fbpx

أن تكون لاعب كرة قبطياً في مصر: “طلبوا مني تغيير اسمي وديني”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قضى المسيحيون عمراً طويلاً يحاولون احتراف الكرة، وفشلوا كثيراً، ولم يجدوا نماذج يحتذون بها في الملاعب، فاعتبروا هذا الحرمان قراراً رسمياً، مع أن الدولة لم تصدره…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يتحاشى لاعب الكرة المصري جرجس مجدي الحديث بشكل علني، خوفاً على مركزه ودوره في نادي “إنبي” المصري. إنه اللاعب المسيحي الوحيد في الدوري الممتاز لكرة القدم، بين حوالى 540 لاعباً، بواقع 30 لاعباً لكل ناد. 

ووراء توتر جرجس من الأسئلة حول كونه المسيحي الوحيد في الدوري المصريّ الممتاز، عالم سري لكرة القدم “المسيحية” بدءاً من ملاعب الأديرة وحتى دوري الكنائس، وعشرات “المظاليم” الذين غادروا ساحات الاختبارات، وتدريبات أندية الدرجة الأولى ليقرروا الاعتزال قبل أن يبدأوا مسيرتهم، ليبحثوا عن فرصة في ملاعب أخرى، ورياضات أخرى، والاستمرار في حراسة شعار “الهلال مع الصليب”، الذي يحمي مؤامرة “الصمت المسيحي مقابل البقاء”.

مسبحة الموهوبين تنفرط…

وكمان اسمك مينا، اطلع بره” كانت الطعنة الأخيرة الموجهة إلى الطفل مينا عصام بعدما نجح في الاختبارات المبدئية للنادي الأهلي، وتفوق على 250 طفلاً متقدماً لمركز حراسة المرمى، وأبلغه المسؤولون بالحضور لفرع النادي في ضاحية مدينة نصر في القاهرة للاختبار النهائي، ليذهب متحمِّساً، ويعلم أن اسمه تم حذفه من القوائم. 

يقول مينا عصام، في تصريحات صحافية سابقة، إن الكابتن علي خليل، مدرب حراس المرمى، “متعصب وعاملني بشكل سيئ”، وعندما ذكر اسمه للكابتن أحمد إكرامي، المشرف الفني على مدربي حراس المرمى بقطاع الناشئين في الأهلي، رفض إعادته للاختبارات، وطرده من على الباب عندما ذكر أن اسمه «مينا»، وقال والده إن “الكابتن عادل طعيمة، المسؤول في الأهلي، قال له: لو ابنك أحسن لاعب في المجموعة، مش هاخده”.

حصلت هذه الواقعة عام 2016، وفجّرت لغماً يخاف آلاف المسيحيين من الاقتراب منه، ولا تجرؤ الكنيسة المصرية على اختراقه، ربما لأنها لا تعرف شخصاً مباشراً يمكن أن تتفاوض معه لحلها، لأنّ المتهم هنا هو “عقل جمعيّ”، فالمدربون المصريون الآتون من خلفيات ريفية متشددة دينياً يحكمون عمليات الاختبارات، الباب الوحيد لدخول اللاعبين عالم كرة القدم، ويسبعدون المواهب المسيحية مبكراً من الاختبارات، مع التشكيك في قدرات هؤلاء الشبان، حتى لا تنمو وتكبر وتنتج نجوماً، يحتمل أن ينضموا يوماً ما إلى منتخب الساجدين. فعام 2017، عادت أصداء جديدة لاستبعاد على أساس ديني تتردَّد على المواقع الإخبارية المسيحية مرة أخرى، لطفل يدعى “توني عاطف” ذهب لاختبارات النادي الأهلي، واقتنع المختبرون بموهبته، وأشاروا إليه، ذهب ليسجّل اسمه ضمن المقبولين، فأشار المشرف المسؤول إلى معصمه، في إشارة إلى الصليب المرشوم، وبعدما كان– بالنسبة إليهم– خليفة “أبو تريكة”، أصبح متطفلاً على الكرة وعديم الموهبة، ولم يتم قبوله. 

انتشرت القضية على مواقع التواصل الاجتماعي، فدعا النادي الأهلي الطفل إلى إعادة الاختبار. لم ينفِ الواقعة، واكتفى بكلام مائع عن الوحدة الوطنية، ونجح الطفل في الاختبار الثاني، وأصبح لاعباً في ناشئي الشياطين الحمر، لإرضاء الجمهور المسيحي الذي كان ثائراً وغاضباً من الأهلي بسبب طائفيته، والمعروف أن النادي الأحمر – تحديداً – ضم- عبر تاريخه – خلايا متحفظة دينياً وتميل إلى جماعة الإخوان تنظيمياً، لم تبدأ بربيع ياسين، وهادي خشبة ولم تنتهِ بأبو تريكة. 

متابعة سجلات وقوائم الدوري المصري الممتاز – طوال الـ30 عاماً الماضية – تؤكد أن ما لا يزيد عن 12 لاعباً مسيحياً عبروا إلى أندية الدرجة الأولى، ولهم قصص ومواقف وطرائف.

تغيير الأسماء المسيحية إلى إسلامية ضريبة للاستمرار

الكابتن محمود الجوهري، المدير الفني الأسبق للنادي الأهلي والمنتخب المصري، عرض على “الناشئ” مدحت عبد المسيح التوقيع معه ليصبح لاعباً في الفريق الأول بشرط “تغيير اسمه”، لكن اللاعب كان من عائلة ثرية، وشرط “تغيير الاسم” بدا تتويجاً لسلسلة من مواقف الاضطهاد الديني التي تعرَّض لها. الأمر نفسه تكرر مع الناشئ أبانوب سمير، يقول شقيقه، مينا، لوكالة الأنباء الفرنسية إنه، حين كان عمره 17 سنة، تقدم لاختبارات “نادي الاتحاد السكندريّ”، فكان الرد: “اسمك هيعمل لنا مشكلة، العب معنا باسم مصطفى إبراهيم، لم يوافق ورفض التوقيع”، ثم تخلى عن حلمه بأن يصبح لاعباً محترفاً.

أشرف يوسف، لاعب “نادي الزمالك” في فترة التسعينات، كان اسمه مناسباً للكابتن “الجوهري”، الملقّب بـ”الجنرال”، فضمه إلى المنتخب الوطني بعدما فاز بألقاب عدة بقميص الزمالك، وكان يوسف – كي يتأقلم ويصبح مستأنساً من زملائه والمدربين – كان يحفظ الفاتحة، وسورة الإخلاص وآية الكرسي، ويرددها مع لاعبي الزمالك قبل المباريات، حتى إنه كان يتولى مهمة فرش سجاجيد الصلاة للاعبين في رمضان، وعلى رغم أن المواقف الطائفية التي تعرَّض لها قليلة، يعترف بأن بعض اللاعبين كانوا يضايقونه بسبب ديانته، و“البعض كان لا يحب الأكل معي أو النوم معي في غرفة واحدة”.

لم ينجُ لاعب مسيحي واحد من المضايقات ومحاولات إجباره على الاعتزال، أو منعه من اللعب حتى لا يكبر ويحجز مكاناً في المنتخب الوطني. كان حسن شحاتة، المدير الفني لمنتخب مصر، فائزاً بكأس الأمم الأفريقية، حين أجرت “بي بي سي” معه حواراً شهيراً، وتوجهت له بالسؤال: “لماذا لا يوجد لاعب قبطي واحد في المنتخب المصري مع أن نسبتهم تتجاوز 10 في المئة”، فأجاب: “فيه هاني رمزي ومحسن عبد المسيح”، فقاطعه المذيع: “هذا في الماضي… أتحدث عن الآن”، ليردّ شحاته: “والله دي حاجة بتاعة ربنا، لا يوجد لاعبون أقباط بالأندية، ولو ظهر لاعب جيد بالأندية هضمّه للمنتخب”. 

وكان الرد المسيحيّ الجاهز على إجابة “شحاتة” أنه لن يظهر لاعب مسيحي جيد بالأندية، والسبب أن “تجفيف المواهب يبدأ من المنبع”.

يروي الكاتب أبرام مقار، رئيس تحرير صحيفة “جود نيوز” الكندية، الموجّهة لأقباط المهجر، في أحد مقالاته، مأساة صديقه “المسيحي الموهوب جداً” ماجد نبيه ميخائيل. اختاره المدرب الأجنبي للأهلي، في ذلك الوقت، وذهب للإدارة ليملأ الاستمارة. سأله الموظف السؤال الذي يُسأل لكل قبطي “اسمك إيه يا إبني”، فقال له “ماجد”، ردّ: “ماجد إيه؟”.. “نبيه”.. “نبيه ايه؟”، فعاجله: “نبيه ميخائيل”. سمع الإداري الاسم كاملاً ثم توقف عن الكتابة فوراً، وقال: “احنا مش هنقدر ناخدك السنة دي تعالَ السنة الجاية إن شاء الله”.

إقرأوا أيضاً:

كوتة مسيحيين

حوادث استبعاد المسيحيين من الأندية المصرية دفعت اللاعب المصري المعتزل أحمد حسام “ميدو” لاقتراح “كوتة أقباط” في الفرق المصرية بنسبة 10 في المئة من القائمة، خلال اجتماعات لجنة إعداد قانون الرياضة, وأضاف أنّ “الكثير من اللاعبين المسيحيين يتوقفون عن لعب الكرة في سن مبكرة بسبب العنصرية التي يواجهونها في فرق الكرة”. رفضت المقترح اللجنة بالأغلبية، وسأل ميدو، في حوارٍ لاحق: “هل يعقل أن لا يكون هناك في تاريخ الكرة المصرية سوى 5 لاعبين مسيحيين فقط في المستويات العليا بالكرة المصرية؟”.

لم يجدْ ميدو رداً على سؤاله، لكن – وفق كثيرين – الأمر لا يحتاج إلى “كوتة مسيحيين” يقرها القانون، الذي يعرّض أي مدرب أو لاعب أو إداري يصنف أو يقيّم أو يستبعد على أساس ديني للمساءلة، طبقاً للدستور المصريّ في مادته الـ53 التي تنصّ على منع “التمييز بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق”، وتقول في الفقرة الثانية إن “التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون”.

فخ هاني رمزي وزملائه المحترفين 

السؤال الآن: من يستطيع إثبات أن الاستبعاد أو التمييز يتمّان على أساس ديني؟ 

الأمر كله يخضع لوجهات النظر، ولدينا لاعب مصريّ كلما قيل إن المسيحيين “محرومون” من احتراف الكرة، ضربوا به المثل: لعب للأهلي والمنتخب المصري، واحترف، ودرَّب المنتخب الوطني، وهو هاني رمزي، المحترف المصري السابق في أندية متوسطة في ألمانيا، ولم يكن الجمهور يعرف أنّه مسيحي، فليس كل هاني أو رمزي مسيحياً. تدرّج في الأهلي من قطاع الناشئين إلى الفريق الأول، وخاض رحلته الاحترافية صغيراً، لكن ديانته كشفت، حين أصبح نجماً ولاعباً أساسياً في المنتخب المصريّ ليشارك بمونديال 1990، وقام قبل بداية مباراة مصر وهولندا بـ”التثليث” والدعاء، فعرف الناس أنه مسيحي.

البابا تواضروس الثاني، بابا المسيحيين، الذي يتحاشى إثارة الجدل أو الدخول في معارك، ردّ على عدم وجود لاعبين أقباط في كرة القدم، في حوار مع صحيفة “اليوم السابع” المصرية (22 آذار/ مارس 2018) لم يتمالك نفسه من الدهشة، وقال: “لا تسألوا الأقباط بل اسألوا الملاعب والأندية، التشجيع أجمل شيء، هل من المعقول كل فرق القدم في مصر مفيهاش واحد قبطي، مفيش واحد قبطي رجله سليمة ولعب كورة شراب في الشارع وبقى لاعب، وهو أمر يرجع لإيه؟ ليس للأقباط”. 

الرد المسيحي على استبعاد المسيحيين من الملاعب لم يكن رسمياً أبداً، والغضب لم يكن معلناً، فالأمر بالنسبة إلى رأس الكنيسة “مجرّد لعبة” يمكن أن نستغني عنها في سبيل أن يبقى المسيحيون في أمان، يقول مصدر كنسي لـ”درج” متحفظاً على نشر اسمه. لكن ما يعرف بمنظمة التضامن المسيحي تقدّمت بشكوى للاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” عام 2016، تتحدث عن وجود عنصرية في الملاعب المصرية، وتسجّل 25 حالة رفض بسبب الديانة – منذ عام 2007– في “الأهلي” و”الزمالك” و”المقاولون العرب” و”حرس الحدود” و”الجونة” و”وادي دجلة”، على رغم أن مالكي الناديين الأخيرين رجلا أعمال مسيحيان، فهل المسيحيون فعلاً «ملهمش فيها» ولا يستحقون اللعب؟

يلقي معظم اللاعبين المسيحيين، الذين وجدوا مكاناً في الدوري المصري الممتاز، باللوم على الأسر التي لا تدعم أطفالها ليصبحوا لاعبي كرة. يقول هاني رمزي، في حوار على إذاعة «9090»: “احنا كأسر مسيحية لدينا قناعة كاملة بأنّ لما يروحوا الاختبارات مش هيتقبلوا، حتى لو هما كويسين، وأنا أقول لهم: ودّوا أولادكم، وخلوا عندكم ثقة في ربنا، إنهم لو موهوبين هيتقبلوا، ولو اترفضوا، روحوا نادي أو اثنين أو ثلاثة”.

وينكر جون جميل مانجا، لاعب طنطا والنصر السابق، الذي كان المسيحي الوحيد في الدوري الممتاز بين 630 لاعباً، طوال موسمين، “اضطهاد اللاعبين المسيحيين” بحجة أن “المدربين المصريين يتسابقون لضم لاعبين أفارقة من ديانات مختلفة، فلماذا يضطهدون المسيحيين”.

أين المشكلة إذاً؟

 يعتقد “مانجا” أن إيمان الأسر المسيحية بنظرية المؤامرة أكبر من إيمانها بأبنائها، ويرى أن أولياء الأمور هم السبب الرئيس في فشل اللاعبين المسيحيين، لأنهم يغذون نغمة الفتنة والاضطهاد لدى أولادهم: “حين يتوفر للاعب صاعد مبرر جاهز للفشل، كيف سينجح؟”.

ويروي قصة لاعب مسيحي عمره 17 سنة، طلب منه أن يتوسّط له لدى مدرب نادي النصر لمنحه فرصة عادلة في الاختبارات… “توسَّطت له، وذهبت بنفسي لمتابعة اختباراته، وفوجئت بأنه لا يفقه شيئاً عن الكرة، وكنت في غاية الخجل، والحقيقة أن المدرب لا يمكن أن يضطهد لاعباً قد يكون سبباً في فوزه بالمباريات”.

لا يختلف جرجس مجدي، اللاعب المسيحي الوحيد بالدوري المصري الممتاز حالياً عن حامل اللقب السابق، جون مانجا، فيحيل الأمر إلى عدم وعي بعض الأقباط، الذين لا يشجعون أولادهم على لعب الكرة بحجة أن “مستقبلها مش مضمون”، ويقول لـ”درج” إن شريحة واسعة من الأسر المسيحية “ترى فرصة النجومية بعيدة فلا تشجع أولادها على خطوة احتراف الكرة، لأنها مغامرة غير محسوبة، ويشجع الأهل أولادهم على خطوات أخرى كالتعليم، أو البحث عن مستقبلهم في شيء آخر”.

 يعتقد “مانجا” أن إيمان الأسر المسيحية بنظرية المؤامرة أكبر من إيمانها بأبنائها، ويرى أن أولياء الأمور هم السبب الرئيس في فشل اللاعبين المسيحيين، لأنهم يغذون نغمة الفتنة والاضطهاد لدى أولادهم: “حين يتوفر للاعب صاعد مبرر جاهز للفشل، كيف سينجح؟”.

هل واجه جرجس صعوبات أو مواقف طائفية؟ يقول جرجس: لم أتعرض لأي موقف ديني، بجد، مفيش خالص! حتى لما أصبت بالرباط الصليبي في مباراة الصعود مع نادي النجوم، أجروا لي الجراحة، وانتظروني، وصبروا عليّ ولمّا رجعت وقعوا معي عقداً جيداً، وأصروا على مشاركتي في المباريات سريعاً.

يتحسس اللاعب المسيحي الوحيد في الدوري الممتاز المصري مفرداته جيداً، ويلقي باللوم على الإعلام أيضاً: “لا يدعو المسيحيين الموهوبين إلى احتراف الكرة، ولا يقول لهم إن التفرقة غير موجودة في الملاعب”. 

لعب جرجس نحو 7 سنوات في دوري الكنائس للهواة، ويوصي أندية الدوري الممتاز بمتابعته “بحثاً عن نجوم مسيحيين”. رأى لاعبين موهوبين يستحقون الالتحاق بأندية كبرى، لكن خط الاتصال مقطوع: “لا هم يذهبون لاختبارات الأندية، ولا الأندية تهتم بدوري الكنائس”.

أولياء الأمور المسيحيين… رحلة البحث عن “التفوق المضمون” بعيداً من الكرة

سلطت برامج، تابعة لقنوات ومواقع موجّهة للمسيحيين، الضوء على اللاعبين “المحرومين” من ممارسة الكرة بأندية الدرجة الأولى، والمرفوضين في الاختبارات. معظم المكالمات الهاتفية أكدت أن هناك حاجزاً نفسياً بين المسيحيين وكرة القدم، تم بناؤه طوال سنوات من الاستبعاد والاضطهاد على أساس دينيّ، فالأمر ليس وليدَ اليوم، إنما تراكمات عشرات السنين، التي دفعتهم إلى صناعة عالم كرة قدم موازٍ “للمسيحيين فقط”. 

يقول جرجس مجدي لـ”درج” إن أسراً مسيحية ترى في الجانب العلمي مساحة خصبة للتفوق، باعتباره أقل المجالات التي يتعرّضون فيها للتمييز، فأوراق الامتحانات سرية والدرجات لا يمكن تغييرها على أساس ديني، فيتفوّقون دراسياً دائماً نتيجة الاهتمام الشائع بين المسيحيين بالمذاكرة والمجال العلميّ.

دوري وكأس ومنافسة على “يد البابا”

يمكن النظر إلى ما حصل بين المسيحيين وكرة القدم طوال عشرات السنين ليصبح ما هو عليه اليوم. فقد ظلّ المجتمع المسيحي الأرثوذكسي المصري، أي الأقباط، هدفاً للعنف والتمييز منذ سبعينات القرن الماضي، فقد أصبح نظام الرئيس أنور السادات أكثر تديّناً بشكل علني في سبعينات القرن الماضي، وتم إدراج الأذان في برامج التلفزيون الوطني، وحظّر بيع الكحول في معظم أنحاء البلاد. 

وجد الأقباط أنه يتم تعريف مصر بمصطلحات تستبعدهم علناً من الانتماء بقدرٍ متساوٍ جنباً إلى جنب مع المصريين المسلمين، فواجه الأقباط التمييز والاضطهاد في ظل النظام الاستبدادي السابق والحكومات الانتقالية التي جاءت بعده. 

نمو الحركات الإسلامية في عهد السادات، خلق بؤراً إسلامية في كل شبر على أرض مصر، وكان الأثرياء ذوو الخلفيات الإسلامية الذين يؤيدونهم أعضاءً في أندية ويمدّون خطوط اتصالاتهم مع لاعبين كبار، ويدعونهم إلى سهراتهم، فنشأت “لحيتا” مجدي عبد الغني، وجمال عبد الحميد. بدأ نمو عشرات اللحى في الملاعب وإدارات الفرق وامتلأت الملاعب بـ”الشورت” الإسلامي الواصل للركبتين، اعتزل هؤلاء وأصبحوا مديري ومدربي فرق الناشئين بأندية الدرجة الأولى، وكانوا من خلفيات ريفية بسيطة لا تتسامح مع المسيحيين وإن كانت لا تتّبع العنف معهم، لكنها تؤمن – في قرارة نفسها – بآية “وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ”، وتطبقها حرفياً، فلا تسمح للناشئين بدخول الأندية من الأساس خوفاً من مزاحمة المسلمين على القمة في كرة القدم، باعتبارهم ذخيرة الدين في معركته مع أهل الذمة.

قضى المسيحيون عمراً طويلاً يحاولون احتراف الكرة، وفشلوا كثيراً، ولم يجدوا نماذج يحتذون بها في الملاعب، فاعتبروا هذا الحرمان قراراً رسمياً، مع أن الدولة لم تصدره، لكن الإسلاميين المتشدّيين- باختلاف درجاتهم ومراكزهم وأنديتهم– اتفقوا ضمنياً على أن اللاعبين المسيحيين لن يصبحوا نجوماً، فانسحب المسيحيون من الملاعب ليتفرّغوا لمعارك أخرى، أغلبها– طبقاً لملاحظات ومشاهدات– تتعلق بالعلم والتعليم والسفر للخارج والانفتاح على العالم، فتجد مجدي يعقوب وهاني عازر، لكنك لا تجد مسيحياً نجماً في كرة القدم ولا الفن. حتى نجوم الدرجة الثانية كهاني رمزي «الكوميديان» وماجد الكدواني، قليلون من يعرفون أنهما مسيحيان، وتحديداً «الكدواني». 

بدأ ما يسمّى بـ”الهجرة إلى الكنيسة” لتصبح ديناً ودنيا، وفي أحد استطلاعات الرأي– التي تخصّ المسيحيين – رأى 5 في المئة أن الكنيسة سبب رئيسي في عدم احترافهم كرة القدم في مصر، لأنها لم ترِد دخول معركة اعتبرتها هامشيّة، وخلقت عالماً كروياً موازياً حتى يمارسوا فيه ما لا يقدرون على ممارسته علناً، واتّسعت الفجوة، فصار الاتفاق الضمنيّ بين “بعض” مدربي الأشبال والناشئين قانوناً يمنع المسيحيين بإرادتهم من ممارسة اللعبة، و«مظلومية» يتشدّقون بها كلما شعروا بالعنف الطائفي.

من المعروف أن الكنيسة كلما واجهت أزمة في مشاركة شيء ما في المجتمع، صنعت لنفسها مساحة خاصة للمسيحيين فقط، واكتفاءً ذاتياً حتى أصبحت تدير دولة “بديلة” تملك مؤسساتها في كل الأنشطة والمجالات، خطة المواجهة التي وضعها الأنبا شنودة الثالث، بابا المسيحيين السابق.

وإذا كان المسيحيون “محرومين” من اللعب في أندية الدوري الممتاز، فأهلاً بهم في دوري الكنائس، وليصبحوا هواة للعبة للأبد.

يسوّق كثيرون رأياً بأن المسيحيين لا تستهويهم كرة القدم، فماذا لو ذهب أحدهم إلى ساحات كأس قداسة البابا شنودة، ودوري مصر الجديدة للكنائس؟

دوريات كرة مسيحية في مصر؟

أكثر من 700 فريق تتنافس على تسلم الكأس من يد قداسة البابا، ما يعني آلاف اللاعبين المسيحيين. منافسة مشحونة بالرغبة في استلهام البركة من يد قداسته قبل دوافع الغيرة الكروية، ويُنظم الدوري في ملاعب صغيرة داخل الكنائس والأديرة، من دون إمكانات احترافية حتى يستطيع المسيحي ممارسة الرياضة، ولا يشعر بأنه أقل من صديقه المسلم، وتظل الدوريات المسيحية غير رسميّة، على رغم أن لبعضه لوائح منظمة لا تقل عن الدوريات الأوروبية.

دوري ” الجديدة”، تجرى مبارياته صيفاً وشتاءً، وتديره لجنة مُشكلة بواسطة مندوب من كل فريق، تعتبر اتحاداً للكرة المسيحية، تحت إشراف كنائس ضاحية مصر الجديدة في القاهرة، ولا يعتبر تابعاً للكنيسة ككأس الكرازة، الذي يسلمه البابا. 

يجرى الدوري وفق لائحة للانتقالات والإعارات، ومخالفات وعقوبات، وصعود وهبوط، ودرجة أولى وثانية، يصعد فريقان ويهبط فريقان كل موسم، ويدير المباريات النهائية حكام محترفون من الدوري المصري الممتاز بمقابل مالي من ميزانيات الكنائس، وأبرز من مرّوا هناك جمال الغندور وإبراهيم نور الدين وسمير عثمان، لكن اللاعبين لا يتلقون أجوراً. 

مع خفوت نجم آخر اللاعبين المسيحيين المحترفين الكبار عام 2002، خرجت فكرة دوري الكنائس لـ”تفريغ طاقات الشباب”، وكأن المسيحيين يعرفون أنهم لن يولد لهم لاعب جديد في الملاعب، فوجدوا ملاعب بديلة تشهد بطولاتهم. وطبقاً لأحدث تصريح عن عدد اللاعبين المقيّدين به، قالت أسقفية الشباب إنهم مليونا لاعب سنوياً، مقسّمون على مراحل وألعاب مختلفة، بدءاً من كرة القدم في الأعمار الأصغر، وصولاً إلى لعبة الشطرنج لمن تجاوزوا الستين والسبعين، ولها نظام ولائحة وجوائز، تحت إشراف الكنيسة المصرية، وتدور منافساتها في جميع محافظات مصر، ويحمل دوري الكنائس اسماً آخر دينياً هو “مهرجان الكرازة”. 

يحضر بابا الكنيسة يومه الختاميّ، ويسلم الفائزين الجوائز بـ”يده”، ويحضر اليوم مسؤولون كبار وشخصيات عامة، حتى إنّ وزير الرياضة يحضره بصفته، لكن وزارة الشباب لا تعترف بدوري الكنائس، ولا تربطها به صلة تنظيمية، وتعتبره نشاطاً كنسياً، لكن أبرز منافسات مهرجان الكرازة هو دوري الكرة… بديل الدوري المصري الممتاز، الذي جعلته الإرادة الشعبية لـ”المسلمين فقط”.

إقرأوا أيضاً:

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.