fbpx

في “الكوريدور” مع أطفال غزة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أتكوّر وأنا أرى مشاهد الأطفال في البيوت وهم يعيشون في الوقت الفاصل بين قذيفة وأخرى. أضع يديّ على أذنيّ لأسدّهما، محاولاً إسكات صوت هدير الطائرات المغيرة في ذاكرتي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أمي تحمل أخي الأصغر وتصرخ بنا: بسرعة إلى “الكوريدور”. تركض بين الغرف لتتأكد أن الشبابيك مفتوحة. أحاول دائماً أن أسدّ أذنيّ بيديّ لتفادي سماع القذيفة. هدير الطيران أيضاً مرعب. احياناً كنت أحرر اذنيّ لأتأكد أنني لا أزال حياً. كنت أسمع أمي تكرر بفزع آية “السدّ”. ترددها لإيمانها انها تشكّل سدّاً فعلياً ضد القذائف والصواريخ الاسرائيلية. تستخدمها كمضاد أرضي: “فأغشيناهم فهم لا يبصرون”. وقد نجونا، حتى الآن. 

تكرر الأمر عشرات المرات في طفولتنا. في الحروب الكبرى والصغرى وفي القصف اليومي. لكن أطفالاً كثيرين لم ينجو. هل فات أمهاتهم أن يقرأوا آية “السدّ”؟ لا أعلم، لكن صديق الطفولة يوسف جاءته رصاصة قنص في الرأس وهو يلعب في القرية. أبصره الجندي الإسرائيلي وأطلق النار، من دون ان يغشيه شيء. ركض والده به مضرجاً إلى المستشفى. كان الأوان قد فات. أطفال آخرون ماتوا بالقصف. رُدمت منازلهم فوق رؤوسهم. تفحّموا في باصات المدارس. كانت أمي مثل أمهات كثيرات تحاول حمايتنا بما توفر: “ابتعدوا عن الزجاج” تصرخ كلما حاول أحدنا ان يقترب ليلقي نظرة إلى الطيور المعادية وهي تحوم في السماء لتنقّض على فرائسها. 

 أضع يديّ على أذنيّ لأسدّهما، محاولاً إسكات صوت هدير الطائرات المغيرة في ذاكرتي. وأغمض عينيّ علّني أخبّئ الأطفال فيهما وأحميهم بجفنيّ الهزيلين المتعبين.

كان “الكوريدور”، أو الممر الموزّع إلى غرف البيت، أكثر أماكن البيت أماناً بالنسبة إلى أمي. الأقل عرضة للشظايا في حال سقوط قذيفة قريبة. ولا توجد فيه نوافذ مفتوحة على الموت. لكنها كانت تعلم ان هذا “الزقاق” المنزلي الضيق لم يكن ليحمي من صواريخ الطائرات التي تنسف المباني عن بكرة أبيها. لكن لا خيار آخر. لا ملاجئ. وخطر الخروج إلى الطرقات لمحاولة الهرب إلى بيروت بالسيارة أعلى بكثير من البقاء. الموت في كل مكان. والرعب مع العتمة والبسملات في “الكوريدور”. ننام فيه. أو أننا للدقّة، نغلق عيوننا. كنت أنام مغلق العينين والأذنين. لكن رأسي كان دائماً مفتوحاً كفجوة خلّفتها قذيفة في جدار. 

أبي كان أكثر تماسكاً. يخفف علينا الرعب. يخرج احياناً لتدخين سيجارة وبيده سبحته السوداء الطويلة. كان يسبّح ليقتل الوقت بين أصابعه. لم يكن متديّناً. ولا أظنه كان مقتنعاً بقدرة “السد” أو سواه على حمايتنا. كان يفرغ توتره بحبّات السبحة، ليبدو لنا أكثر تماسكاً في مواجهة الخوف. لكنه كان يعود إلى “الكوريدور” عندما يشتدّ صوت هدير الطيران. كانت أمي “تُغير” عليه، قبل أن تباغتنا الطائرات: “فوت لجوّا”. وكان يدخل مسرعاً، مع ابتسامة ساخرة مشبّعة بخوف خجول، يحاول عبثاً أبي ان يخفيه.

أتذكّر هذا الرعب وأنا أشاهد فيديوهات القصف الوحشي الذي تتعرض له غزة. تداهمني الذكريات المؤلمة كلها دفعة واحدة. أتذكّر صور أشلاء الأطفال في مجزرة قانا الأولى وفي الثانية. أتذكّر سيارة الإسعاف في المنصوري. أتذكّر عينيّ يوسف وهو يلعب. وفزع أمي وهي تركض في البيت. وأسمع صوتها طازجاً يقول لي: “بسرعة إلى الكوريدور”. وأفزع، وابحث عن “الكوريدور” لأختبأ من كل هذا الوجع. أتكوّر وأنا أرى مشاهد الأطفال في البيوت وهم يعيشون في الوقت الفاصل بين قذيفة وأخرى. أضع يديّ على أذنيّ لأسدّهما، محاولاً إسكات صوت هدير الطائرات المغيرة في ذاكرتي. وأغمض عينيّ علّني أخبّئ الأطفال فيهما وأحميهم بجفنيّ الهزيلين المتعبين. وتلمع في رأسي ابتسامة أبي الخائفة والحائرة. أسمع تكتكات سبحته وهي تطحن الوقت. وابتسم مثله، لأداري خوفي. لأخفيه حتى عن نفسي. وبدون أن أدري، أجدني أتمتم، بشفاه مرتجفة، وبلا وعي: “وجعلنا من بين ايديهم سدّاً ومن خلفهم سداً…”.

إقرأوا أيضاً: