fbpx

“عفا الله عمّا سلف”…
هل تُطمس جرائم الحرب في ليبيا؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا يكاد الحزن يفارق معظم العائلات في ترهونة، ففي كل منزل مفقود أو مغدور أو مغدورون برصاص ميليشيات الكانيات حتى إن واحدة فقط من تلك المآسي تختزل حجم بلطجة تلك الميليشيات وجبروتها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تقول خلاصة تقرير أعدته لجنة خبراء أممية في الأسابيع القليلة الماضية، وشمل مسحاً استقصائياً للتجاوزات والانتهاكات التي ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في ليبيا منذ عام 2016، إن كل أطراف الصراع المحلية والأجنبية تورطت بشكل ما في تلك الجرائم التي طاولت خصوصاً مدنيين وسجناء ومهاجرين.

اللجنة الأممية قالت أيضاً إن لديها أدلة على ارتكاب تلك الأطراف جرائم حرب، إلا أنها أعلنت في المقابل أن قائمة بأسماء الأفراد والجماعات المحلية والأجنبية التي تتحمل المسؤولية عن تلك الانتهاكات، ستبقى سرّية ولن تظهر إلا عند الحاجة إلى نشرها أو مشاركتها مع هيئات دولية قادرة على محاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات.

اختيار عدم نشر القائمة أو كشف أسماء من تورطوا في جرائم حرب في ليبيا وهي قائمة تضيق بمن فيها، بقدر ما يضيق صدر الليبيين بمن يجولون من المتورطين في تلك الجرائم، طلقاء في الشوارع بلا محاسبة، بل إن كثراً منهم يتولون مسؤوليات أو يظهرون في الإعلام باستمرار أو يستعدون للترشح في الانتخابات العامة (الرئاسية والتشريعية)، هذا الاختيار قد يعود على الأرجح إلى حساسية المرحلة والرغبة في إنجاح مسار الانتقال الديموقراطي. 

الأمم المتحدة وهي الطرف الذي يرعى المسار الانتقالي ويحرص على تنفيذ خارطة الطريق التي يفترض أن تتوج بانتخابات عامة في ليبيا، ربما تُقدر أن الظرف لا يسمح بنبش سجلات الانتهاكات الواسعة حتى لا تشوش على العملية السياسية المربكة أصلاً، والتي لم تغادر متاهة سجالات القاعدة الدستورية والقانون الانتخابي.   

في نهاية المطاف تبقى هناك مسؤولية قانونية وأخلاقية على عاتق الهيئة الأممية لكشف “المستور”، وبعض منه معلوم، فأمراء الحرب في ليبيا هم أيضاً جزء من المعادلة السياسية المتشابكة والمعقدة.  

مسار المحاسبة القانونية دولياً أو محلياً يبدو مساراً شديد التعقيد بقدر حالة تداخل المصالح الإقليمية والدولية وصراع النفوذ في ليبيا بين الأطراف الأجنبية المتدخلة وهي ذاتها “متورطة” في جرائم الحرب التي تتحدث عنها لجنة التحقيق الأممية، ما يجعل الحديث عن تحقيق العدالة لذوي الضحايا أشبه بالسراب. 

هل تُمحى الجرائم؟

شق من الليبيين يعتقد أن الخوض في الماضي لن يفيد ليبيا في شيء وأن المصلحة العليا تقتضي طي الصفحة والتركيز على المستقبل والتأسيس لمصالحة وطنية وهي غاية المنى إن تحققت.

المصالحة الوطنية برزت في الفترة الأخيرة كمقاربة سياسية على قاعدة “عفا الله عمّا سلف”، ولتُترَك الأمور السالفة بكل عناوينها للتأريخ ولتكن حافزا للبناء بمنطق أن النبش في الماضي لن يكون سوى ضرب من ضروب العبث يُثبط العزائم ولا يُخرج ليبيا من دوامة العنف ومتاهة “الدم لا يَبرُد”.

شق من هذه المقاربة أفضى إلى إطلاق سراح عدد من رموز نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، ومن ضمنهم نجله الساعدي وقبله سيف الإسلام الذي طفا اسمه كأحد المرشحين المحتملين للانتخابات الرئاسية، في حين أن عدداً من رموز النظام السابق متهمون دولياً ومحلياً في قضايا تشمل ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية شأنهم في ذلك شأن كثير ممن كانوا من إفرازات ثورة فبراير 2011.

ثمة قناعة بأن القذاذفة بثقلهم القبلي وارثهم السياسي لا يمكن إقصاؤهم من الخارطة السياسية وأنهم جزء من المشهد بغض النظر عما نسب إلى من تولوا منهم مسؤوليات في عهد النظام السابق من جرائم، وأن الإقصاء لن يكون عنواناً للتأسيس وبناء الدولة.

وما انطبق على رموز نظام القذافي يُراد له أيضاً من بعض الأطراف، أن يُسْحب على أمراء الحرب وقادة الميليشيات الذين تقول الأمم المتحدة إنهم مسؤولون عن جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية وذلك حتى يُسار إلى مصالحة وطنية شاملة تُنهي حالة الجمود السياسي وتدفع ليبيا إلى بر الأمان عبر انتخابات حرّة.

وقد يؤسس منطق “عفا الله عما سلف” لمصالحة وطنية شاملة، لكن من الصعب جداً محو جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية من ذاكرة باتت مثخنة بالجراح والآلام.

الجرح الغائر… ترهونة نموذجاً

ترهونة مدينة الـ65 قبيلة وقاهرة الاحتلال الإيطالي والتي تتزاحم فوق ترابها الخصب وتحته، القصور والمستوطنات الرومانية ومعاصر الزيتون الحجرية والمحاجر وكسّارات الصخور… المدينة التي كانت شامخة بإرثها التاريخي وصخب أسواقها وطباع السلم لدى أهلها، تقف اليوم بما اكْتُشف فيها من مقابر جماعية، شاهدة على جريمة العصر وعلى حجم ما ارتكب فيها من فظاعات.

المدينة الواقعة أدنى قليلاً من 100 كلم من العاصمة طرابلس، هي واحدة من مدن ليبيا التي تعرضت منذ عام 2012 لأبشع عمليات الترويع من قتل وخطف وتعذيب وإخفاء قسري ونهب للممتلكات واعتداءات لم يسلم منها الصغير ولا الكبير، وعمليات ابتزاز مالي تحت الحراب والتخويف، بعدما سيطرت عليها ميليشيات الكانيات عام 2012 قبل أن تفرّ منها في العام الماضي لتتوارى في المنطقة التي يهيمن عليها العسكر بقيادة رجل الشرق القوي خليفة حفتر.

لا يكاد الحزن يفارق معظم العائلات في ترهونة، ففي كل منزل مفقود أو مغدور أو مغدورون برصاص ميليشيات الكانيات حتى إن واحدة فقط من تلك المآسي تختزل حجم بلطجة تلك الميليشيات وجبروتها، إذ تشير رواية من أهالي المدينة إلى أن عناصرها ومعظمهم إخوة من عائلة واحدة أو من عائلات تحمل لقب “الكاني”، نكلوا بشخص وأعدموه فقط لأنه لم يحضر جنازة أو لم يقدم لهم التعازي في مقتل أحد أفرادهم.

رواية تشبه ما يتم تناقله عن زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون الذي قيل إنه أعدم مسؤولاً بدا أنه لم يُصفق بحفاوة كافية على إحدى خطاباتها… والعهدة على الراوي.

كثر من قادة الميليشيا قُتلوا أو فروا إلى الشرق حيث سطوة رجل الحرب خليفة حفتر الذي يقال إنه كان يعتمد عليها في الهجوم الذي شنه في نيسان/ أبريل 2019 على العاصمة طرابلس.

ما توفر من معلومات من مصادر متطابقة يشير إلى أن ميليشيات الكانيات برزت بداية ضمن عملية ثأر حيث أبادت عائلة بأكملها بنسائها ورجالها وأطفالها انتقاماً لمقتل أحد أفرادها، ومن هنا بدأت قصة تَشكُل قوة الرعب في ترهونة التي ازدادت شراسة بعدما حظيت بدعم حفتر وبعد سيطرتها على مقرّات وأسلحة بعضها يعود لكتائب القذافي. 

الشهادات من قلب ترهونة تقول أيضا إن ميليشيات الكانيات ارتكبت جرائم إبادة جماعية بتصفيتها 13 عائلة من المدينة.

إقرأوا أيضاً:

الدم لم يبرد في ترهونة فمن حين إلى آخر يتم الإعلان عن اكتشاف مقبرة جماعية جديدة، فيما تستمر فحوصات “دي ان اي” لتحديد هويات الجثث وتقف عائلات المفقودين وعددهم بالمئات تتفحص تلك الجثث لعلّها تستطيع التعرف إلى ذويها.    

ميليشيات الكانيات التي استقطبت عشرات الخارجين عن القانون عاثت فساداً وقتلاً وترهيباً، وأبادت عائلات كاملة، لم يعد لها أثر اليوم في ترهونة، إلا في مقابر جماعية يتم كشفها من حين إلى آخر وقائمة طويلة من المفقودين من رجال ونساء وأطفال… لم يعد لها أثر إلا في روايات تدمي القلوب لعائلات فقدت أفراداً منها ولا تعلم مصيرهم إلى اليوم.

والكانيات واحدة من عشرات الميليشيات التي تركت وراءها إرثاً مروعاً يختزل سنوات من الفوضى والقتل والتعذيب والتهجير القسري. إرث أشاع كذلك مخاوف لدى أهل ترهونة من أن تدفع التسويات المطلوبة لإتمام الاستحقاق الانتخابي إلى التغاضي عما ارتكب من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

ومع اقتراب الانتخابات العامة، بدأ القلق يساور أهالي ترهونة من أن يُسار ليس إلى طمس سجلات تلك الجرائم وحسب، بل ووصول بعض ممن يشتبه في ارتكابهم تلك الجرائم إلى مناصب عليا في “الدولة الجديدة الموعودة”.

التسويات السياسية التي تضع إجراء الانتخابات العامة هدفاً، قد تفتح فعلاً الباب لتنازلات ربما تشمل طي صفحة الماضي بكل مآسيها وهو ما يعني عملياً إفلاتاً من العقاب والمحاسبة عن كل ما ارتكبته أطراف محلية وأجنبية من جرائم وفظائع.

في الساحة الليبية تتزاحم قوى أجنبية وآلاف المرتزقة كانوا وما زالواطرفاً في الصراع المسلح الذي هدأ ضجيجه لكن لم تهدأ ارتداداته وقد لا تهدأ.

الاهتمام اليوم وفي خضم ركض محموم وراء إنقاذ العملية السياسية من الانهيار، ليس محاسبة تلك القوى ولا المرتزقة التي تقول مصادر ليبية إنهم ارتكبوا فظاعات بخاصة في غرب ليبيا مع تقهقر قوات الشرق بعد تدخل عسكري تركي، بل الدفع إلى انسحابهم.

وتتجمع أسر القتلى والمفقودين كل يوم سبت في الميدان الرئيسي في المدينة، حيث ما زالت مبانٍ كثيرة تحمل آثار الحرب من دمار وحرائق، للمطالبة بتحقيق أوسع نطاقاً وبذل جهود أكبر لمحاكمة منفذي عمليات القتل.

وعلى مقربة ما زال عمال يعكفون على استخراج جثث من تحت طمي ترهونة الأحمر وقد استخرجوا بالفعل 203 جثث وتعرفوا إلى هويات 52 منها. وقدم سكان المدينة 375 بلاغاً عن اختفاء أشخاص حتى الآن.

ترهونة أصبحت مثقلة بالأحزان وبجراح غائرة تصعب لملمتها وتضميدها وهي نموذج يمثل إلى حدّ ما حال مدن ليبية كثيرة مرّ عليها أمراء الحرب، فهل يطمس منطق “عفا الله عمّا سلف”  ما تعرضت له من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من باب التسويات السياسية.

خلف قضبان سجون سرية وأخرى تابعة للدولة ومراكز احتجاز تابعة لميليشيات بعينها وأيضاً في مراكز احتجاز المهاجرين، تتشكل مآس أخرى… بعض المعلومات التي أفصح عنها تقرير لجنة الخبراء الأممية أشارت إلى ممارسات تتم على نطاق واسع في تلك الأقبية والمراكز ترقى إلى جرائم ضدّ الإنسانية وتشمل صنوفاً من التعذيب الجسدي والنفسي من دون حسيب ولا رقيب.

انتهاكات أخرى منسوبة إلى قوى أجنبية وإلى مرتزقة تم جلبهم سواء في غرب ليبيا حيث يتمركز مرتزقة سوريون كانت جنّدتهم تركيا للقتال دعماً لحكومة الوفاق السابقة في مواجهة هجوم قوات حفتر، أو هم مرتزقة روس وتشاديون وسودانيون في شرق ليبيا استعان بهم حفتر في هجومه على طرابلس.

كيف سيحاسب هؤلاء على ما هو منسوب إليهم من انتهاكات؟ وهل نستطيع قانونياً محاسبتهم وملاحقتهم عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أم سيطلب منهم الانسحاب و”عفا الله عمّا سلف”؟

إقرأوا أيضاً: