواة جروحنا بدلاً من استغلال الطاقة الكاملة لِعقولنا وأجسادنا ومجتمعاتنا.

في أحيانٍ كثيرة، تذكرنا الاستعراضات الرهيبة للقوة أننا يمكن أن نظل في تهافت أبدي محموم للحصول على ضمانات أساسية: فالأزمة المالية الحالية مرتبطةٌ بتاريخ مذهل من الفساد. وانفجار المرفأ مرتبط بإرث ممتد من التقاتل. والاغتيالات مرتبطة باستراتيجية اجتثاث الخصوم المحببة منذ زمن. وقتل شخص واحد هو بمثابة تحذير للبقية، وتذكير صارم وقديم بأننا ينبغي ألا نتصرف بحرية، ناهيك بالتطلع إلى رفاهية التعافي.

عندما يكون أمام الناس خيار الاعتماد على مصادر علمية نزيهة ومحايدة لفهم الحقائق واستيعابها بصورة مستقلة، يصبح القادة عرضة للمساءلة. وقد يكون هذا هو السبب في أنهم لا يطيقون على الإطلاق فكرة إجراء تحقيقات مُختصة في الجريمة.

لأنني أخصائية نفسية، غالباً ما أعالج مرضى الصدمات. ولفهم السبب وراء صعوبة التعافي من الصدمة علينا أن نفهم عملية التعافي ذاتها أولاً. 

يشتمل العلاج عادة على ثلاث مراحل: الأولى هي السلامة والاستقرار النفسي، ونتعلم في هذه المرحلة كيفية تحقيق الاستقرار العاطفي والوظيفي والإبقاء عليهما. والثانية هي التذكر والحزن، ونحاول في هذه المرحلة استيعاب الحقائق والمشاعر ومعنى الصدمة. نتألم هنا من أثر الصدمة لنبدأ بعد ذلك في تقبلها وفهمها بطريقة تساعدنا على استعادة سردياتنا الشخصية والمجتمعية وحتى الوطنية. ونتعلم كيفية الانتقال من العجز الناجم عن الصدمة إلى الازدهار. لتأتي المرحلة الأخيرة وهي إعادة الاندماج والتواصل، ونستخدم في هذه المرحلة منظورنا وفهمنا الجديد لتجاوز الصدمة والمضي قدماً، وجعل حياتنا الشخصية متصلة بالمجتمع والهدف من العيش من منظور أوسع.

إقرأوا أيضاً:

كل هذا ممنوعاً لأن الخوف والإحساس بانعدام الأمان هما أقدم أسلحة التحكم وأشدها قسوة. الحرص على إبقائنا خائفين ومُنشغلين بمداواة جروحنا لا يجردنا فقط من القدرة على التحمل والتفاؤل وبالتالي عرقلتنا وإعاقتنا، لكن ذلك، وللمفارقة، يمكن أن يولد لدينا إحساساً بالامتنان عند تقديم أبسط الخدمات الأساسية وأيضاً عند احترام أبسط الحريات الأساسية. وقد نتواطأ نحن أنفسنا مع ذلك من دون أن نشعر: لأنه في سعينا المحموم من أجل الحصول على الضمانات الأساسية، فإننا نتشبث بها بمجرد العثور عليها. ونحاول إسقاط لمحات من الحياة الطبيعية التي نتوق إليها، عليها. وبسبب اشتياقنا إلى الاستقرار، نصبح مذعنين ونتصرف كما لو كان كل شيء طبيعياً: وهذا بصفة أساسية محاولة لحماية أنفسنا من خلال ارتداء ما يمكن اعتباره بدلة واقية نفسية. وبذلك فإننا ننعزل عن الإطار الساحق الذي يجعلنا من البداية نبالغ في التعلق بـ”الحياة العادية” بصورة مثيرة للقلق، ونسمح للقمع بفرض سيطرته لأنه ربما في بقعة خفية داخله يمكن أن نملك فرصة لعيش حياة طبيعية، حيث نأكل ونعمل ونحب.

الصدمة، التي ربما نعاني منها إلى الأبد، تبث الخوف في أجهزتنا العصبية وتدفعنا إلى اللجوء لإجراءات الحماية الذاتية القبلية التي تشمل أمراء الحرب أنفسهم الذين تسببوا في هذا الضرر من الأساس.

ثمة عجز أيضاً يُفرض على المواطن من خلال حالة فقدان الذاكرة التي تأتي جراء الصدمة، وكأنه يركز اهتمامه على “بندول” إلى أن ينخفض وعيه ويصير في حالة من التنويم المغناطيسي، وهي حالة يعيش فيها المواطن منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها في الفترة 1975-1990. فقد صدر قانون العفو العام عام 1991 ليطمس على 15 عاماً الفظائع والأعمال الوحشية ويخفيها من الوثائق الرسمية، ويمنح العفو عن الجرائم المرتكبة على امتداد تلك الحرب؛ إلا أن هذا الصمت غير الطبيعي عديم الضمير لا يحمي سوى أمراء الحرب من المسؤولية الجنائية وكذلك من المعارضة. إذ إن الصدمة، التي ربما نعاني منها إلى الأبد، تبث الخوف في أجهزتنا العصبية وتدفعنا إلى اللجوء لإجراءات الحماية الذاتية القبلية التي تشمل أمراء الحرب أنفسهم الذين تسببوا في هذا الضرر من الأساس. وليس من قبيل المصادفة أن كثراً من المفكرين والمثقفين الذين تعرضوا للقتل، وبخاصة لقمان سليم وسمير قصير، قد كرسوا جهودهم أيضاً للوصول إلى وقائع الحرب الأهلية وإحيائها مجدداً في الوعي العام – وهي جهود بالغة الأهمية في مرحلة “التذكر والحزن” خلال التعافي بعد الصدمة.

يُشكل تقدمنا إلى مرحلة “التذكر والحزن” تهديداً على نحو خاص، وذلك لأن نظام الأقلية يحكم من خلال إملاء سرد ومعنى للأحداث الماضية والحالية. بل إن مختلف الفصائل السياسية تستفيد من الترويج للروايات المتناحرة: إذ إن الافتقار إلى فهم دقيق ومتسق للحقائق يحول بطبيعة الحال دون وجود تنظيم فردي ومجتمعي في ضوء مثل هذه الحقائق. والواقع أنه عندما يكون أمام الناس خيار الاعتماد على مصادر علمية نزيهة ومحايدة لفهم الحقائق واستيعابها بصورة مستقلة، يصبح القادة عرضة للمساءلة. وقد يكون هذا هو السبب في أنهم لا يطيقون على الإطلاق فكرة إجراء تحقيقات مُختصة في الجريمة. فضلاً عن أنهم فقدوا قدسيتهم الروحية: فقد تخلص الناس من ادعاءات قادتهم بأنهم تمكنوا من النمو إلى ذواتهم الكاملة، وأصبحوا أكثر إحساساً بالمواطنين – وهو ما يُمثل المرحلة الأخيرة من التعافي بعد الصدمة.

بطبيعة الحال، المطالبة بحقنا في التعافي من أولئك الذين يتخذون العنف عملة رئيسة لهم، وفكرتهم عن الحوار هي القهر والاستعباد، هدف صعب المنال. وربما لا يُمكن البدء بمفاهيمنا عن ماهية الحياة وما يجعلها ثمينة لأنها تختلف اختلافاً جذرياً. ولكنني أصر على هذا المطلب، لأن كل تذكير فعال بأنه ليس مسموحاً لنا أن نتعافى، هو في حد ذاته تذكير أكثر فعالية بأن التعافي حق لا غنى عنه. هناك أمر واحد مؤكد، هو أننا نُحمّل سماسرة القمع والقهر المسؤولية. ليس بسبب الصدمة المستمرة من دون هوادة، وحسب، بل بسبب حقنا في التعافي الذي حرمنا منه دائماً، والنهب السافر للإمكانات البشرية والمجتمعية. وعندما تحين مرحلة “التذكر والحزن”، فسوف نتذكر بكل تأكيد، أننا مررنا بالكثير من الحزن بالفعل. وسوف نتأكد من أن التاريخ أيضاً يتذكر، يتذكر لقمان وأولئك الذين ماتوا قبله في سبيل حرية عقولهم، ويتذكر أولئك الذين قتلوا، وأولئك الذين عاشوا حياة ملؤها الخوف، وأولئك الذين لم ينعموا بأقل قدر من الحرية.

إقرأوا أيضاً: