fbpx

“كأنّه سيعود غداً”…
حكايات المغيبين قسراً في سوريا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا يقلُّ ألمُ فقدانِ المغيبين قسراً مع الوقت، تتكرر الأسئلة ذاتها في كلّ صباح: أين هو؟ هل هو حيٌّ؟ ماذا يأكل، كيف ينام، ماذا يشرب؟ أسئلةٌ تغذيها التخيلات المرعبة عن نهاية الأبناء والأخوة والآباء كما تغذيها الآمال أيضاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“اللحظة الأكثر رعباً كانت عند اتصالي للمرة الثانية به، لكن خطه كان خارج الخدمة”، تصف راما (اسم مستعار) اليوم الذي فقدت فيه عائلتها الاتصال مع أخيها، وتتالت المحاولات، إلا أن هاتفه بقي مغلقاً.

اضطرت العائلة بعد مجزرة داريا عام 2012 إلى مغادرة المدينة، من دون معرفة مصير ابنها، هل توفي تحت القصف أم أن النظام اقتاده إلى أحد سجونه؟ وعلى رغم الوعود الكثيرة منذ اختفائه، إلا أن لا خبر عنه حتى الآن.

هل هو حيّ؟

لكلّ مفقود أو مغيب قسراً حياة تركها خلفه وهي أكثر ما يؤلم هذه العائلات، كآخر سيجارة دخنها، طريقة رمي ثيابه على السرير، هاتفه المحمول، أحذيته، زجاجة عطره، دفاتره، كتبه. تعذّب الأغراض الشخصية عائلات المفقودين، إذ عليها مواجهة الفقدان كلما مرت بالقرب من غرفهم. لم تتخلّ الكثير من العائلات عن الأغراض الشخصية لأبنائها حتى أبسطها كفرشاة الأسنان أو شفرة الحلاقة، يحتفظ كل فرد بالجملة الأخيرة التي قالها له المفقود، تتردد هذه العبارات في كلّ جلسة لاستذكاره، جلساتٌ تنتهي بالبكاء دوماً.

تعيش آلاف العائلات ضياعاً وتخبطاً في ما يتوجب عليها فعله بعد مضي هذه السنوات كلها، هل تفقد الأمل وتسلّم بموت المختفي أم تستمر في بحث عقيم؟ لكنها كلما توقفت عن البحث أو استسلمت شعرت بتعذيب الضمير، فقد يكون المغيّب حيّاً وينتظر أهله في مكان ما. “اقتاد الأمن أخي أحمد منذ خمس سنوات ولا نعلم عنه شيئاً، وحتى اليوم ترفض والدتي العبث بغرفته كأنه سيعود غداً” تقول فاطمة (اسم مستعار).

لا يقلُّ ألمُ فقدانِ المغيبين قسراً مع الوقت، تتكرر الأسئلة ذاتها في كلّ صباح: أين هو؟ هل هو حيٌّ؟ ماذا يأكل، كيف ينام، ماذا يشرب؟ أسئلةٌ تغذيها التخيلات المرعبة عن نهاية الأبناء والأخوة والآباء كما تغذيها الآمال أيضاً، “بحس كل ما رن الهاتف إنه هو”، هكذا تصف أم أحمد انتظارها ابنها بعد خمس سنوات. كل ما تريده هذه الأم هو أن يكون ابنها حيّ في مكان ما، لكنها في الوقت نفسه تقول بتردد: “بس إذا كانوا الانذال عم بعذبوه فالموت أريح، مش هيك؟”.

النساء ضحايا الغياب

فقدت أحلام (اسم مستعار) الاتصال بزوجها بعد هجوم الجماعات الإسلامية المتطرفة على المنطقة الصناعية في مدينة عدرا عام 2013، حيث كان يعمل في أحد معامل الإسمنت، وصلتهم بعض الأخبار بأنه اعتقل مع آخرين كرهائن للعمالة وحفر الأنفاق، وكل ما استطاعوا الوصول إليه هو صورة لزوجها يحمل لافتة كُتب عليها اسمه وتاريخ اختطافه. كانت أحلام قد أنجبت طفلها قبل شهر من تغييب زوجها، اليوم عمر ابنها 8 سنوات. عانت وحدها في تربية أطفالها والانتظار الفارغ، ليقرر والدها في النهاية إجبارها على ترك الأطفال لبيت جدهم وتطليقها من زوجها. تعاني اليوم أحلام وتواجه مصيرها الذي أخذ منها زوجها وأطفالها وسرق شبابها لتختبر باكراً الفقد والخسارة بأقسى أشكالهما.

تعيش آلاف العائلات ضياعاً وتخبطاً في ما يتوجب عليها فعله بعد مضي هذه السنوات كلها، هل تفقد الأمل وتسلّم بموت المختفي أم تستمر في بحث عقيم؟

تخشى سلمى (اسم مستعار) أن تنسى قصة زوجها يوماً بعد آخر، “أخاف أنا أنسى ما حصل، وحين يمر يوم من دون تذكر ما نعيشه أشعر بالعار وأغضب من نفسي”. لا مستقبل لعائلات المغيبين فهم عالقون تماماً في الماضي، تحولت حياتهم إلى سلسلة من البحث والأمل وفقدانه، “لا يمكن الاستمرار، لكن لا حل آخر” تقول سلمى، فالاستسلام يعني التسليم بموت المغيب، لكنهم يحتاجون إلى جثة على الأقل يضعونها في قبر، جثة يقتلون بها أملهم في اللقاء، فالبقاء بين ضفتي الحياة والموت، الأمل واليأس، هو ما لا تقدر عائلات كثيرة على تحمله أكثر.

بعد فقدان والدها باتت لآية ردود فعل عنيفة، رفضت في البداية الذهاب إلى المدرسة وظهرت لديها أعراض شبيهة باضطراب كرب ما بعد الصدمة واضطراب قلق الانفصال وهذا ما جعلها لاحقاً تثير الكثير من المشكلات في المدرسة، رافضة تقرّب أي طفل منها أو التعامل مع أي من رفاقها. تقول والدتها إن أطفالها غير قادرين حتى اليوم على استيعاب فقدان والدهم ومصيره المجهول، أسئلة الأطفال تغدو أصعب في كل يوم، ترافقها مخاوف وقلق من فقدان أمهم أيضاً، فأي غياب قصير لها أو غير مبرر يعني نوبات ذعر وبكاء الصغار.

تُجّار المغيبين قسراً

يبرع النظام السوري في تحويل ديكتاتوريته إلى مورد مربح لأذرعه وضباطه، فباتت قضية المغيبين قسراً تجارة رائجة، وبين ليلة وضحاها تحوّل كل من له صلة بالنظام وقادر على الوصول إلى المعتقلين تاجراً لأخبارهم. ثمن خبر عن مفقود هو حفنة من المال، اتصال واحد قد يكلف الملايين، أمّا رؤية مغيّب لعشر دقائق فستكلف أضعاف هذا، وفي النهاية قد يكون المفقود متوفياً بكل بساطة. في بعض الأحيان تحتاج العائلات إلى التأكد مما إذا كان المفقود لدى النظام أم لا، ليتمكن أهله من متابعة البحث في مكانٍ آخر. اعتقل الأمن السوري أحد أبناء العشائر في مدينة السويداء، لم يعرف ذووه الوجهة التي قيد إليها، تواصلوا لاحقاً مع محامٍ يمتلك شبكة من العلاقات الأمنية وبالفعل تمكنوا من سماع صوت ابنهم في البداية وجاءت الوعود بأنه سيخرج خلال ثلاثة أشهر. أرسلت العائلة مبالغ كبيرة للمحامي، مقابل الإفراج عنه خلال أسبوع، اتصل المحامي بعد يومين ليخبرهم بوفاة ابنهم، هكذا بكل بساطة، عائلة مُنِحَتْ الأمل لثلاثة أشهر ثم خطفوا منها سعادتها إلى الأبد، لم تستطع العائلة الوصول إلى جثمان ابنها حتى وكأن ما حصل مجرد خدعة للحصول على مالهم وقتل ابنهم بعد ذلك!

يقول محمد (اسم مستعار)، “بعنا كل ممتلكاتنا، في البداية باعت والدتي ما لديها من مجوهرات، لاحقاً بعنا سيارتنا ثم بدأنا ببيع أغراض المنزل وصولاً إلى بيع منزلنا على أمل الوصول إلى أبي”. بعد 8 سنوات من اختفائه لم تصل العائلة إلى أي معلومة عن الرجل الستيني، وفي الوقت نفسه خسرت كلّ ما تملك وتعاني من الفقر والبحث الدائم عن منزل للإيجار.

عندما يعلم السماسرة رغبة الأهل في بيع منزلهم أو أثاثه مقابل الوصول إلى خبر عن معتقل، فإنهم يتحكمون في سعر المنزل ويمنحون العائلات مبالغ قليلة مقابل الأثاث، وكأنه لا يكفي هذه العائلات جهنم الانتظار والقلق، بل يتحول الجميع إلى مستغلين يودون الحصول على حصتهم من التغييب قسراً، يتابع محمد: “حين بعت المنزل واجهت صعوبة في الوصول إلى سعرٍ جيد، الجميع يستغل حاجتك الملحة إلى المال ويحاول الحصول على منزلك بثمن بخس”. 

هناك أكثر من 130 ألف مفقود في سوريا، وهذا يعني 130 ألف عائلة، 130 ألف انتظار وابن وأخ وأم وأخت، تُدفن أعمارهم خلف الآمال الكاذبة والصور… 

إقرأوا أيضاً: