fbpx

“هالو سَايكَلِپّو”: طائر الموسيقى العربية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أحيا سامر قبل رحيله حفلة وداع لمحبّيه وأهداهم للمرّة الأولى أغنية “بيروت” التي عبّرت بعمق عن شعوره. تقوم الأغنية على مطلع بيت عتابا من تراث الساحل السوري، “أذكريني كلّما هالليل عتّم، راح اللي راح لا تبكين عالتمّ”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
سامر صائم الدهر

“السيمُرغ” بحسب الأسطورة هو سلطان الطيور الأجمل، الذي يعيش على شجرة طيبة تعطي بذوراً تخصب الأرض إذا وقعت عليها. اشتهر أمره على يد المتصوّف الخراساني فريد الدين العطّار، في رائعة “منطق الطير” الذي صوّر السيمرغ إله الطيور، التي تسعى الألوف المؤلفة منها بقيادة الهدهد في رحلة عرفانية طويلة محفوفة بالمخاطر والشهوات، وتتطلّب اجتياز أودية سبعة شاقة. إنما لا يصل إلى علياء السيمُرغ سوى 30 منها، بعد سقوط أو تراجع الطيور الأخرى، التي لم تستطع تحمّل المشقات والتمست الأعذار. حين وصلت، رفع السيمرغ النقاب عن وجهه الذي بدا كالشمس المشرقة، وسقطت منه مئات آلاف الظلال على العالم، بحيث أصبحت صورة الطيور كلّها مجرد ظلّ لهذا الطائر العظيم وأصبح صورتها مجتمعة في المرآة. وكأنّ بحثها لم يكن في نهاية الأمر سوى بحث عن النفس، ورحلة الطيور كانت رحلة إلى الداخل.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

شكّلت هذه الملحمة المنظومة في 4500 بيت مصدر إلهام عظيم للفنّان السوري سامر صائم الدهر، الذي أوصله طيرانه إلى خلق مشروعه الموسيقي المنفرد “هالو سايكلپّو”، مبتكراً نمطاً موسيقيّاً جديداً سماه “إلكترو طرب”، تتقاطع فيه جماليّة الموسيقى العربيّة ومقاماتها مع التكنولوجيا والأدوات الموسيقية العصرية التي يتقن استعمالها بحرفيّة. بإمكان من يستمع إلى أي عمل من أعمال سايكلپّو أن ينطرب حدّ الثمالة وكأنّه في أحد مسارح القاهرة، أو أن يرقص حدّ الثمالة وكأنّه في أيّ نادٍ ليليّ صاخب في بيروت، في مزيج باهر بين “الهارموني” المنسجم الذي تشدد عليه الموسيقى الغربيّة في تكوينها، مقابل الإحساس وربع “التون” اللذين يميّزان الموسيقى الشرقيّة ويزيدانها عاطفة. وهنا تماماً تكمن خصوصيّة إنتاجه.

ولد سامر في حلب عام 1989، تخرّج متفوّقاً من كليّة الفنون الجميلة هناك باختصاص الرسم والتصوير، قبل أن يبدأ رحلته الخاصة في الرسم التعبيري التجريدي في مرسمه الخاص، حيث ترك عشرات اللوحات الضخمة، التي تميّزت بغرابتها واستعمال تقنيات مختلفة في تشكيل اللوحة الواحدة منها، أحبّها إلى قلبه لوحة “العشاء الأخير” وفيها مجموعة من الناس يتصارعون فوق وعاء فارغ. حضرت الشخوص والتعابير بقسوة في لوحات سامر عبر إعادة صياغتها بما يخدم تشكيل اللوحة والفكرة من خلفها، فبدت تشوّهاتها انعكاساً للتشوّهات التي تركتها قسوة الأنظمة علينا. يتذكّر سامر قصّة حزينة وطريفة في آن ويخبرنا: “في إحدى المرّات اقتحمت عصابة المرسم وسرقوا كلّ ما فيه، من كومبيوتر وعفش وأغراض وسجّاد بينما لم يلمسوا اللوحات بتاتاً… ربّما أخافتهم وجوه الناس فيها!”. 

إلى جانب الرسم في حلب، عزف سامر مع فرق موسيقيّة وأنتج بضعة أعمال على نطاق ضيق مراكماً عبرها خبرة كافية حملها معه إلى بيروت، إلى حيث انتقل عام 2012، وهناك تبلور مشروعه الموسيقي ولقي حاضنته الأولى والأكثر حميميّة. يخبرنا سامر: “في أيّامي الأولى في بيروت كنت مرعوباً من فقدان انتمائي لحلب التي كنت أعرف أسرارها وتفاصيل أزقتها وناسها… لكنّها تحوّلت بعد مضي شهور قليلة إلى بيت ثان دافئ مع أصدقاء فهموا تماماً الغاية من عملي ودعموه. في بيروت، ربحت استقلاليّتي في الموسيقى. وتحوّل فيها شغفي الموسيقي إلى مشروع جدّي واضح المعالم بدأ بحفلة صغيرة وتوّج بإطلاق ألبوم “قول الآه 2013”.

مع إطلاق ألبومه الأوّل في بيروت، برز تعدّد مواهب الفنّان الحلبي، فهو مؤلّف موسيقاه وعازفها من الألف إلى الياء. يصمّم أغلفة ألبوماته وملصقات الدعوات، ينتج المؤثرات البصريّة العملاقة المرافقة له في حفلاته. في ألبومه هذا لفت سامر أنظار المشهد الموسيقي العربي كلّه. خصوصاً مع مقطوعته الشهيرة “طرب دبّ” التي أعاد فيها توزيع أغنية أم كلثوم “مين اللي قال”، وانتشرت كالنار في الهشيم على المواقع الموسيقية ومنصات التواصل الاجتماعي. استعمل منتجون موسيقيون كثر أصوات أم كلثوم وعبد الحليم وغيرهما من عمالقة الموسيقى العربيّة ودمجوها مع خلفيات رتيبة، لكنّ سامر حقّق بخبرته العالية ما كنّا نعتقد أنّه مستحيل حين أضاف جمالاً على جمال المقطوعة الأصلية ودمج صوت أم كلثوم العالي مع صوت الباص الغربي والإيقاع الالكتروني الهادئ، مع إضافة عناصر “الريغيه” في بعض المواضع فصارت الأغنية وكأنّها تهويدة ترافقُ هزَّ طفلٍ ينام في مهده.

مع نجاح ألبومه الأوّل صار “هالو سايكلپّو” ركناً أساسيّاً من أركان المشهد الموسيقي البديل في بيروت، وصارت حفلاته المتنقلّة طقساً من طقوسها. لا سيّما أنّه يجدّد أعماله في كلّ حفلة ويعزف كلّ الأصوات مباشرة كلّ مرّة بتوزيع مختلف، مسارعاً إلى العمل على ألبومه الثاني “ها” الذي تبلورت فيه هويته الموسيقيّة، موسيقى إلكترونية حتّى العظم من حيث استخدام “السنثسيزر” والايقاعات الثقيلة المعدنيّة والتكرار الرقمي، والشرقيّة حتّى العظم من حيث البناء اللحني والحفاظ عليه. يصفه سامر بأنّه “احتيال على الألحان، تارة على البناء الصوتي للجملة الموسيقية الشرقيّة وتارة أخرى عبر دمجها بأكثر من نوتة في الوقت نفسه لتشكيل الفضاء الهارموني لها”. في أغنية “بدويّة” على سبيل المثال بقيت روح الأغنية الشعبية المصرية طاغية على الشكل، على رغم التكثيف الرقمي المبالغ فيه في بنائها وشكل الإيقاع الذي ينقبض في مواضع عدة، قبل أن ينهال على رأس المستمع بكثافة وطاقة عالية، مع نماذج صوتية من أغنية “غزالة مع الدلّال”، للمطرب الشعبي المصري أنور العسكري الذي استمدّ اسمه حين كان كلّما لقي عرساً أثناء خدمته العسكريّة يتطوّع بالغناء بلباسه العسكري. حين تأتي هذه الأغنية في الحفلة يرقص نصف الحضور رقصاً شرقيّاً صافياً، وكأنّهم في عرس شعبي ويقول سامر بهذا الصدد: “إنتاجي الموسيقي ليس دمجاً بين نوعين والتوفيق بينهما بقدر ما هو استغلال لمعرفتي وخبرتي بهما لابتكار نمط جديد يشبهني، كنت في صغري أطرب حين أسمع ميتاليكا كما أطرب على صوت نور مهنّا”.

عام 2015، حان وقت ختام هذا الفصل الجميل والطيران من بيروت إلى الولايات المتحدّة مع زوجته. يقول سامر: “أدين لبيروت بالكثير، وأحزن لما تمرّ به كحزني على حلب، مدينة كهذه المدينة وبمقوّماتها تستحقّ أن تكون قبلة العالم الثقافية والفنيّة، لكنّ للأسف جشع حكّامنا وجهلهم جعلا منها مضرب مثل للبؤس والعوز اليوم”.

أحيا سامر قبل رحيله بأيام حفلة وداع لمحبّيه ومستمعيه في “مترو المدينة: وأهداهم للمرّة الأولى أغنية “بيروت” التي عبّرت بعمق عن شعوره. تقوم الأغنية على مطلع بيت عتابا من تراث الساحل السوري، “أذكريني كلّما هالليل عتّم، راح اللي راح لا تبكين عالتمّ”، يحضر الحزن في القسم الأوّل من الأغنية مع تكرار درامي للكلمات فوق إيقاع رتيب يسمح للمستمع بأن يسرح بخياله قبل أن يباغته الإيقاع ويتحوّل سريعاً راقصاً، ثمّ يعود ليهدأ مرّة أخرى وهكذا دواليك، “هذه بيروت” يقول سامر، ويضيف: “يعيش فيها الإنسان أسعد لحظات حياته وأحزنها، أجمل ذكرياته وأسوأها. هي المدينة التي تحزن حين تفارقها، وتعتبر الخروج منها فرصة للنجاة”.

بعد خروجه من بيروت بدأ سامر إحياء حفلاته حول العالم، فعزف في مهرجان “روسكيلدي” في الدنمارك، “ترنس موزيكال” في فرنسا وغيرهما من المهرجانات والحفلات في ألمانيا، أمستردام ، ولندن… حتّى عام 2017، حين أطلق ألبومه الثالث “طيور”، وهو الأنضج والأكثر حرفةً وإتقاناً والأعمق فلسفة خلف اختيار الأصوات والهويّة. أتى الألبوم متماسكاً شكلاً ومضموناً معيداً أسطورة “السيمُرغ” إلى البال، وكأنّ سامر نجح في اجتياز وديانه والتجلّي. 10 مقطوعات موسيقيّة ساحرة جمعها سامر في ألبوم عابر أزمانه من حيث الذكاء والذوق الفنّي في التشكيل. في أغنية “دوا” على سبيل المثال، تشعر بأنّ الشيخ نصر الدين طوبار قد أنشد منذ 40 سنة “والضحى من نور من؟ والندى من فيض من؟ سبّحت لله في العشّ الطيور” فقط كي نسمعها في هذا التوزيع الباهر لروح الصوت ومنطقه. من كان يتخيّل أن تدمع عيناه خشوعاً يوماً على إيقاع “درام أند باس” سريع وأصوات باص ثقيلة تجعل من البريكات الموسيقيّة فرصة لنا لالتقاط أنفسنا أمام عظمة السمورغ الذي نسمعه؟

استكمل سامر طيرانه في العام المنصرم، وانتقل مع عائلته إلى تركيا، وعلى رغم الثقل الهائل الذي تركه وباء “كورونا” عليه كموسيقي يستمدّ قوته المادية والمعنويّة من الحفلات واجتماع أكبر عدد ممكن من الناس في مكان واحد، لم يحرم مستمعيه من إنتاجه. فهو إضافة إلى إحياء حفلات حيّة افتراضية على صفحته، أصدر ألبوم “جسمال” وأسبقه بفيديو “أنيمايشن” موسيقي حمل مفاجأة ظهوره فيه أيضاً كمصمّم ومحرّك ومخرج، مصعبّاً علينا مرّة جديدة حصره كالطير في قفص واحد. حملت المقطوعة اسم “مكنة” نسبة إلى آلة كرات الحلوى في الفيديو،على كلّ منها صورة طاغية في مدينة ديستوبيا، خالية سوى من رجل واحد يهرب من فراغ إلى فراغ مبتلعاً هذه الكرات التي تنهمر في نهاية الأمر على رأسه كالمطر ليترك كلّ شيء خلفه ويمشي إلى مكان يترك لنا سامر بحذاقته حريّة اختياره.

يقول سامر: “لم ينته عصر الموسيقى الذهبية، هو حيّ ولا يحتاج سوى إلى نفض الغبار عنه على رغم تعنّت بعض رافضي التجديد الموسيقي خارج الصندوق الكلاسيكي، وتهاون حيتان السوق التجاري الذين لا يبحثون سوى عن اللحن الذي يشبه أرباحهم: سهل، سريع، ومتكرّر”. وعن وجهة طيرانه المقبلة يقول: “أطير إلى حيث يأخذني بحثي واكتشافاتي، حاملاً على جناحيّ مسؤولية أهل بلدي ومدينتي، وعائلتي، وابني الذي سميته على اسم أشدّ الصقور تكبّراً، باز”.

إقرأوا أيضاً: