fbpx

مناهضو اللقاح من واكفيلد إلى… كارول سماحة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بين الأمس واليوم الحال واحدة، ووجود رافضي التلقيح ما زال ظاهرة بارزة. ما تغير هو أن هؤلاء باتوا يملكون وسائل أكثر لنشر أفكارهم، وبالتالي استقطاب أعداد أكبر وشرائح أوسع من الناس.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
هذا الموضوع تم إعداده بالتعاون مع Pulitzer Center

يفشل الكثير من مناهضي التلقيح في إدراك نتائج فكرهم الكارثية. فرفض التلقيح لن يؤثر في فرد بعينه فقط كما يظن كثيرون، بل تطاول تأثيراته حياة الآخرين ومن شأنها أن تعيد إلى الحياة أمراضاً معدية مميتة اليوم باتت طي النسيان بفضل التلقيح الجماعي. هذا أكبر امتحان لقدرة البشر على الإيثار والتعاون من أجل الفائدة العامة ومن أجل حماية أطفالنا ومستقبلهم كما يجب.

دوافع شخصية

باسمة، محامية لبنانية متزوجة ولديها ثلاثة أطفال أكبرهم يبلغ 18 سنة، أما أصغرهم، أحمد، فقد أتم العشر سنوات. تقول باسمة إنها لم تأخذ موقفاً رافضاً التلقيح بشكل جديّ، إلا بعد ولادة ابنها الأصغر. “معقولة دكتورة وتطعم لولادا!”، عبارة سمعتها باسمة مصادفة حين قصدت أحد مستشفيات لبنان من أجل إعطاء أحمد إحدى جرعات لقاحه الأولى. أثار ما سمعته شكوكاً لديها، فغادرت المستشفى من دون رجعة كما تقول، ومن دون أن تكمل اللقاحات المطلوبة لطفلها الرضيع. وعن سبب رفضها التلقيح تقول باسمة هو تجنبها دخول عنصر غريب، أي اللقاح، إلى جسدها أو جسد أطفالها. “ما اقتنعت، ما بعرف ليش!”، هكذا تبرر باسمة قرارها وعند سؤالها عما إذا أحست بقلق حيال تعريض أطفالها لمخاطر أمراض خطيرة نتيجة قرارها هذا، كان جوابها النفي. 

بالمقابل، تقول ليلى إن فقدان الثقة بالطب والطواقم الطبية بعد وفاة أبيها ثم زوجها كما تناقل قصص مقلقة من بعض المحيطين بها، كانت دافعاً أساسياً قادها في النهاية إلى رفض التلقيح والتخوف منه. هذا ما دفعها للبحث في الموضوع وبحسب رواية ليلى فإن تعرفها إلى منير، أحد مروجي العلاجات البديلة في “أوكسفورد” البريطانية، وهو من أصول لبنانية، عبر أحدى صديقاتها من الجنسية الإسكتلندية كان نقطة التحول بالنسبة إليها، إذ اقتنعت بعدها بعدم جدوى اللقاحات، وخافت من آثارها الجانبية، وهذا ما تطبقه على ابنتها ذات السنوات العشر. ولكن بعد تواصلنا مع منير، استغرب ما قالته ليلى، ورفض وصمه بمناهضة التلقيح إذ لا يعتبر نفسه ضد التلقيح بل “لا الفايروس يخيفه، ولا اللقاح”. منير لديه ثلاثة أطفال، اثنان منهم لم يتلقوا أي لقاح منذ الولادة. 


صورة من مواقع التواصل الإجتماعي شاركتها سيدة تظهر ابنتها تحمل لافتة مناهضة للتلقيح

هنالك من ذهب بوجهة نظره الرافضة للقاحات أبعد من ذلك، ليتحول إلى تنظيم تجمعات أو مجموعات مناهضة للتلقيح ورافضة للقاحات خاصةً في ظل بدء عمليات تلقيح عالمية لفايروس “كوفيد- 19” الذي شل حركة عالمنا منذ ما يزيد عن سنة حتى اللحظة. مثال على ذلك، تحركات دعا إليها المدعو مصلح سري الدين هو وأتباعه في لبنان الذين نزلوا إلى الشارع “ضد الكمامة، ضد التلقيح، وضد كذبة الفايروس”، كما يصف سري الدين. محاولة فهم وجهة نظر الرجل لم تكن ناجحة، إذ عند التواصل معه طالبني بـ”تنظيف صفحتي الفايسبوكية” قبل الحديث معه، إذ على ما يبدو لم تعجبه صفحتي الداعية إلى التلقيح والمنبهة من مخاطر “كوفيد- 19″، إضافة إلى تعليقات بعض الأصدقاء. ثم تابع باتهامي بأنني دون المستوى المطلوب للرد على أسئلتي بفيديو نشره على “فايسبوك”، مضيفاً أن من يريد أخذ حديث منه “بدو يقدم الطاعة، بدو يبوس إدي عالهوا!”.

قرارات من دون أي حجج علمية واضحة إذاً ولكن مع عواقب خطيرة على مجتمع بأكمله. ربما نظن أن هؤلاء حالات فردية ضمن المجتمع الأكبر، ولكن وباء “كوفيد- 19” والحاجة الملحة إلى تلقيح مجتمعي كطريق للخروج من ظلمات الوباء، أخرجا هؤلاء إلى العلن مرة أخرى. هذه ليست الوقفة الأولى للعلم متمثلاً باللقاحات في وجه الرافضين له، التاريخ شهد بالفعل محطات وجولات كان العلم ينتصر دائماً في نهايتها.

حركات مناهضة التلقيح في سياقها تاريخي

ما هو مؤكد أن اللقاحات بحد ذاتها من أعظم ما أنتج الإنسان الحديث للتغلب على أوبئةٍ حفرت الويلات في تاريخه. ولربما نظن أن ظهور رافضي التلقيح حديث العهد، ولكن الخوف من التلقيح ليس بالأمر الجديد بل عمر حركات مناهضة اللقاحات من عمر التلقيح نفسه، أي منذ القرن الثامن عشر حين نجح إدوارد جنر، بعدما قام بتجربته الشهيرة عام 1796، في تطوير لقاح لمرض الجدري الذي حصد في القرن العشرين وحده ما يقارب الـ500 مليون ضحية بحسب التقديرات. لم يكن الجدري أول وباء ينقض بمخالبه على البشرية ولا آخرها، ولكن ما أسسه جنر مهد الطريق للقاحات ضد أمراض معدية أخرى كانت لتحصد أرواح الآلاف أو ربما الملايين لولاها، وهذا ما أعطى جنر لقب أبو علم المناعة والتلقيح.  

الجديد الذي أتى به جنر والذي كان يعتمد تقنية التلقيح بجدري البقر للحماية من مرض الجدري لدى البشر، كان مستغرباً، ولكن سرعان ما لاقى اكتشاف جنر طريقه إلى العالم. ولأن خوف الإنسان جزء من طبيعته فقد حورب جنر وطريقته من شتى النواحي والإتجاهات: دينية، سياسية، وحتى علمية تمحورت حول شكوك ومخاوف من سلامة اللقاح وغيرها من الجوانب التي اعتبرت التلقيح بجدري البقر خطراً ومؤامرة كانت تعكس هواجس المجتمع في ذلك الوقت. 

احتدت هذه التحركات بعد إعلان بريطانيا قانون التلقيح (vaccination act) في 1853 ومن ثم 1867 الذي جعل تلقيح جميع حديثي الولادة الأطفال حتى عمر الـ14 إجبارياً، وصل إلى حد فرض عقوبات على من يرفض تلقيح أطفاله. رداً على ذلك تم تأسيس رابطة وطنية لمناهضة التلقيح التي سرعان ما لاقت أطرافاً مرحبة لتظهر إلى العلن في تحركات ضمت عشرات الآلاف، نددت بالتلقيح في تظاهرات لستر 1885، وحمل المحتجون دمى لجنر وتابوت طفل من ضمن الشعارات. ثم لجأ مناهضو التلقيح إلى استغلال الصحف والإعلانات وحتى الكاريكاتور، لتعميق المخاوف واستقطاب أعداد أكبر من المشككين. تلاشت هذه الحركات مع الوقت لتعلن “منظمة الصحة العالمية” عام 1980 العالم مكاناً خالياً من الجدري كنتيجة لنجاح التلقيح ضد المرض عبر السنين.

ولكن هذه لم تكن المحطة الأولى ولا الأخيرة، تحركات مشابهة لمناهضي التلقيح كانت لها محطات بارزة ضد التطعيم منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. فعلى سبيل المثال، حركات رفض التلقيح كانت أحد الأسباب الأساسية وراء انخفاض عدد متلقي لقاح السعال الديكي في بريطانيا من 81 في المئة عام 1974 إلى 31 في المئة فقط عام 1980 والذي سرعان ما أدى إلى تفشي المرض في المملكة.

عام 1998 عاد الجدل مجدداً إلى الواجهة، هذه المرة حول لقاح MMR الثلاثي (الحصبة، أبو كعب، الحصبة الألمانية) الذي أخذ ضجة إعلامية وشعبية كبيرة بخاصة بعدما نشر الطبيب البريطاني اندرو واكفيلد، دراسة في مجلة لانست العلمية اقترح فيها احتمال وجود علاقة بين اللقاح المذكور ومرض التوحد لدى الأطفال كما أمراض الجهاز الهضمي. استحواذ وسائل الإعلام على القصة والتركيز عليها أشعل أزمة ساهمت في انخفاض أعداد متلقي هذه اللقاحات بشكل كبير، وإعادة انتشار هذه الأمراض بخاصة بين الأطفال لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا. لاحقاً، عام 2010، رسمياً سُحبت دراسة واكفيلد من مجلة لانست وما لبث أن طُرِد من السجل الطبي البريطاني ليمنع من ممارسة الطب في بلده الأم. عدد كبير من الدراسات منذ ذلك الحين أجريت لتقييم سلامة لقاح الـMMR وأمانه، من دون أن تجد أي علاقة بين اللقاح ومرض التوحد. 

وها نحن اليوم مع حملات التلقيح لـ”كوفيد- 19″ أمام وقفة جديدة مع هذا الجدل القديم الجديد، والعلم يقف مجدداً في وجه الجهل والموت، حاملاً الدليل كسلاح. فعلى رغم ما يحاول رافضو اللقاح بثه في نفوس أفراد المجتمع من شك وتخوف، لا حجج واضحة لقرار هؤلاء ولا دليل، أما النتائج فخطيرة ستطيل مدة حربنا ضد الوباء إذا لم يتم التعامل معها بجدية.


رسم كريكاتوري من بدايات القرن التاسع عشر يظهر تخوفاً من إنبات أطراف بقرية لمن يتلقى لقاح جدري البقر الذي طوره جنر

المواجهة: الدليل في وجه التضليل 

بين الأمس واليوم الحال واحدة، ووجود رافضي التلقيح ما زال ظاهرة بارزة. ما تغير هو أن هؤلاء باتوا يملكون وسائل أكثر لنشر أفكارهم، وبالتالي استقطاب أعداد أكبر وشرائح أوسع من الناس. فوسائل التواصل الاجتماعي كما وسائل الإعلام المرئي والمسموع وحتى المكتوب باتت منصات أساسية ومهمة لهؤلاء لترويج المغالطات وفرضيات المؤامرة والمخاوف غير المستندة إلى أي منطق أو دليل علمي. هذه المنصات التي باتت متاحة لأي شخص من الأعمار والاتجاهات كافة، باتت تشهد انتشاراً “فايروسياً” لمعلومات مضللة لتجد طريقها إلى عقول الناس. كما استفاد مناهضو اللقاحات في الماضي من وسائل الإعلام ومن انضمام وجوه معروفة لتيارهم هذه هي الحال أيضاً في يومنا هذا. فمنذ بدء انتشار “كوفيد- 19” وإنتاج لقاح له، عاود هذا التيار نشاطه مستثمراً وجوهاً معروفة في أوساط علمية أو فنية أو حتى دينية وسياسية لإعادة تفعيل النقاش وتعزيز مخاوف المجتمع.

كارول سماحة، على سبيل المثال لا الحصر، من ضمن آخرين، هي أحد الوجوه الفنية العربية التي جاهرت على صفحتها على “تويتر” برفضها لقاح “كوفيد- 19” بوصفه “لعبة، وصفقة”، لتتابع بعدها بالتحذير من اللقاحات “المسببة” لمرض التوحد بحسب سماحة موضحة أنها تستعمل شهرتها “لنشر الوعي بين الناس” كما كتبت. محاولتنا للحديث مع سماحة حول هذه التصريحات قوبلت بالرفض. فبحسب مدير أعمال سماحة هي لا تحب أن تتكلم عن هذا الموضوع وما تريد قوله بهذا الخصوص موجود على صفحاتها على مواقع التواصل. 

هنا نرى دور وسائل الإعلام الأساسي في هذا الموضوع، فسماحة ليست الوحيدة بل هنالك كثر مثل هيفاء وهبي، راغب علامة وغيرهما ممن يتابعهم الملايين في العالم العربي، إضافة إلى مشاهير عالميين مثل روبرت دينيرو. 

وبالتالي فإن أي محاولة للحد من تأثير هؤلاء في المجتمع وبالتالي حياة الناس سيمر بالضرورة عبر وسائل الإعلام ومنصاته المختلفة. إذ إن للإعلام دوراً أكبر في زمن منصات التواصل الإجتماعي في نشر الوعي، تصحيح معلومات الناس المغلوطة عبر البرهان العلمي، تبديد المخاوفن وعدم فتح الطريق لمشاهير رفض التلقيح من أجل الحصول على نسب مشاهدة أو متابعة أعلى وحسب. وما بتنا نراه بوضوح، بخاصة في ظل وباء “كورونا”، هو تركيز أخبار وسائل الإعلام على حالات استثنائية أو نادرة قادرة على بث الرعب في قلوب الجموع، كما إيصال رسائل مضللة عن لقاح أو غيره. هذه مسؤولية أخلاقية تمس حياة الناس ومستقبلهم قبل أي شيء آخر. ومن هذا المنطلق، أخذت شركة “فايسبوك” على سبيل المثال، كما “إنستغرام” وغيرهما، إجراءات للحد من نشر المعلومات المضللة والمغلوطة. على رغم ذلك ما زالت هذه الحركات تجد طرقاً لنشر المغالطات. 

من هذا المنطلق، فإن للجسم الإعلامي بالتعاون مع الجسم الطبي دوراً أساسياً في تعزيز ثقة الناس بالعلم وتصحيح أي معلومات مغلوطة من شأنها أن تبدد مخاوف الناس. طبعاً هنالك أسباب أخرى ومعقدة لأنصار مناهضة اللقاحات منها عقائدية، اجتماعية وحتى نفسية، لكن حملات توعية تشرح مخاطر عدم التطعيم وآثاره على المجتمع وترجمته في سياسات فاعلة على الأرض من شأنها أن تحد من تأثير هؤلاء وتضمن التغيير. 

إقرأوا أيضاً: