fbpx

ماشياً على الصراط بيَدي كاميرا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ابن مدينة دوما التي عاشت مآسي الحصار وفظائعه وجد في كاميرته لساناً يتحدّث به بعدما ابتلع الذعر لسانه هناك.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الصراط في اللغة هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ارتفاع أو انخفاض، وبالمعنى الديني هو جسرٌ أدقّ من الشعرة وأكثر حدة من السيف معلّق فوق جهنّم ويشكّل عبوره شرطاً أساسيّاً للإنسان كي يصل إلى الجنّة. من الناس من يمرّ مثل البرق عليه، منهم من يعدو عدو الفرس، منهم من يمرّ حبواً، منهم من يمرّ متعلّقاً تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً، ومنهم من يعجز عن العبور ويسقط إلى جهنّم ليبقى هناك ويحترق إلى أبد الآبدين. لكنّ المؤكّد أنّ من يولد في أوطاننا البائسة ستكون لديه الخبرة الكافية للتعامل مع صراط يوم القيامة، كلّ خطوة نخطوها في بلادنا فيها احتمال الوقوع والاحتراق وكلّ نفس نأخذه هو نجاة وتمرين جديد على القيامة.

محمد بدرا

محمد بدرا، واحد من ملايين السوريين الذين أجبروا على هذا العبور الخطير، مع فارق أنّه لطالما حاول عدم الوقوع والمحافظة على توازنه عبر الكاميرا في يده. ابن مدينة دوما التي عاشت مآسي الحصار وفظائعه وجد في كاميرته لساناً يتحدّث به بعدما ابتلع الذعر لسانه هناك. توقّفت دراسته في كليّة الهندسة المعمارية في دمشق عام 2013، وعاد إلى مدينته مع اضطراب الأوضاع الأمنية والاعتقالات التعسّفية، وبدأ البحث عن أيّ قيمة إنسانية يتمسّك بها تنقذه من شلال التوحّش الذي لم يعد يعرف نبعاً ولا مصبّاً له، محاولاً ترك أي أثر يدلّ على وجوده المتميز هناك كإنسان يعيش خارج صورة التماثل الدموية.

واظب بداية على العمل الإسعافي مع معرفته في قرارة نفسه أنّ ثوب الإسعاف ليس ثوبه، وأنّ خياراته كمسعف محدودة جدّاً وتتطلّب خبرة ومسؤولية عالية بحيث قد يكون أصغر قرار يأخذه مسألة حياة أحدهم أو موته، هل يترك المصاب ينزف على الأرض ليموت؟ هل يحمله ويكسر عموده الفقري؟ لم يكن هناك مجال للارتجال ولا للتفكير خارج الصندوق، لأنّ الخروج من الصندوق قد يقتل أحدهم حرفياً. لكنّه ومن حيث لا يدري أسعف نفسه حين حمل الكاميرا ورأى عبر عدستها الصندوق للمرة الأولى من الخارج، وصوّره.

هو واحد من أبناء جيل الصخرة التي تلقّت الضربة تلو الضربة حتّى نطقت روحها وأبدعت فنّاً. في صوره مزيج عالٍ من الحرفة والإحساس الإنساني الصادق والوعي العميق تجاه التفاصيل الإنسانية الصغيرة، تجاه الحكاية التي تبدأ وتنتهي في الثانية التي يضغط فيها زرّ عدسته، الحكاية التي تعجز عن سردها الكلمات، فيحكيها الضوء. وصلت صوره الأولى التي التقطها في المبنى الإسعافي والمركز الطبّي الميداني إلى وكالات الصحافة العالميّة وبدأ المصوّر الشاب يلفت الأنظار. لم يبحث في كادراته عن الأشلاء والجثث برخص، لم يصوّب عدسته نحو الزوايا المتوقّعة ولم يعط الأولويّة المطلقة للإضاءة الأمثل. مستفيداً في صوره من معرفته بخفايا فنّ العمارة كانت “الدوكرة” و”الكدرجة” فطريّة عنده. ماذا يمكن أن يضيف الإنسان على الحقيقة أصلاً؟ إنّ المبالغة في سرد الحقيقة، في نهاية الأمر كذب. لذا كان أكثر ما صوّبت عليه عدسته الحكاية البسيطة والنقاش المفتوح، في كلّ صورة حياة كاملة تبدأ وأخرى تنتهي، في كلّ صورة حرب ورعب هنا ويوميّات عاديّة هناك، تدفعنا اللقطات إلى داخل الكادر، نشعر بأنّ جرحنا هو الذي ينزف، أن أنيننا هو المكتوم. كانت صوره التي شهدت على المذبحة صلة وصل بين الذين تسقط القذائف في قلوبهم حقّاً وبيننا حين نشعر بها تسقط في قلوبنا مجازاً. تخبرنا أنّ اللحظة التي أنقذتها الكاميرا من قبر الماضي ستكون مستقبلنا جميعاً إن لم نتدارك أنفسنا، ولكن هيهات… 

على رغم كلّ ما سبق، يرفض بدرا عبارة “الكاميرا سلاح”، يراها تزييناً لغويّاً باهتاً ولا قيمة له. فهو إلى جانب إيمانه بالنضال السلمي اللاعنفي يسأل بجديّة كيف سيدافع الإنسان عن نفسه وعن أهله بالكاميرا بوجه قذيفة تسقط على رؤوسهم الطريّة؟ هل سينفع نشر الحقيقة؟ انتشرت الحقيقة ذاتاً ورآها العالم بأسره وتظاهر وتضامن وبكى بصدق أمام الشموع، “طيب وبعدين”؟ تسقط هنا كلّ الرومانسية والقدسيّة المفترضة على عمل المصوّر، وتسقط قيمته إن لم تقترن بنشاط مجتمعيّ تعاوني كامل، كلّ واحد من موقعه لإضفاء القليل من العدالة على هذا العالم البائس، أو على الأقلّ محاولة ذلك.

وصل بدرا إلى تركيا عام 2018 بعد مسير طويل وتجربة وخيمة. توقّف هناك عن التصوير لأشهر طويلة، محاولاً التقاط أنفاسه واستعادة عافيته الجسدية والنفسية. أيقظت إسطنبول المدينة الجميلة لديه عشق العمارة وتعرّف إلى “العالم الخارجي” الذي يعيش فيه الناس خارج القصف والحصار. استكمل مسيره حتّى وصل إلى فرنسا في نيسان/ أبريل 2020، وبدأ العمل مع الوكالة الأوروبية للصور الصحافية ولكن هذه المرّة بصفة مصوّر متمركز في باريس.

يبتعد بدرا من المقارنات الكلاسيكية بين سوريا وفرنسا، بين الوطن والمنفى، بين أهل دوما والناس في باريس. فاليوم الخالي من القصف في دوما هو أقرب إلى اليوم العادي في باريس. الشعوب وليدة ظروفها في النهاية، ولا أساس منطقياً لأي مقارنة حين تكون معزولة عن الظروف والقيم المحيطة بحياة الناس في مكانين مختلفين. حتّى إنّ الإنسان نفسه تحت القصف يختلف بشكل متطرّف عمّا سيكون عليه في الهدنة. الحزن والفرح والخوف والحبّ سمات إنسانية شاملة لا تختلف بين الناس وهذه ألفباء الإنسانية، إن فرح الإنسان بالنجاة من الغارة الحربيّة يشبه سعادته وهو يسبح في السين، فلننظر إلى الضحكة نفسها في وجهه!

خسر في باريس درع المظلوميّة التي ألبسه إيّاها العالم الخارجي نفسه في عمله في سوريا، وصارت الخبرة والبراعة والتطوّر والإتقان والمعرفة العميقة بفكر التصوير الفوتوغرافي المحفّز الأساس للاستمرارية والإنجاز

التغيير الأهم الذي حدث في فرنسا كان في طبيعة العمل نفسه وهويّته كمصوّر. لم يعد بذاته المصوّر الميداني الوحيد الذي ينتظر “العالم الخارجي” صوره ويصفّق له مهما قدّم ويهنّئه على جسارته، لم تعد صوره دليلاً على نجاته، فهو نجا منذ اللحظة التي رفع فيها قدمه عن لغم الوطن من دون أن ينفجر به. صار يقف بين مئات المصوّرين في المكان عينه لتصوير الحدث ذاته متماهياً معهم حدّ الذوبان، وهنا التحدّي. خسر في باريس درع المظلوميّة التي ألبسه إيّاها العالم الخارجي نفسه في عمله في سوريا، وصارت الخبرة والبراعة والتطوّر والإتقان والمعرفة العميقة بفكر التصوير الفوتوغرافي المحفّز الأساس للاستمرارية والإنجاز. اختبر العمل الجماعي في التصوير حين كان يغطّي تظاهرة لليساريين في باريس، بينما يغطّي زميله تظاهرة اليمينيين المقابلة، من دون أن يخاف بالضرورة من قذيفة ستصيبه من الطرف الآخر… في كلّ لحظة كهذه كان بدرا المنفصل يذوب كالظلّ أمام بدرا المنتمي إلى مجتمع واضح المعالم، يعطيه ما يستحقّ من علم ودعم دون إجباره على حمل دمه على كفّه. بدأ المصوّر في باريس رحلة أعمق في تاريخ فكر التصوير الفوتوغرافي وفلسفته، وبدأ يقرأ في الصور التي كنّا نظنّ أنها تحمل لنا الإجابات، كمّاً هائلاً من الأسئلة المحفزّة. 

بناء على كلّ ما سبق برز اسم محمد بدرا على الصعيد العالمي، وبدأت تظهر صوره على أغلفة أهم المنشورات العالمية كمجلّة التايم، التي اختارته مصوّر عام 2016 “الذي يعمل ليل نهار في وظيفة تاريخية لتوثيق الصراع مواجهاً كلّ المخاطر بالتزام ومهارة”. وفي السنة نفسها حصل على جائزة أفضل مصوّر شاب في العالم في مسابقة PRIX BAYEAUX-CALVADOS لمراسلي الحرب. واختارته اليونيسيف لنيل الجائزة الثالثة للصورة الإنسانيّة للعام 2016.

استمرّت صوره بتحقيق النجاحات حيث نال عام 2018 جائزة أفضل صورة خبريّة ملتقطة بالأيفون في صورة تجمّع فيها سكان دوما بين الأنقاض في رمضان لتناول الإفطار. ثمّ الجائزة الإيطالية Marco luchetta والمركز الثاني في مسابقة أتلانتا كونتيست عام 2018. وعام 2019، نال المركز الثاني في مسابقة “ووردبريس فوتو” وهي من أهمّ الجوائز في هذا المجال، واختيرت صورته كواحدة من أفضل ستّ صور في العام. يخجل بدرا من تعداد ما حقّقه من إنجازات حتّى الآن في مسيرته كمصوّر، موّكداً أنّ تحصيل الجوائز لا يعني النجاح بالضرورة، وعدم تحصيلها لا يعني الفشل. جائزته الكبرى كانت عدم اعتقاله وخروجه من سوريا واقفاً على قدميه، رغم كلّ ما عاش ورأى. إنجازه الأهم أنّه لم يقع عن صراطه، حتّى الآن… 

نستذكر ما كتبته الروائية الأميركية سوزان سونتاغ: ” كلّ شيء موجود في العالم اليوم لينتهي في صورة”، وما حصل ويحصل في سوريا ليس استثناءً عمّا سبق بطبيعة الحال. الاستثناء الوحيد في هذا الإطار هي اللحظات التي قبض عليها محمد بدرا في هذه التجربة وأنقذها ووضعها أمامنا صوراً، ننظر إليها مرّة واحدة وتنظر إلينا ما تبقّى من حياتنا.

إقرأوا أيضاً: