fbpx

من قتل نورزان؟ تعالوا لنعدّ الجناة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يقتل نورزان، سكين بيد مجرم وحسب، لقد خنقتها أيضاً أيادي القانون العراقي الأعمى، والمجتمع العشائري الذي أباح لهذه الممارسات أن تصبح طبيعية، حتى تنتهي صامتة بخجل، بحفنة أموال.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا شيء أكثر إيلاماً، من فكرة الكتابة عن امرأة عراقية سقطت ضحية الإجرام وانعدام الحماية والإجراءات الرادعة. 

تختلف القصص، وأساليب القتل، تختلف الأسماء والمدن، وتبقى الفكرة واحدة، كلمة “أنثى” في الجنسية العراقية، لعنة أبدية، على حاملتها.

القصة هذه المرة ليست بعيدة مني “جغرافياً”، في العاصمة بغداد، حيث انتشر خبر يقول “اغتصاب فتاة وقتلها على يد ثلاثة شبان بالسكاكين، في منطقة الجادرية”. 

كانت هذه الكلمات القليلة، كفيلة بأن تختزل مئات القصص المشابهة، التي لم نعرف عنها شيئاً بعد. 

اغتصاب؟ 

إذاً هي تستحق ذلك، يسائل المجتمع ضحيته، كيف تسير في منطقة مثل الجادرية؟ ثلاثة شبان؟ أكيد إنها تعرفهم، تستحق هذه المتبرجة… عبارات لا حصر لها، امتدت في شوارع السوشيل ميديا، وقُتلت نورزان ألف مرة. لم يمض وقت طويل، حتى اكتشف المجتمع أن قاتلها، هو شخص واحد، وأقرب لها مما نتخيل، إنه أخوها، مع اثنين من أبناء عمومتها، لتبدأ الحكاية بالظهور على السطح، حكاية حزينة انتهت بعمر العشرين، لفتاة كادت أن تتنفس قليلاً، بعد عمر من الشقاء والمرارة. 

كثيرات قُتلن بسبب كوب ماء لم يحضرنه أو طعام لم يعجب ذكراً من ذكور العائلة…

قصة صغيرة لفتاة عراقية 

بحسب المعلومات التي ظهرت بعد الجريمة، عانت نورزان واسمها الحقيقي “نور الهدى عبد الصاحب” من تسلط عمها، وتعنيفه لها، بعد وفاة والدها. لم تكن والدتها قادرة على حماية نفسها وابنتها من عم طاغية، يتعامل مع ابنة اخيه، كما لو كانت دمية جاهزة لجمع الأموال. قام بتزويجها وهي في الثالثة عشرة، من شخص يكبرها بالسن، ثم تطلقت منه. عاود تزويجها من شخص آخر، وصفه مقربون منها بأنه كان عنيفاً يضربها بشكل مستمر، ولم تتمكن نورزان من البقاء معه، فعادت إلى عمها وتوسلته لإنقاذها منه، إلا أنه أصر على إعادتها إليه. مجدداً وبعد محاولات عدة وأذى كبير للمرة الثانية، تطلقت. زاد عنف عمها، إلى أن أجبرها على الزواج من ابنه. ضاقت ذرعاً، وهربت، مع والدتها، للعيش في منزل بعيد، ظنتا أن رجال العائلة لا يعلمون عنه شيئا، لكنهم في الحقيقة، كانوا يراقبون جميع تحركات الضحية ومكان عملها، إذ استطاعت بعد الخروج من منزل عمها، إيجاد عمل في مصنع للحلويات، مكّنها من توفير رزق مناسب لها ولأمها.

نورزان

 لم يمر وقت طويل، حتى قرر أخوها وبمساعدة اثنين من أبناء عمها، التوجه نحوها فيما كانت نورزان في حديقة عامة في منطقة “ابو نؤاس” مكتظة بالناس، وقتلها أمام الملأ بطعنات اخترقت جسدها الصغير، لتموت بعد ساعات قليلة. 

فكرة القتل العراقي 

ليس مستبعداً أن تتم تبرئة الشقيق وابني عمه واعتبار الجريمة التي نُفّذت مع سبق الإصرار والتخطيط قضية “غسل عار”. هذا ما يحدث لكثيرات. 

خطر القتل بدم بارد يظلل حياة النساء، طالما أن هناك قانوناً يدعى “غسل العار” يمنح الأب أو الأخ أو الزوج، حق هدر دم قريبته، بكل بساطة، مهما اختلفت القصص. 

أعرف صديقة، تعيش جحيماً لا يمكن شرحه مع أخيها، بعد موت والديها، وزواجه، فاضطرت للسكن معه. يقوم بتعنيفها أمام زوجته وأولاده، يأخذ كل مصروفها الشهري بحجة وجودها في بيته، وكلما ناقشته بموضوع العيش وحيدة أو الزواج، يجيبها: بسهولة أستطيع قتلك، سأخبرهم أنني وجدت شخصاً معك في الغرفة وأخرج من القضية كالشعرة من العجين. 

كثيرات قُتلن بهذه السهولة، ثم رُميت تهمة تلطيخ الشرف فوق أجسادهن، ليخرج القاتل سليماً، رافعاً رأسه بين الناس، يصفق له الجميع، قائلين: هنيئاً لقد غسلت عارك!

كثيرات قُتلن بسبب كوب ماء لم يحضرنه أو طعام لم يعجب ذكراً من ذكور العائلة… يقوم القاتل بعدها بتلفيق قصة تجعله بطلاً لتصبح الضحية مذنبة تستحق ما حلّ بها، وذلك برعاية القانون العراقي والمجتمع.

إقرأوا أيضاً:

من يساعد الضحية؟ 

المقطع الذي انتشر لاحقاً لنورزان وهي تهرب من الموت فيما تسقط على أحد الارصفة، وتناشد المارة، جعلني أبكي لساعات، لقد انتهى زمن “الحنيّة العراقية” وتبددت عبارة “أهل الغيرة” أمام صرخاتها وروحها التي كانت تكافح وتجاهد، لإيجاد يد تساعدها، أو تحملها، أو تتصل بالإسعاف على الأقلّ.

 وقعت الفتاة بين حشد من الجموع ولم يقترب منها أحد. الفيديو وثّق مرور شخصين أمامها وهي تنازع. عبرا الشارع، ولم يسألاها: ما بك؟ 

أما السيارات العابرة فكان يكتفي أصحابها بإبطاء العجلات كلما صاروا قريبين منها، لرؤية الدماء بوضوح ثم يتابعون السير.

صرت أفكّر، هل هؤلاء هم أنفسهم الذين إذا ما احتجتهم للمساعدة في الشارع، سيتوقفون من أجلي؟ لقد مرت بي مواقف عدة، ولمست خلالها معاونة الكثير من العابرين والمارة. من الطبيعي جداً أن يمنحوك المال إذا احتجته من دون أن يعرفوك، وأن يقوموا بتصليح سيارتك إذا تعطلت في الطريق، وقد يساعدونك في حمل أغراضك إذا كنتَ متعباً… لكن أين ذهبت روح المساعدة هذه حينما احتاجتها نورزان؟

العشيرة وما تقدمه 

سريعاً ما أحيطت الجريمة بتبريرات حول قصة “القتل” . علت أصوات منح القتلة أعذاراً في التعليقات، لتبرئة الناس الذين كانوا هناك. معظم  الإجابات رفعت شعار الخوف من العشيرة في عدم مساعدة الضحية! البعض ربط ترك الضحية لمصيرها بأن العراقي لا يحب دخول مركز الشرطة. 

كأن “العشيرة” جعلت من العراقي شخصاً خائفاً وقلقاً، لا يمكنه الالتفات في سيره حتى، لكنني أفكّر، من صنع العشيرة؟ حتى يصل بنا الحال إلى ترك فتاة على الأرض مضرجة بدمائها من دون مساعدة.

هل يمكن أن يصنع أحدهم وحشاً ثم يخاف منه؟ من ساهم بتقوية العشيرة؟ حقيقة أنا لا أفهم كيف أن لإنسان خُلق حراً، أن يربط ضميره، بالعشيرة، لدرجة أنك ترى مشهد قتل فتاة، أمراً طبيعياً، ولا تتدخل، لأنك تخاف من العشيرة. صار العراقي يخشى العشيرة ولا يخشى ضميره الذي سيذكّره مئات المرات بوجه فتاة تحتضر على الرصيف، فهل هذا ما قدمته العشيرة؟ أن تجعل المواطنين جبناء؟ 

لا شيء أكثر إيلاماً، من فكرة الكتابة عن امرأة عراقية سقطت ضحية الإجرام وانعدام الحماية والإجراءات الرادعة. 

المحزن، أن فكرة المجتمع العشائري، ينادي بها عراقيون كثر، رافضين بشكل قاطع، أي تجاوز أو مساس بـ”أخلاقيات” المجتمع. تخاطبنا العشيرة طوال الوقت عن الأخلاق والمبادئ والأصالة واليشماغ والرجولة والنخوة والغيرة. وينتهي الأمر بقتلنا. 

لا ترغب العشيرة في أي فكرة جديدة، لا ترغب في أي تغيير أو رحمة. فأين أخلاق العشيرة في هذا العنف كله. وما رأي العشيرة بمقتل فتاة أمام أعين الناس من دون أن يقدم أحد على مساعدتها؟ وماذا كانت ستفعل بشخص أتى وأنقذ نورزان من الموت؟ هل كانت ستحاكمه؟ لمَ أصبحت “الفصلية والكوامة والدكات العشائرية” أمراً طبيعياً، ومألوفاً، فيما من يحاول المساعدة، يعتبر شخصاً غريباً، مثالياً، وينتظره المجهول؟

كان الأجدر بنا أن نكون بشراً لا مجرد تابعين لفكرة الخوف من العشيرة التي صنعناها نحن و أقاربنا وجيراننا ثم صرخنا: السبب هو غياب القانون! كلا، نحن من دهس رأس القانون، واستسهل العشيرة، حتى صارت رعباً في صدورنا. كل المجتمع شريك في الجريمة، لا القانون وحده. 

قتل جماعي 

لم يقتل نورزان، سكين بيد مجرم وحسب، لقد خنقتها أيضاً أيادي القانون العراقي الأعمى، والمجتمع العشائري الذي أباح لهذه الممارسات أن تصبح طبيعية، حتى تنتهي صامتة بخجل، بحفنة أموال. لقد قتلتها أيضاً أيادي المتمرسين في الحكم، المتفرجين الصامتين على مآسي النساء من دون أن يحركوا ساكناً، وقتلتها أيادي المبررين المدافعين عن القتلة. المجرم أكمل بيديه قتلاً جماعياً نفّذه الجميع، ولم يستطع وحده أن ينفّذ جريمته، لولا وجود الأيادي المساعدة والمحفّزة. لقد حطم كل هؤلاء مستقبل صغيرة، وذاكرتها البريئة، أياد كثيرة هي الممتدة إلى جسد نورزان، ونحن لا نملك سوى أصابع مسكينة، تكتب بخوف وحسرة، فيما يجر القانون علينا ضحكاته، وسخريته. 

ونسأل ببلاهة وحزن، من اليد التالية؟ ومن نورزان التالية؟

إقرأوا أيضاً: