fbpx

الرحيل في زمن الانهيار:
فيصل صفير وداعاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أكتب اليوم عن موت فيصل، بعد ست سنوات من لقائنا الأول، لأوّدع شخصاً عرفته في ساحات التظاهر وساحات النضال في انتفاضة 17 تشرين، التي تركت الكثير من الإحباط خلفها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“بين هجرة وانتحار، قديش صرنا خسرانين ناس”، كتب فيصل صفير على فايسبوك في 23 آب/ أغسطس الفائت، ليعبر عن خيبته وضيقه بالوضع المأساوي الذي وصلت إليه البلاد، وكم بات اليأس يجرف معظم الشباب.

بعدها بأسبوعين، في 10 أيلول/ سبتمبر، يوم تشكيل حكومة نجيب ميقاتي التي أثارت سخط كثيرين لهشاشتها وعدم الثقة بوزرائها. أكثر من عام بانتظار حكومة فأتت حكومة محاصصة، واضح أنها ستعجز عن تحقيق أي شيء. 

فيما كانت تعلو ضجة الحديث عن الحكومة الجديدة، ورد خبر سريع بخجل وسط ضوضاء “العهد” والحكومة. تم العثور على شاب جثة هامدة في منزله في رأس النبع، الشاب اسمه فيصل صفير. ينتهي الخبر بلا تفاصيل، تعود الضجة حول الوزراء الجدد، أشكالهم، طلتهم، سيرهم الذاتية، خلفياتهم السياسية، وأناقتهم أيضاً.

انتحر فيصل صفير أو قتل! 

الروايات كثيرة والتحقيقات لم تنتهِ بعد (وغالباً لا تنتهي في بلد منهار مثل لبنان) والأهل لم يسلموا بأي فرضية، الأصدقاء تحت وطأة الصدمة، فالشاب يعرفه لكل من يشارك في تظاهرات بيروت منذ حرك عام 2015، وربما منذ حملة اسقاط النظام الطائفي عام 2011.

مدير مدرسة، وناشط سياسي، عرف خلال انتفاضة 17 تشرين، ولم يترك خيم الاعتصام إلا عندما أزالتها قوى مكافحة الشغب منذ نحو عام، عندما بدأت جائحة “كورونا” تسيطر على البلاد، كما أنه كان من النشطاء البارزين خلال حراك 2015، عندما ملأت النفايات شوارع بيروت. الحراك حينها كان خجولاً شعبياً مقارنةً بانتفاضة 17 تشرين وشعاراتها، إلا أن فيصل كان خطابه موجّهاً نحو السياسات المصرفية و”سوليدير” (حيث كنا نتظاهر) وكان عالي النبرة منذ ذلك الوقت، عندما كان رياض سلامة ما زال أيقونة الإعلام ويُمنح جوائز، كان فيصل يصرخ أمام مصرف لبنان تنديداً بسياساته وهندساته المالية.

النتيجة، غاب فيصل صفير، ابن الـ34 سنة، المولود في بلدة دير القمر في الشوف، غاب قبل أن يشهد على قيام الدولة التي ناضل لأجلها، غاب وما زال رياض سلامة حاكماً بأمره، غاب وما زالت النفايات تملأ الشوارع، وفلسطين التي أحبها ما برحت تعاني من الاحتلال الإسرائيلي والقتل، ومن هدم المنازل. فلسطين كانت دائماً في قلبه، وعلى رغم الخلاف السياسي معه، في لبنان وفلسطين وسوريا، كانت لفيصل صداقات كثيرة، فهو شخص لطيف، وغير صدامي، وهادئ، عاش حياته بهدوء ورحل بهدوء أيضاً.

“شخص متل فيصل ما بينتحر، مستحيل ينتحر، ليش بدو ينتحر فيصل!”، هكذا يقول أحد أصدقائه هاني عضاضة لـ”درج”، مضيفاً، “إن كان احتمال ألا يكون رحيل فيصل انتحاراً، مهما كان ضئيلاً، علينا أن نواصل التفكير والشك والبحث. كان فيصل شخصاً إيجابياً ومفعماً بالأمل، ولم ترد الفكرة في رأسه من قبل ولم تكن لديه ميول انتحارية. لا أثق بكل التقارير الشرعية أو بتحقيقات الدولة”.

عام 2015، وبعد انتهاء أزمة النفايات، أقام “التلفزيون العربي” حلقة حوارية شبابية، لمجموعة شباب ممثلين عن أحزاب، وكنت موجوداً فيها، إلى جانب شخصين، فيصل صفير وعباس الحاج أحمد. كنا نُسمّى “المستقلين”، لكن هذه لم تكن الحقيقة، فنحن كنا ضد العصابات الحاكمة التي تسمى أحزاباً وبيئات طائفية، أذكر عندما قال أحد المشتركين على الهواء مباشرةً إن رفيق الحريري عمر البلد و”سوليدير”، علت ضحكاتنا في الاستديو بلا توقف.

“فيصل كان صديقاً، ورفيق نقاشات كثيرة، في الجامعة والضاحية والحمراء والتظاهرات، كانت لقاءاتنا سياسية دائماً” هكذا يقول عنه عباس الحاج أحمد، الأستاذ في جامعة ديترويت وصديقه الذي هاجر منذ بضع سنوات. ويتابع: “هو من الأشخاص الصادقين، يؤمن بالعمل الذي كان يقوم به، لا يحب الظهور، ومقرب من الناس، ويفكر بالإنسان قبل الأيديولوجيا التي يؤمن بها”.

إقرأوا أيضاً:

الواقع اللبناني سيئ، وحتى إن كنت من المناضلين سياسياً بوجه الفساد، عليك أن تكتسب مناعة نفسية بوجه هذه السلطة، لأنك تلعب مع مافيات، أما فيصل فكان صاحب إحساس مرهف، والإحساس المرهف في وجه المافيا، في يوم من الأيام إما أن يخلق مناعة معينة، أو أن تستقيل وتهاجر، أو ترحل كما حدث مع فيصل.

في آخر منشورين لفيصل على “فايسبوك“، يمكن أن نرى كيف كان فيصل يبحث عن الله بمفهوم العدالة، والتي يمكن أن تستجيب عملياً لحياتنا، وهذا الشيء لم يحدث، بل دائماً المجرم والمحتال والنصاب هو الذي يتحكم بمجريات الأمور لأنه يستعمل أدوات القتل والترهيب.

يقول عادل إمام جملة في فيلم “الحريف”، “الشخصيات في مجتمعنا تموت على عمر 25، ولكن تبقى على قيد الحياة لعمر السبعين أو الثمانين”، وبالفعل هذا ما يحدث في لبنان، فنحن نواصل الحياة إنما بأحلام مقتولة، ونضطر للتأقلم مع واقعنا هذا، على رغم 4 آب/ أغسطس، والانهيار الحاصل، وغياب المحاسبة… الإحباط يتآكلنا جميعاً مقيمين وحتى مهاجرين.  

أكتب اليوم عن موت فيصل، بعد ست سنوات من لقائنا الأول، لأوّدع شخصاً عرفته في ساحات التظاهر وساحات النضال في انتفاضة 17 تشرين، التي تركت الكثير من الإحباط خلفها.

 لم ننجح. 

 البعض يقول إن هذه الاحتجاجات هي تراكم، والعمل تراكمي. الشيء الملموس إلى الآن هو تراكم الإحباط فينا، يوماً على شكل هجرة صديق أو صديقة، ويوماً على شكل خبر انتحار أحدهم يأساً من الأوضاع، لكن لم نسمع يوماً خبراً عن وزير انتحر بسبب اخفاقه في ملف الكهرباء مثلاً، أو وزير هاجر بسبب عدم قدرته على تأمين أدوية السرطان، أو رئيس جمهورية شعر بأنه تعب وأحبط ولم يستطع أن يكمل الطريق. وحدهم أمثال فيصل ينادون الله، ولا مجيب…   

إقرأوا أيضاً: