fbpx

سوسيولوجيا القطارات في مصر : الراكب مفقود والنازل مولود

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على رغم ريادة مصر عالمياً في استخدام هذا المرفق بعد بريطانيا، إلا أن الإهمال الجسيم والفساد داخله، يتسببان في توقف المسافرين عن استخدامه، فأنا ومعي ملايين المواطنين ممن يستخدمون القطارات في تنقلاتهم بتنا نخشى على حيواتنا من استخدام القطار، فالراكب مفقود والنازل مولود.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“الحوادث المتكررة ستكون نتيجتها إما زيادة أسعار تذاكر القطارات المميزة، أو خصخصة هيئة السكك الحديدية”. 

خرج الرّد تلقائياً من فمي بعدما سألني صديق عن رد فعلي مع تكرار حوادث القطارات في مصر وآخرها مأساة قطار سوهاج الذي خلف أكثر من 200 إصابة بين قتيل وجريح. وفعلاً تحقق حدسي. 

تآلفنا في مصر مع صدور قرارات حول رفع الأسعار أو الخصخصة، إثر سلسلة من الحوادث أو الأزمات، بحيث يُلقى باللوم على موظفي الحكومة المُتكاسلين أو ضئيلي الخبرة، ويُمهد الإعلام الأمر أمام المواطنين بأن لا سبيل للتخلص من هذه الأزمة إلا بالبيع أو رفع سعر الخدمة المقصودة أو خصخصتها، وهو سلاح ذو حدين يستخدمه “الدولجية” (مروجو الدولة/النظام) والمسؤولون والوزراء للدفاع عن قرارهم الذي يلاقي رفضاً وغضباً شعبياً واسعاً.

القطار… صورة مصغرة عن المجتمع  

في الواقع أنا عميل مُخلص ودائم لدى هيئة السكك الحديدية، فالقطارات هي وسيلة نقلي خلال رحلات عملي الأسبوعية، أستقلها ذهاباً وإياباً مرتين أسبوعياً، تتخللها أحياناً رحلات يومية قصيرة وسريعة، فإضافة إلى أنه أرخص نسبياً، فالقطار هو أيضاً مساحة تفاعل ثرية مع حكايات وأشخاص يحمل كل منهم ما يستحق أن يروى.

القطارات هي بوصلة المجتمع المصري، فهي نسخة مكثفة من كفاح المصريين مع أحلامهم ومعاناتهم الدائمة مع الحياة ومرآة لصراعات طبقاتهم. في كل رحلة هناك قصص إنسانية دسمة تستخلصها من أحاديث الركاب الجانبية، تحتك بمجتمعات وشخصيات ربما لم تلتقِ (ولن) بها أبداً في حياتك، عشرات الأفكار والموضوعات الصحافية استنبطتها خلال رحلاتي داخل القطار، لكن هذا العالم اكتشفته في الفترة الأخيرة.

 لم أكن من محبي ركوب القطارات التي تستهلك وقتاً أطول من “الميكروباص” أو “الباص”، لكن مع تكرار حوادث السيارات أوصاني والدي بعدم ركوب السيارات مجدداً والالتزام بركوب القطارات، حينها اكتشفت عالماً مصغراً، في كل رحلة وكأنني أشاهد عملاً سينمائياً أو درامياً، بخاصة عندما أركب القطارات العادية – غير المكيفة. فهي خيار الطبقة محدودة الدخل من المصريين، والخيار الأول للطلاب والموظفين والعمال باعتبارها الأرخص سعراً والأكثر راحة لهم، فيجدون فيها متنفساً بالحديث لرفقاء لا يعرفونهم. يشكون لهم ما تضيق به صدورهم، وحالهم في الدنيا، ثم تتفرق بهم السبل فلا يشقى الشاكي بما أفصح عنه من أسرار، فلن يصادف المستمع مرة أخرى، كأن سره لم يُفشَ. 

اضطررت بسبب جائحة “كورونا” وظروف العمل أن أُقلل رحلات سفري، وفعلياً فأنا أؤجل بعض مهمات عملي منذ وقوع حادث قطار سوهاج، خوفاً من تكرار الأمر، لا أنكر سوء حالة القطارات ومنظومة التشغيل بأكملها، لكن ليس هذا مبرراً لوقوع قرابة 5 حوادث خلال 3 أسابيع فقط، هناك شيء وراء ذلك. 

مشكلات القطارات ومنظومة السكك الحديدية عموماً متشابكة ومتداخلة، فهي نموذج مصغر لشبكات الفساد والوساطة والمحسوبيات، بدءاً من شباك التذاكر وصولاً إلى القضبان التي يسير عليها القطار. 

إقرأوا أيضاً:

سوق سوداء لبيع التذاكر خلال المواسم والأعياد 

لن تتمكن من حجز تذكرة في القطار الذي ترغب فيه إلا قبل موعد الرحلة بوقت طويل يمتد أحياناً لأيام، وإلا فأنت تحتاج إلى وساطة حتى تتمكن من الحصول على تذكرة، فموظف قطع التذاكر يجبر الركاب على قطع تذاكر الدرجة الأولى بقطارات الـvip  الأغلى سعراً أولاً ثم تذاكر الدرجة الثانية، بعدها يُخرج تذاكر القطارات المكيفة من الدرجة الأولى ثم الثانية. وفي المواسم والأعياد فليس أمام ركاب القطارات إلا قطع التذاكر في مواعيد بعينها تحددها الهيئة لقطع تذاكر القطارات خلال الأعياد، ويكون الزحام حينها على أشده، أو الاستعانة بموظف كبير داخل الهيئة للحصول على تذكرة داخل عربات “العلاوة”، وهي عربة أو اثنتان تضافان إلى القطار خلال المواسم والأعياد. والخيار الثالث هو شراء التذكرة من السوق السوداء، إذ يبيع بعض الباعة المتجولين في أرصفة محطات القطار التذاكر خلال الأعياد بأسعار تبلع أضعاف سعرها الأصلي، يحصلون عليها من موظفي حجز التذاكر مقابل نسبة مُتفق عليها مسبقاً، أتذكر ذات مرة أن موظف حجز التذاكر لم يبع إلا 5 تذاكر فقط للمواطنين داخل عربتي العلاوة، التي يزيد عدد مقاعدها عن 150 كرسياً، وأخبرنا بعدها أن التذاكر نفدت!

بلطجة الباعة المتجولين وغياب الأمن 

ينتشر على أرصفة محطات القطار باعة متجولون يبيعون كل شيء تقريباً: طعام، شراب، ملابس، اكسسوارات وكماليات، و”باور بانك”، وغيرها، يجد هؤلاء القطارات العادية –غير المكيفة- سوقاً رائجة لهم، فكثر منهم مسجلون “خطر وبلطجية” أو سجناء سابقون، يقسمون القطارات بل وعربات القطار في ما بينهم، فبائعو المياه يقسمون عدد العربات التي يبيعون بضاعتهم داخلها، وكذلك الحال مع جميع الباعة الآخرين. يستغل هؤلاء علاقاتهم مع رجال شرطة النقل والمواصلات في بسط نفوذهم وتوسيع دوائر أعمالهم، حتى بات بعضهم “ناضورجي” يكتفي بتسريح بعض البائعين مقابل أجر يومي يتفق عليه مسبقاً. هناك نصيحة يتناقلها ركاب القطار الدائمون “لا تتشاجر أبداً مع بائع”، فعند حدوث مشاجرة بين بائع وراكب يتجمع البائعون لدعم زميلهم ولا تتدخل الشرطة، الممثلة بفردي شرطة برتبة “أمين” يحميان قطاراً كاملاً. أما القطارات المكيفة فيتجول فيها البائعون على حرج، ولا يضايقون الركاب كثيراً، خوفاً من تبعات الأمر، فركاب هذا النوع طبقة اجتماعية أرقى وأكثر نفوذاً، فيما ينعدم البائعون تماماً داخل القطارات الـvip فركاب هذه القطارات هم الطبقة الاجتماعية الأعلى. 

تعاون ضباط شرطة النقل والمواصلات العاملين بهيئة السكك الحديدية لم يتوقف عند تمكين المسجلين “خطر” والبلطجية من اتخاذ القطارات سوقاً ومرتعاً لهم، بل امتد إلى سرقة خردة السكك الحديدية وبيعها، وهي تتكون من قضبان السكك الحديد المتهالكة وأجسام العربات وغيرها، والتي تبلغ عشرات الأطنان من الحديد، ما يعتبر مصدراً غير مشروع للدخل لدى كثير منهم، علاوة على أن الباعة المتجولون يتسببون في بعض حوادث القطارات، فهم يلجأون إلى استخدام فرامل الطوارئ التي في القطارات حتى يتمكنوا من النزول في قراهم، إذا لم تكن مدرجة على جدول المحطات التي يقف القطار فيها، وكان استخدام مكبح الطوارئ أحد أسباب وقوع حادث قطار سوهاج الشهير. 

رفض السيسي دفع 10 مليارات جنيه لتطوير السكك الحديدية. وقال إنه يفضل وضعها داخل المصارف والاستفادة من أرباحها على تطوير السكك الحديدية، لكن هذا التجاهل يدفع ثمنه مئات المصريين الذين يفقدون أرواحهم على قضبان السكك الحديدية.

السيسي يرفض التطوير وأرواح المواطنين الضحية 

استقال الدكتور هشام عرفات وزير النقل السابق بعد انفجار قطار في محطة مصر الرئيسية في قلب القاهرة، ومقتل 25 شخصاً، وتولى الفريق كامل الوزير –رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة سابقاً- مسؤولية الوزارة بأمر مباشر من الرئيس عبدالفتاح السيسي. أجرى الوزير زيارات وجولات مفاجئة إلى بعض المحطات، رأيت حينها اهتماماً غير عادي بنظافة محطات القطار، حتى مقاعد انتظار الركاب على الأرصفة المصنوعة من الرخام أو “المزايكو” رأيتها تغسل بالماء والصابون للمرة الأولى في حياتي. تبع هذه الجولات رفع قيمة غرامات ركوب القطار بدون تذكرة، فارتفعت من 50 قرشاً إلى 20 جنيهاً في القطارات العادية، ومن 6 إلى 30 جنيهاً في القطارات المكيفة، ومن 6 إلى 40 جنيهاً في القطارات الـvip، وبعدها بأشهر ارتفعت أسعار تذاكر جميع أنواع القطارات بنسبة 30 في المئة تقريباً، ما عدا القطارات العادية التي لم تزد أسعارها.

 خطة التطوير التي أطلقها الوزير تغاضت عن أمور جوهرية تحتم عليه البدء فيها، فقد بدأت الوزارة في التعاقد على عشرات القطارات والجرارات الجديدة قبل أن تفكر في تطوير منظومة الإشارات، التي تستخدم النظام الميكانيكي الذي يعتمد بشكل مباشر على العنصر البشري، فيما تستخدم أكثر دول العالم نظام الإشارات الإلكتروني، الذي يقلل الخطأ البشري، ما يؤدي إلى ندرة الحوادث.. لكن الأمر كان بعيداً من الوزير هذه المرة، فقد رفض السيسي دفع 10 مليارات جنيه لتطوير السكك الحديدية. وقال إنه يفضل وضعها داخل المصارف والاستفادة من أرباحها على تطوير السكك الحديدية، لكن هذا التجاهل يدفع ثمنه مئات المصريين الذين يفقدون أرواحهم على قضبان السكك الحديدية.

خصخصة المرفق 

ومع توالي وقوع حوادث القطارات، زاد يقيني في رفع أسعار تذاكر القطارات أو خصخصة المرفق، حتى أعلن وزير النقل الفريق كامل الوزير أنه تم التخطيط لإسناد أعمال التشغيل والإدارة لعدد من قطارات السكك الحديدية إلى شركات عالمية متخصصة في الإدارة والتشغيل، إضافة إلى تحويل قطاع نقل البضائع في الهيئة إلى شركة مملوكة للدولة بالشراكة مع القطاع الخاص، وجارٍ تحويل بعض ورش السكك الحديدية المتخصصة في إصلاح الجرارات والعربات إلى شركات، لزيادة الإنتاجية ورفع مستويات الجودة.

وعلى رغم ريادة مصر عالمياً في استخدام هذا المرفق بعد بريطانيا، إلا أن الإهمال الجسيم والفساد داخله، يتسببان في توقف المسافرين عن استخدامه، فأنا ومعي ملايين المواطنين ممن يستخدمون القطارات في تنقلاتهم بتنا نخشى على حيواتنا من استخدام القطار، فالراكب مفقود والنازل مولود. 

إقرأوا أيضاً: