fbpx

مقتل أب فلسطيني برصاص إسرائيلي:
جريمته أنه أوصل زوجته إلى عيادة طبية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تتعمد نيسان أن تغطي وجهها بهاتفها المحمول، كما لو أنها تنأى بنفسها عن الاضطرار إلى سماع، مراراً وتكراراً، ما حدث لوالديها في تلك الليلة المشؤومة التي فقدت فيها والدها، على الأرجح لأنه لم يرتكب أي خطأ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شهد الشارع الرئيسي لقرية الجيب في الضفة الغربية باتجاه قرية بير نبالا المجاورة، شمال مدينة القدس تلك الواقعة التي حدثت يوم الاثنين 5 نيسان/ أبريل، الساعة 2:45 صباحاً، ساعة الصباح الباكر. فقد أغارت قوات الدفاع الإسرائيلية على قرية الجيب ثلاث مرات في تلك الليلة. وأوقف الجنود عرباتهم الثقيلة المدرعة على الجزيرة المرورية الضيقة الفاصلة بين جانبي الطريق.

قبل ثلاثة أسابيع، في 13 آذار/ مارس، اقتادت القوات الإسرائيلية بالقوة شاباً فلسطينياً يُدعى أحمد غنايم من فراشه ليلاً واعتقلوه. ثمّ عادوا الآن مرة أخرى للبحث داخل منزله ومتجر عائلته الذي يقع بالقرب من منزله. وقف جنديان بجانب بعض السيارات المتوقفة أمام الحاجز المروري الأوسط قبالة المتجر، ثمّ اقتربت سيارة “تويوتا” قديمة فجأة من اتجاه الشرق، وأشار جندي للسائق بواسطة مصباح يدوي كي يوقف سيارته. لم يلاحظ السائق في البداية ضوء المصباح، لكن زوجته صاحت بسرعة عليه لإيقاف السيارة، والتي توقفت على بُعد أربعة أمتار من الجنود. بعد إجراء محادثة قصيرة، سُمح للسيارة باستئناف طريقها. لكن بعد لحظة، بدأ الجنود بإطلاق عشرات الطلقات النارية عليها.

كتبت الشاعرة داليا رافيكوفيتش، “إذا سقط شخص من على متن طائرة في منتصف الليل، فالله وحده هو القادر على رفعه”. ومن المنطلق نفسه، يُمكن القول إنه، إذا كان شخص ما يستقل سيارة في منتصف الليل في الضفة الغربية، فمن الواضح أن الله وحده هو القادر على إنقاذه. فقد قُتل أسامة منصور، ونجت زوجته سُمَية.

يبيع متجر “البدوي للتصفيات العالمية” الجذاب الذي يقع عبر الشارع، الملابس والأحذية والعطور وأدوات المطبخ بأسعار مخفضة. وثمّة لافتة في المتجر تقول بالعبرية: “خصم يصل إلى 50 في المئة على المجموعة الكاملة لأعضاء النادي”.

“إنها جريمة، ليست ضد أسامة فحسب، بل وأيضاً جريمة بحق زوجته وأطفاله الخمسة. فقد قضى الجنود على حياة سبعة أشخاص، وليس مجرد قتل شخص واحد فقط”.

قوة كبيرة تحاصر عائلة!

جاء الجنود إلى هنا للمرة الأولى في ذلك المساء نحو التاسعة والنصف مساءً. كانوا قوة كبيرة تستقل شاحنات وعربات “الهامر” وعربات مدرعة أخرى. فتش الجنود منزل غنايم، ورشقهم الأطفال والمراهقون بالحجارة، ورد الجنود بإلقاء الغاز المسيل للدموع عليهم وغادروا القرية – ليعودوا مجدداً عند منتصف الليل. ومرة أخرى، حدث تراشق بالحجارة وإلقاء للغاز المسيل للدموع، وأجرى الجنود عمليات تفتيش في عدد من المنازل. وكان عند شهود شعور بأن القوات كانت تخطط لشيء ما.

غادر الجنود عند الواحدة صباحاً. وعادوا مجدداً عند الثانية والنصف. توقفت مركبتان، شاحنة وسيارة “جيب”، على الجزيرة المرورية قبالة المتجر. وتوقفت عربتان مدرعتان أخريان على بُعد بضع عشرات من الأمتار، وربما كان هناك المزيد. خيم الهدوء على الشارع في ذلك الوقت المتأخر من الليل. وقف جنديان على الحاجز المروري الأوسط الذي وقفنا عليه عندما حاولنا استرجاع أحداث تلك الليلة، خطوة بخطوة، بمساعدة الباحث الميداني في منطقة رام الله، إياد حدّاد، التابع لمنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية بـ”تسيلم”. رأى شاهدا عيان، عزام مالكية وبسام عسكر، ما حدث من داخل شقتهما على جانبي الشارع الذي تمركز الجنود في منتصفه.

اقتربت سيارة عائلة منصور موديل “تويوتا” 2010، وأشار جندي بمصباحه إلى السائق كي يتوقف، وتوقفت السيارة تماماً. ووفقاً للشهود، أوقف السائق المحرك أيضاً. نشأت سُمَية وأسامة منصور في قرية بدَو المجاورة، التي كانت في يوم من الأيام مركزاً للمتسوقين الإسرائيليين أيام السبت لكن ذلك كان قبل إقامة الجدار العازل هناك منذ حوالي عقدين من الزمان.

أخبر أسامة وسُمَية الجنود أنهما كانا عائدين إلى منزلهما بعد زيارة عيادة طبية  في قرية بير نبالا، لأن سُمَية كانت مريضة. أصيبت الأسرة بفايروس “كورونا” الذي تعافى أسامة منه بسهولة، بينما حُجزت والدته، جميلة، لمدة 25 يوماً في مستشفى هوغو تشافيز للعيون في بلدة ترمسعيا، التي حُولت مستشفى لمرضى “كوفيد- 19″، في حين عانت سُمَية من أعراض مختلفة وتلقت الرعاية في المنزل. انتهت مرحلة الخطر، لكن سُمَية شعرت بالتعب مجدداً في تلك الليلة. أصيب محمد ابن منصور أيضاً بالمرض، لكن الأطفال الآخرين لم يصابوا بالعدوى. 

كان أسامة تاجر خضراوات يتجول في القرى المجاورة بسيارته. كان اليوم الذي ذهبنا فيه إلى بيته، الاثنين، سيكون عيد ميلاده السادس والثلاثين. أُطلق سراح أسامة من السجن قبل شهرين بعد قضائه عقوبة مدتها 18 شهراً: أُلقي القبض عليه في مدينة القدس لعدم وجود تصريح دخول معه، وكان يمضي بالفعل عقوبة مع وقف التنفيذ. وتعمل سُمَية، البالغة من العمر 35 سنة، خياطة في مستوطنة جفعات زئيف التي تقع شمال مدينة القدس مباشرة. لدى الزوجين خمسة أطفال، ويعيشون في بيت صغير ذي سقفٍ من ألواح الأسبستوس شُيّد في ساحة منزل والدي أسامة.

عندما وصلنا كانت بيسان ونيسان، وهما توأمان في العاشرة من العمر، ترتديان زي المدرسة التي وصلتا لتوهما منها.  والآن هما يتيمتان.

إقرأوا أيضاً:

الصورة الأخيرة

ثمة صورة فوتوغرافية لأسامة مُثبتة فوق شاشة التلفزيون. في ليلته الأخيرة، سأل أسامة والدته عن الأشياء التي يمكنه أن يشتريها لشهر رمضان الذي بدأ راهناً. أجابته بأنه لا يزال هناك متسع من الوقت. التقطت إحدى الصور الأخيرة له بجوار المسجد الأقصى في القدس، عندما تسلل لأداء الصلاة فيه، قبل أن يُلقى القبض عليه ويُعتقل لاحقاً.

تدخل سُمَية الأرملة الغرفة برفقة التوأم، مرتديةً ملابس سود. إنها طويلة ومثيرة للإعجاب، وهي عذبة اللسان وتتمتع بالرصانة ورباطة الجأش، رغم الألم والشحوب الباديان على وجهها. عاد أسامة من عمله الساعة الحادية عشرة والنص مساءً في يوم 4 نيسان، وسارع لنقل زوجته إلى العيادة الطبية في قرية بير نبالا. تقول سُمَية إنه كان دائم الاهتمام بها بتلك الطريقة، ويأخذها لزيارة الطبيب عندما تشكو من أيّ مرض.

أخبرها الطبيب أن عليها المكوث في المنزل والتزام الراحة. لذا اقترح أسامة أن عليهم التجول بالسيارة قليلاً للترويح عنها بعدما ظلت في البيت طوال اليوم. تتذكر سُمَية أنه اشترى لها شطيرة من متجر بقالة كان مفتوحاً في منتصف الليل. لم يلحظوا حدوث أي شيء غير عادي حتى رأوا الجندي الذي يحمل مصباحاً يدوياً وهو يشير لهم بالتوقف.

صوب الجندي بندقيته عليهم وصرخ: “لماذا لم تتوقفوا؟”، رد عليه أسامة، الذي كان يتحدث اللغة العبرية: “لماذا تصرخ في وجهي؟”. ثمّ سألهم الجندي عن محل سكنهم والمكان الذي يذهبون إليه، لكنه لم يطلب رؤية بطاقات الهوية أو وثائق تسجيل السيارة. 

أخبرهم الجندي أن يواصلوا طريقهم، وقاد أسامة السيارة مبتعداً. لكن بعد لحظة، تقول سُمَية إنها سمعت صوت طلقة واحدة من الخلف، وبعد ذلك مباشرة اندفع بضعة جنود أمام السيارة وبدأوا إطلاق وابل من الرصاص عليها. تصف سُمَية المشهد بأن “سيلاً من الرصاص” انهال عليهم. لهذا انحنت إلى الأمام مذعورة في محاولة لحماية نفسها. شعرت سُمَية بشظية أصابت ظهرها. ناداها أسامة، “هل أنت بخير؟”، ردت عليه: “لقد أُصبت”.

تمايلت السيارة من جانب إلى آخر؛ حينها أدركت سُمَية أن أسامة فقد السيطرة على عجلة القيادة. توجهت إليه بالسؤال، قائلةً “لماذا تقود على هذا النحو؟” ولكنها لم تحصل على جواب. سقط أسامة في حضن زوجته، ورأسه ينزف دماً. بدأت سُمَية بالصراخ، لكنها ظلت هادئة. ومن مقعد الراكب، أمسكت بعجلة القيادة وضغطت أيضاً على دواسة الوقود، في محاولة للهروب من هذا الكابوس. وبعد بضع مئات من الأمتار أوقفت السيارة بالمكابح اليدوية وانتقلت إلى وضع التوقف. لم يتبعهم الجنود، وتوقفت سيارة فيها أربعة شبان كانوا يسيرون في الاتجاه المعاكس ونقلوا بسرعة سُمَية وأسامة إلى سيارتهم. كان أسامة لا يزال يتنفس، لكنه فاقد للوعي.

نقلوا أسامة إلى مركز الكرمل الطبي في بلدة بدَو، حيث استدعى العاملون سيارة إسعاف أسرعت بنقل الرجل المحتضر إلى المستشفى الحكومي في رام الله. تلقت سُمَية العلاج جراء إصابتها بجروح خفيفة وأخبرها الأطباء أن أسامة كان يخضع لعملية جراحية. وفي الرابعة صباحاً فارق الحياة، بيد أن سُمَية لم تعلم بوفاته إلا بعد مرور ساعتين.

صوب الجندي بندقيته عليهم وصرخ: “لماذا لم تتوقفوا؟”، رد عليه أسامة، الذي كان يتحدث اللغة العبرية: “لماذا تصرخ في وجهي؟”. ثمّ سألهم الجندي عن محل سكنهم والمكان الذي يذهبون إليه، لكنه لم يطلب رؤية بطاقات الهوية أو وثائق تسجيل السيارة. 

وصل الجنود إلى السيارة التي أطلقوا عليها وابلاً من الرصاص بعد 15 دقيقة من الحادث، وأخذوها بعيداً. ثم توجهوا إلى المتاجر والمباني السكنية في المنطقة القريبة وأزالوا كاميرات المراقبة، بما فيها تلك الموجودة في متجر عائلة غنايم، غير أن الهدف من ذلك غير واضح. فضلاً عن أنهم كلفوا أنفسهم عناء جمع فوارغ الطلقات من الشارع، وأفاد الشهود بأن نحو 50 طلقة نارية قد أُطلقت على سيارة عائلة منصور. وقد عثر باحث منظمة “بتسيلم” الميدانيّ إياد حدّاد على سبع رصاصات فارغة غفل الجنود عن جمعها.

نُقلت جثة أسامة إلى معهد الطبّ العدليّ في بلدة أبو ديس، خارج مدينة القدس، حيث تم تشريح الجثة. وعلى رغم أن التقرير الطبي للوفاة لم يصدر بعد، فقد أصابت رصاصة واحدة فقط رأسه كما هو معروف.

ولم يلبث جيش الدفاع الإسرائيلي أن أصدر بياناً جاء فيه أن سائقاً فلسطينياً نفذ محاولة دهس بسيارة، وأن السيارة اندفعت مسرعةً نحو الجنود وعرضت حياتهم للخطر.

طرحنا على مكتب المتحدث باسم الجيش أسئلة عدة: هل ما زال جيش الدفاع الإسرائيلي يُصر على رواية أنه كان هناك هجوم من خلال محاولة دهس بسيارة؟ وهل استجوبت الشرطة العسكرية حتى الآن الجنود المتورطين في تلك الواقعة؟ وإذا كانوا يعتقدون أنها كانت محاولة دهس بسيارة، فلماذا لم تسارع القوات إلى ملاحقة السيارة من أجل القبض على الجناة؟ وقد كانت الإجابة على جميع هذه الأسئلة هي: “في أعقاب هذا الحدث، بدأت الشرطة العسكرية إجراء تحقيق، وستحال النتائج في ختام هذا التحقيق إلى مكتب المدعي العام العسكري”.

قال رئيس بلدية بدّو سالم أبو عيد، لصحيفة “هآرتس”: “إنها جريمة، ليست ضد أسامة فحسب، بل وأيضاً جريمة بحق زوجته وأطفاله الخمسة. فقد قضى الجنود على حياة سبعة أشخاص، وليس مجرد قتل شخص واحد فقط”.

تُزين أزهار الأُقحوان التي زرعها أسامة ساحة المنزل. بينما تجلس ابنته بَيْلَسان التي تبلغ من العمر 13 ربيعاً متشحة بالسواد، تعلو وجهها نظرات الحزن والأسى، إلى جانب أخيها الأكبر محمد البالغ من العمر 15 سنة. البَيْلَسان هو نبات ذو أزهار بيض، يُستخرج منه العطور والبخور. يقول أحد أفراد العائلة إنه لا يمكن العثور على شجر البَيْلَسان الآن إلا عبر الجدار العازل، في الأراضي التي استولت عليها إسرائيل.

تُريح نيسان البالغة من العمر عشر سنوات رأسها في حضن أمها، تماماً مثلما فعل والدها في لحظاته الأخيرة. وتتعمد نيسان أن تغطي وجهها بهاتفها المحمول، كما لو أنها تنأى بنفسها عن الاضطرار إلى سماع، مراراً وتكراراً، ما حدث لوالديها في تلك الليلة المشؤومة التي فقدت فيها والدها، على الأرجح لأنه لم يرتكب أي خطأ.

هذا المقال مترجم عن Haaretz.com ولقراءة المادة الأصلية زوروا  الرابط التالي.

إقرأوا أيضاً: