fbpx

“هجمة مرتدة” جميعكم مُراقبون وداخل مصيدة المخابرات المصرية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“هجمة مرتدة” هو الأقرب إلى ما يمكن اعتباره رسالة مباشرة من جهاز المخابرات المصري إلى الرأي العام، ما دامت أحداثه كما يدعي صناعه مستمدة من ملفات هذا الجهاز.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هل أنت شخص عادي؟ قد ترى نفسك كذلك ولكن جهاز المخابرات المصرية يراك مثيراً للاهتمام. أحدهم قد يسعى إلى تجنيدك. صديقك الذي يعرض عليك عملاً في وكالة أنباء أجنبية تدفع رواتبها بالدولار. رئيستك في العمل إذا عرضت عليك العمل كصحفي حر، “ما دام قالتلك فلوس كتير يبقى أكيد هتعمل عليك شغل!” أحدهم يشك في أنك “أمنجي” نسبة للأمن، أو تتخابر لمصلحة جهات خارجية، أو أنك إخواني سابق في الظاهر ولكنك تعمل مع الجماعة على مخطط تآمري كبير. الكل يراقبك والكل يسعى إلى تجنيدك والكل بالتأكيد يشك فيك، و لا أحد على الإطلاق موضع ثقة حقيقي. أهلاً بك في دنيا المؤامرة، في العالم كما تراه الأجهزة السيادية وكما تريدك أنت أيضاً أن تراه.

تتصدر عبارة “من ملفات المخابرات العامة المصرية” مقدمة مسلسل “هجمة مرتدة” الذي عرض أخيراً. تضع هذه العبارة العمل الدرامي بين مجموعة من الأعمال الدرامية الشهيرة والمؤثرة في تاريخ الإنتاج التلفزيوني المصري التي تناولت قضايا استخباراتية وأمنية، مثل “رأفت الهجان” و”دموع في عيون وقحة”. بالنسبة إلى عدد كبير من المشاهدين كانت هذه الأعمال تقدم ملاحم وطنية مميزة، لانتصارات حققها جهاز المخابرات المصري في مواجهة الدولة “الصهيونية”، العدو التقليدي لمصر. 

في هذا العمل الجديد، ثمة أيضاً إشارات إلى الصهيونية ودولتها، ولكنها تأتي بين مجموعة كبيرة من الأعداء الذين يبقون مبهمين، وبعيدين في الخلفية بينما تتصدر المشهد وجوه مألوفة لأشخاص ومؤسسات عادية: منظمات حقوقية دولية ومحلية، وكالات أنباء ومؤسسات صحافية أجنبية وعربية ومصرية، إضافة إلى لاجئين، ومنظمات إغاثة تعمل كواجهة لأجهزة استخباراتية مختلفة، أشخاص تلقاهم في الطريق، في العمل، في الجامعة، في المقهى. في المحصلة، ليس هناك عدو واحد في صراع له حدود معروفة وأهداف واضحة. ما يقدمه المسلسل هو عالمنا ولكن على هيئة مجموعة ضخمة متشابكة من المؤامرات التي تستهدف المنطقة ومصر خصوصاً.

تعود بنا أحداث المسلسل في بدايته إلى عام 2007، في العراق بعد أربعة أعوام من الاحتلال الأميركي. الشخصية الرئيسية سيف (أحمد عز)، عميل للمخابرات المصرية زرع في العراق، كما سنعلم لاحقاً، قبل الغزو مباشرة مع زميلين له. مهمة سيف وزميليه هي جمع المعلومات عن الجماعات الإرهابية الإسلامية التي نشطت في العراق بعد الغزو. على الجانب الآخر تظهر دينا (هند صبري)، وهي عميلة للمخابرات المصرية أيضاً، تعمل في منظمة دولية غير حكومية، في مقرها الرئيسي في دولة في شرق أوروبا، لم تُسمّى. نقطتا البداية لهما بالتأكيد لهما دلالاتهما المهمة.

 العراق بالطبع يمثل فزاعة الغزو الأجنبي وخطر التقسيم إلى دويلات، وفوضى تنامي جماعات الإرهاب الإسلامي من دون رادع، ما يحول البلد إلى قاعدة للتدريب وإعداد المقاتلين لنقلهم إلى غيره من البلاد. أما شرق أوروبا فهو إشارة واضحة إلى القصة المعروفة عن تدريب نشطاء سياسيين على آليات الاحتجاج السلمي. نقطتا البداية إذاً تشيران بوضوح إلى غاية الأحداث التالية وهي غزل الخيوط المختلفة للمؤامرة الكبرى التي تحاك لمصر والتي سيبدأ تنفيذها على الأرض مع اندلاع ثورة يناير 2011.

مع تتابع الأحداث يعود سيف ودينا إلى مصر التي تصبح الآن موضع التركيز بعد إضراب 6 نيسان/ أبريل 2008. وتبدأ عناصر المؤامرة في التشكل. نتعرف إلى شخصيات لا يحاول صناع العمل إخفاء صلتها بشخصيات معروفة في الواقع. رئيس منظمة حقوق الإنسان الشهيرة والذي يمازح زوجته الأميركية حول تجنيدها إياه. رئيس الحزب الليبرالي المعارض ذو العلاقات الوثيقة بالإخوان. مقدم البرامج الإخواني الذي يعمل في القناة الفضائية العربية ذائعة الصيت. الشاب الإخواني الذي يدعي تركه الجماعة ولكنه يعمل معها، وفي لقائه مع المذيع المعروف يحدثه الأخير عن الدور المهم الذي ينتظره في الأحداث المقبلة. معد البرامج في القناة الفضائية نفسها والذي يبدأ أحد ضباط المخابرات تجنيده ويدعي أولاً أنه ضابط في مباحث الأموال العامة يستعين به للتحقيق في دخول دولارات مزيفة من طريق القناة لضرب الاقتصاد المصري. الصحافي الذي يعمل في وكالة أنباء أجنبية وتحاول إحدى الصحافيات ذات اللهجة الشامية والعاملة في الوكالة ذاتها تجنيده، بينما يعمل في الوقت نفسه لمصلحة المخابرات المصرية. مجموعة الشباب الذين يلتقون في المقهى ويعبرون عن غضبهم لسوء الأحوال، يندس بينهم الإخواني الذي يدعي أنه ترك الجماعة وكذلك إحدى عضوات الحزب الليبرالي المعارض.

إقرأوا أيضاً:

هذه التركيبة للشخصيات المختلفة لا تدع مجالاً للشك في ما تتجه إليه الأحداث، أو في ما سيكون دور كل منهم فيها. وليس أي من ذلك جديداً في أي حال، فما روج له الإعلام الذي أصبح في معظمه مملوكاً بشكل مباشر للأجهزة الأمنية في السنوات الأخيرة، تكرر بصفة مستمرة عن تفاصيل تلك المؤامرة وأدوار منظمات حقوق الإنسان والمؤسسات الإعلامية وأحزاب المعارضة إضافة إلى جماعة الإخوان وبالطبع الجهات الخارجية فيها. 

ما يقوم به سيناريو “هجمة مرتدة” هو تجميع التفاصيل والروايات المختلفة في إطار واحد مع تقديمها بشكل درامي. أضف إلى ذلك عبارة “من ملفات المخابرات المصرية” لنكون أمام رواية رسمية لجهاز سيادي للأحداث المؤدية للثورة تصورها على أنها تنفيذ لمخطط الفوضى الخلاقة الذي يهدف إلى إخضاع مصر لحكم الإخوان المسلمين برعاية غربية.

لا تخاطب أجهزة المخابرات الرأي العام بشكل مباشر، بل تستخدم عادة كُتاباً صحافيين وإعلاميين متعاملين معها لإيصال رسائلها غير المباشرة، والتي تمكن نسبتها إليها على سبيل التخمين. ومن ثم فإن عملاً مثل “هجمة مرتدة” هو الأقرب إلى ما يمكن اعتباره رسالة مباشرة من جهاز المخابرات المصري إلى الرأي العام، ما دامت أحداثه كما يدعي صناعه مستمدة من ملفات هذا الجهاز. فلا شك إذاً في أن الرواية التي يقدمها المسلسل هي تلك التي يريد الجهاز أن تصل إلى المشاهد.

 السؤال الذي لا بد أن يُطرح هو هل هذه الرواية هي ما يصدق فيه رجال هذا الجهاز بالفعل؟ هل ما يرد على ألسنة شخصيات المسلسل التي تصور رجال الجهاز هو حقاً ما يقوله هؤلاء لبعضهم بعضاً في اجتماعاتهم في الواقع؟ إن كانت الإجابة بالإثبات فهذا في الحقيقة يلقي بظلال شك كثيفة ليس على كفاءة هؤلاء فقط بل على كونهم مؤهلين للعمل في مجال الاستخبارات من الأساس.

لا تتعلق المشكلة فقط بمدى قابلية الرواية التي يقدمها المسلسل في مجملها للتصديق، ولكنها تتعلق بالصورة التي يقدمها لجهاز المخابرات ورجاله. فهذه الصورة الكاريكاتورية والعبثية تماماً تظهر هؤلاء وكأنهم يتبنون تصورات ساذجة عن العالم لا تختلف عن أشخاص متوسطي التعليم يتبادلون آراءً انطباعية في المقاهي. هذه الصورة بالتأكيد غير واقعية، والسؤال إذاً كيف ارتضى الجهاز أن يقدمها المسلسل حتى وإن كانت ضرورية لوصول رسالته بشكل تستطيع عقول المشاهدين المفترضين أن تتقبله؟

 لا أحد بعقل سليم يتخيل أن يقدم أي مسلسل درامي ما هو موجود بالفعل في ملفات أي جهاز مخابرات في العالم. ما في هذه الملفات ليس للنشر في أي حال. أجهزة المخابرات ليست معنية بشرح الحقائق للناس. ليس هذا هو دورها بل على العكس تماماً. تقدم أجهزة المخابرات للعامة الرواية التي ترى أن تصديقها يحقق مصالح الدولة كما تراها. ومن ثم فتقييمنا لعمل يخاطب جهاز مخابرات من خلاله الجمهور العام يتعلق بمدى إحكام الرواية ليمكن تصديقها، ومدى إيجابية الصورة التي يعكسها لهذا الجهاز ورجاله. 

لا شك في أن “هجمة مرتدة” فشل إلى حد بعيد في تحقيق الهدفين. فروايته ساذجة إلى حد يصعب معه حتى على المتعاطف معها تصديقها، وصورة الجهاز كما يقدمها أكثر سذاجة، وأسوأ ما قد يوصف به أي جهاز مخابرات في العالم هو السذاجة.

ثمة مشكلة حقيقية في تقديم عمل درامي حول عمل أجهزة المخابرات من دون السقوط في فخ السذاجة. ذلك ما تمكن ملاحظته حتى في أكثر الأعمال التي تقدمها شبكات التلفزيون العالمية نجاحاً. ولكن يتم التغلب على ذلك عادة بالتغليف الدرامي المبهر وإضفاء طابع الإثارة والتشويق، وهي بالمناسبة ليست متوافرة في الواقع بالقدر الذي تقدمه الأعمال السينمائية والتلفزيونية، وكذلك بتقديم جوانب إنسانية شخصية لأبطال العمل تجعلهم أكثر قرباً من المشاهدين.

 “هجمة مرتدة” يفتقد تماماً إلى هذه العناصر. فبناؤه الدرامي مهلهل، وتقديمه للأحداث رتيب وممل وتكراري، وتنفيذه لمشاهد الحركة متواضع، أما الجوانب الإنسانية والشخصية التي يحاول تقديمها لأبطاله فسطحية وباردة ومباشرة ولا تشبه أحداً، يمكن أن تصادفه على أرض الواقع.

المؤسف حقاً أن ما يقدمه المسلسل ليس أقرب إلى أن يصدقه المشاهد من حالة الشك والارتياب، وإحساس المراقبة الدائمة التي لا تحتاج لأن تكون مبررة بأي سبب موضوعي. ومن ثم فالانطباع الذي سيخرج به مشاهد العمل، سواء صدق روايته أم لا، هو أنه يعيش في عالم أقل أمنا مما كان يتصور، وأنه عرضة لمخاطر أكبر مما تمكنه مواجهته، 

ليس هناك سبيل واضح لتجنب مثل تلك المخاطر. أي شخص يلتقيه قد يسعى إلى تجنيده واستخدامه لأغراض لا علم له بها ومن دون أن يعرف ما قد تورط به، وهو نفسه عرضة للشك والاتهام ممن حوله بسبب سلوكيات هي في الواقع اعتيادية تماماً. لا أعتقد أن مثل هذه الصورة للعالم هي ما يرغب من وراء العمل في وصوله إلى مشاهديه، فهي في الحقيقة لا تخدم أي مصلحة للمجتمع أو دولته، والأقرب للتصور أن السعي إلى تجميع أكبر قدر ممكن من الروايات العبثية التي تدين من دون دليل كل من تعتبرهم الدولة في الوقت الحالي أعداءها الداخليين، قد أعمى صناع العمل عن الأثر الحقيقي النهائي لشبكة الأكاذيب والخداع الضخمة التي بنوها في أذهان المشاهدين.

يقاس نجاح أي عمل درامي في المحصلة النهائية ومع تجاهل أي نقد فني له بمعدل المشاهدة الذي يحققه، وأظن أن الشواهد واضحة على مدى تدني هذه المعدلات في حالة “هجمة مرتدة”، مقارنة بغيره من الأعمال حتى تلك التي تمكننا تسميتها بدراما الأجهزة، أي تلك الأعمال التي تعكس رؤى أجهزة سيادية بعينها. 

لا يمكنك أن توصل أي رسالة إلى أحد إن لم تجتذبه إلى تلقيها أولاً، ومن ثم فربما ينبغي للأجهزة أن تعطي “العيش” لخبازه أو أن تسمح له بقدر أكبر من الحرية في خبزه وقبل ذلك أن تختار لإنتاج أعمالها خبازين أكثر مهارة، فإن لم تكن تحترم ذكاء جمهورك فلا أقل من أن تأخذ قدرته على متابعة الأعمال المملة في الاعتبار، ففي النهاية يتقبل المشاهدون أكثر القصص سذاجة وأبعدها من الواقع، ولا يجدون غضاضة في مشاهدة أعمال الفانتازيا والحكايا الخرافية، فقط إن قدمتها لهم في قالب جذاب. بعبارة أخرى إن كنت ترغب في خداعي فربما يكون عليك أن تبذل مجهودا ًأكبر من ذلك حتى لا ترتد الهجمة على صاحبها.

إقرأوا أيضاً: