fbpx

بعد منعه في دول خليجية… مصر ترفض
فيلم “الأبديون” لاحتوائه شخصيات مثلية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تعاونت الرقابة على المصنفات الفنية للقضاء على حرية الإبداع بتبني أفكار الدولة “المحافظة” تجاه قضايا عدة، منها الدين وقضايا مجتمعية أخرى وتصدير نموذج “المواطن الصالح” لتقويض حرية الإبداع، أو التناقضات التي تخلق قصصاً لامعة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كاد فيلم “الأبديون” (بطولة النجمتين العالميتين أنجلينا جولي وسلمى حايك) يعرض في مصر، في سينما “أي ماكس” لكن حصلت تدخلات غير معلنة ليصدر قرار بمنع طرحه بحجة “مخالفة القيم المجتمعية”. 

بهذا انضمت مصر إلى سلسلة الدول العربية التي اتَّحدت أخيراً وراء كلمة موحّدة، وهي منع عرض الفيلم على أراضيها لأسباب دينية. بدأت بالمنع دولة الكويت مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، وأعقبتها المملكة العربية السعودية، ولحقت بهما قطر، ثم مصر.

يدور الفيلم في مقطع زمني يتبع أحداث Avengers: Endgame، الذي طرح عام 2019، ويحكي قصة مأساة غير متوقعة تجبر الكائنات الفضائية القديمة التي تعيش على الأرض سراً منذ آلاف السنين على الخروج من الظل، ولم الشمل لأجل القتال ضد أعداء البشرية لحماية الكوكب من الخطر الخارجي. وفي وسط المعركة، تظهر مشاهد مثلية بين بطلين يحبّان بعضهما منذ 3 آلاف سنة، رأت جهات الرقابة في الدول العربية أنها خطر على المجتمعات، فقررت منع الفيلم. 

جاء في تقرير صحيفة “هوليوود ريبورتر” الأميركية، أن شركة “مارفل ستوديو” المنتجة لفيلم “الأبديون” تلقت طلباً عربياً لحذف المشاهد المتعلقة بشخصيات مثلية الجنس، لكن الشركة رفضت، ولم يكن معروفاً أي الدول العربية هي التي تقدمت بهذا الطلب، حتى كشف مصدر داخل جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، أنها مصر، ونتج عن موقف الشركة، التي رفضت أي حلول وسطى، حظر عرض الفيلم نهائياً في مصر لكونه “غير مناسب لطبيعة المجتمع المصري وأخلاقياته”.

ومن بين أسباب المنع أيضاً، إشارات أبطال الفيلم إلى السماء وتوجيههم الخطاب إلى الإله بصورة واضحة، المشهد الذي استفز “جهة ما” في مصر ودفعها إلى وضعه ضمن أسباب المنع، على رغم أن هذا المشهد الذي ظهر سابقاً في السينما المصرية، خلال فيلمي “بحب السيما” و”بالألوان الطبيعية” تم تمريره على مضض.

لم يكن الموقف غريباً، بالنسبة إلى الكويت، التي تتمتّع بفصيل إسلامي قوي يشكّل كتلة داخل البرلمان كما أنها دولة خليجية محافظة، وقطر التي تساند الإسلام السياسي وتستوعبه على أراضيها، والسعودية ذات التاريخ الطويل من العداء للفن، لكنه بدا غريباً في مصر، التي قدَّمت العلاقات المثلية عبر تاريخها في عدة أفلام، أبرزها “حمام الملاطيلي” في السبعينات، و”عمارة يعقوبيان” (2006)، و”أسرار عائلية” (2013).

 لم يكن القرار متوقعاً حتى منعته دول خليجية، لتجد مصر نفسها وحيدة، فتقرر المنع هي الأخرى، لتقدم دليلاً جديداً على التبعية الفنية للخليج بأفكاره المحافظة حتى لا تخرج عن النسق الذي وضعته لنفها لتبقى في خانة واحدة مع السعودية والإمارات ثقافياً واجتماعياً، وهي الطريقة التي يحافظ بها الرئيس عبد الفتاح السيسي على التقارب… يحدثُ تقارب في المستوى العقلي والثقافي حتى تشعر البلدان أن مصر تصلح كـ”ملعب خلفي” يمهّد الطريق للسياسي والاقتصادي. 

الأبديون… الحجة الأخيرة على “الرقابة الفنية”

يضع منع فيلم “الأبديون” من العرض في مصر أيدينا على السينما والدراما المفضلة للنظام الحاكم، إذ إنه يجد فيلماً يروي سيرة خيالية لكائنات فضائية بينها شخصيتان مثليتان جنسياً بما يخالف المعايير المجتمعية والأخلاق، ويرى في فيلم “ريش” الذي حاز جوائز دولية، أنه يشوّه سمعة مصر وإنجازات مشروع “حياة كريمة” الذي يتبناه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ويعتبر فيلم “آخر أيام المدينة” مشاهد سينمائية تضرب بعنف في قلب الفساد في القاهرة، على رغم أن مخرجه تامر السعيد لم يكن يرصد سوى حالتي الحلم والتمرد في مصر. 

ولأن قرارات المنع دائماً ما تكون غير قانونية ولا تستند إلى حجة حقيقية، حصل مخرج فيلم “آخر أيام القاهرة” على حكم قضائي بإلزام جهاز الرقابة على المصنفات الفنية بمنحه ترخيصاً بالعرض العام.

وأصبح جهاز الرقابة على المصنفات الفنية في مصر، بمرور الوقت، مقصاً غليظاً يحذف ويمنح ويمنع دون مراعاة للسياق والظروف والحالة الفنية التي يصنعها أي عمل، والأكثر من ذلك أنه تحول إلى ذراع فني لنظام سياسي.

في عام 2018، منح فيلم “كارما” للمخرج خالد يوسف ترخيصاً بالعرض، وبعد شهرين (قبل العرض في صالات السينما بيوم واحد)، أصدر قراراً بسحب الترخيص دون أسباب تفصيلية، اكتفى الجهاز بالإشارة إلى أن العمل مخالف للشروط دون تحديد طبيعة تلك المخالفات. كان السرّ في ذلك أن المخرج خالد يوسف أطلق تصريحاً ما ليس على هوى النظام المصري، وبعدما كثر الحديث حول “النيات الانتقامية” لجهاز الرقابة على المصنفات الفنية، تدخّلت جهة سيادية لتتراجع الرقابة عن قرارها السابق وتصدر قراراً جديداً بالتصريح بعرض الفيلم.

وفي الأيام الماضية، أطلقت المخرجة المصرية هالة خليل استغاثة عاجلة من تعنت الرقابة على المصنفات الفنية ضدها، طوال 5 سنوات، وطالبت جميع الجهات المعنية بصناعة السينما في مصر بالتدخل لحل أزمة فيلمها الجديد، فقد قامت بتنفيذ كل التعديلات التي طلبتها الرقابة، وعلى رغم ذلك تتعمّد عدم منحِها موافقة على تصوير الفيلم، من دون إبداء أسباب، وهو ما جعل “هالة”، التي تُصنّف ضمن أفضل المخرجات المصريات، تتوقف عن إخراج أي أعمال منذ عام 2018. 

لا تقف هالة خليل في صفوف المخرجات المقربات من النظام المصري بآلته الإعلامية والإنتاجية الضخمة، كما أنها صاحبة مواقف معارضة للوضع السياسي والفني الراهن، لتُصنَّف – في نظر النظام المصري – بـ”المعسكر الآخر” الذي لا يُستحب وجوده ضمن الشركات الفنية التابعة للأجهزة السيادية، حالها في ذلك كحال المخرجة كاملة أبو ذكري، والفنانتين منة شلبي، وبسمة.

إقرأوا أيضاً:

كيف أصبح منع الأفلام قراراً سياسياً؟

ترتبط قرارات جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، بشكل مباشر، بالأحداث السياسية الجارية، ومدى ثقل الفنانين والكتاب والمخرجين، الذين يتقدمون بأعمالهم وموائماتهم مع الأنظمة السياسية، فكان- على سبيل المثال- الفنان الكوميدي عادل إمام يستطيع أن يمرِّر أي عمل، بأي قدر من الجرأة والنقد السياسي، باتصال تليفوني إلى وزير أو مسؤول سياسي، متجاوزاً الرقابة على المصنفات الفنية، وكذلك السيناريست وحيد حامد، وكلاهما كان يرتبط بعلاقات واسعة مع نظام مبارك ورجاله الأمنيين، وتلك العلاقات كانوا يستخدمونها لكبح جماح الرقابة، التي توسّعت للغاية بعد ثورة 25 يناير لمواجهة الأشكال الفنية المختلفة التي خلَّفتها الثورة.

عام 2011، منعت فيلم “المسافر” لعمر الشريف وخالد النبوي بحجة احتوائه على مشاهد حميمية وقال مخرج العمل إنه بسبب دعمه البرادعي، واستمرّ النهج الأمني في التعامل مع الفن، فتلى ذلك منع عرض فيلمي “18 يوم” و”آخر أيام المدينة“، اللذين يوثّقان أحداث الثورة، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، مُنع عرض فيلم “اللي حصل في الهيلتون” بأحد مراكز الفن البديل، وهذه المرة نفذت قوة من الشرطة القرار، اقتحمت مكان العرض وفحصت هويات المشاهدين، وأمرتهم بالمغادرة، ومنعت عرض الفيلم. وبعد عام 2013، مُنع مسلسل “أهل إسكندرية” للسيناريست المصري بلال فضل، بعد موقفه المعارض لـ3 تموز/ يوليو، ليس لشيء في محتوى أو جودة المسلسل، الذي تم تصويره بميزانية مدينة الإنتاج الإعلامي (الحكومية)، إنما لكون كاتبه هو “كاتب معارض”، وأبطاله هم عمرو واكد وبسمة وهشام عبد الله (وهم فنانون معارضون أيضاً).

وتعتمد الرقابة على المصنفات الفنية في ذلك على قوانين، تجعلها أداة للقضاء على حرية الإبداع، وتسهّل استخدام الدولة لها للقضاء على أي وجهة نظر مغايرة، أو تصور مختلف للحياة، وهو ما جعل التعاون بين أجهزة الأمن التي فرضت سيطرتها على نوعية الأفلام والمسلسلات التي تقدّم إلى الجمهور وجهاز الرقابة علنياً، وكانت الذروة الأولى للتعاون بينهما بعد 25 يناير، حين مُنعت جميع الأفلام التي تمجد 25 يناير وتتناولها بصدق من العرض، واتّجه مخرجوها لعرضها في مهرجانات عالمية، أو بثها عبر الإنترنت، أمّا الذروة الثانية فهي الآن. لا تسمح الرقابة سوى بأفلام ومسلسلات تنسجم مع رؤية النظام الحالي للحياة في مصر، وروايته عمّا حصل سياسياً واجتماعياً طوال السنوات الماضية، وما عدا ذلك يكون ممنوعاً من العرض.

بين “مشروع ليلى” و”الأبديون”…

بدأ النظام القائم حكمه بالقبض على 7 نشطاء رفعوا علم المثلية الجنسية في حفل “مشروع ليلى” ليعلن منذ اللحظات الأولى أنه لن يسمح بوجود المثليين، أو بانفتاحهم على المجال العام، أو ظهورهم، وبدأ استهداف مجتمع الميم بأشكال مختلفة، ما بين مطاردات سرية في الشوارع و”تطبيقات المواعدة” من جانب ضباط، ومناكفات أخرى، دون نشر بيانات رسمية، ففي العقلية الأمنية المصرية، لا يوجد سوى ذكور يميلون للإناث وإناث يملن للذكور، لا حلول أخرى، ومن يخالف ذلك يتعرض للسخرية والتعذيب والتنكيل. 

تقول الناشطة الكويرية الراحلة سارة حجازي،إنها حين سُجنت لمدة 3 أشهر احتياطياً بعد واقعة حفل مشروع ليلى، “عذبتها الشرطة بالصدمات الكهربائية والحبس الانفرادي، كما حرضوا محتجزين آخرين على الاعتداء عليها جنسياً ولفظياً، وتعرضت نتيجة لذلك لاضطراب ما بعد الصدمة بعد الإفراج عنها، وهاجرت إلى كندا”.

وعلى هذا الأساس، يدير النظام المصري علاقته بالمثليين، فهو لا يعترف بوجودهم ولا بوجود المثلية الجنسية… وبالتالي، كان عرض فيلم كـ”الأبديون” يضرب في صميم التربية السليمة التي يربّي بها النظام السياسي المصريين حالياً، فهم يجب أن يكونوا شيئاً واحداً، يحملون رأياً واحداً، يشاهدون مسلسلاً واحداً، ويتأثرون بفيلم واحد لا شيء آخر، ويجب ألا يشاهدوا سوى ما يتم تمريره عبر الشركات المملوكة للأجهزة الأمنية. 

سينما نظيفة ووطنية ومحافظة.. ولا شيء آخر

منذ نحو عامين، بدأ إحكام السيطرة على المشهد الفني في مصر، فلم يعد يُسمحُ بتمرير أي شيء يخالف الرؤية الرسمية. لا عشوائيات ولا قبلات ولا مشاهد حميمية ولا خمور ولا سلوكيات متحررة و لا علاقات حميمة، ولا فساتين مكشوفة، ولا اشتباكات بين المواطنين والشرطة… وكأنّ شخصاً ما جلس على مائدة وأمامه جلس مسؤولان كبيران، وقال لهما: أريد أن يتشبع المصريون بالإنجازات والبطولات حتى يدينوا تماما للجيش والشرطة، وأريدهم أنيغرقوا في الحياة المحافظة، أغرقوهم في الأعمال الاجتماعية التي لا تتناول أي مشكلات، لا أريد أن أرى حواري، وعشوائيات، وقرى، ومصارف طافحة، وبلطجة، لا أريد أفكاراً متمردة أو ثورية، أريد فناً بارداً يحرض الناس على النوم، لا بد أن يروا في التلفزيون مصر التي يحلمون بها، لا التي يعيشونها. 

ومنذ ذلك اليوم، يعيش المصريون أوضاعاً قاتمة، بينما يعرض التلفزيون حياة أخرى. أصبحت تلك تيمة لكل ما يعرض على الفضائيات وفي السينمات، أفلام ومسلسلات وطنية تعبر عن بطولات الأجهزة الأمنية، كـ”الاختيار” و”السرب” و”هجمة مرتدة”، و”الممر”، وأعمال أخرى اجتماعية تظهر كل الناس أنقياء كـ”سابع جار”، و”إلا أنا”، و”نصيبي وقسمتك”، و”نمرة اتنين”، و”ورا كل باب”. 

اختفت المسلسلات والأفلام المستوحاة من صفحات الحوادث في الصحف، والقائمة على قصص حقيقية، والتي تتناول الحياة الصعبة للمصريين، وتحدياتهم، ومشكلاتهم، ومشكلات الأقليات كالمسيحيين والشيعة والمثليين والملحدين، فآخر فيلم يتناول أزمات المسيحيين كان “واحد صفر” (2009)، وآخر فيلم يتناول المثليين كان “أسرار عائلية” (2013)، فالتوجه الحالي في إدارة الدراما والسينما يلغي أي مشكلات أو شخصيات أو أي أفعال تخلّ بالحياة المحافظة للمصريين، أو تفتح أعينهم على أشياء لا يريد لهم النظام أن يعرفوها حفاظاً على ما يسميه “القيم المجتمعية”، التي تحولت مخالفتها إلى اتهام يصل بصاحبه إلى السجن، كفتيات “تيك توك” والعابرين والمثليين جنسياً و”والمؤثرين  ومؤدي “الستاند أب كوميدي“… والآن، يصل إلى السينما، حيث يُمنع فيلم “الأبديون” لانتهاكه القيم المجتمعية في مصر.

تعاونت الرقابة على المصنفات الفنية للقضاء على حرية الإبداع بتبني أفكار الدولة “المحافظة” تجاه قضايا عدة، منها الدين وقضايا مجتمعية أخرى وتصدير نموذج “المواطن الصالح” لتقويض حرية الإبداع، أو التناقضات التي تخلق قصصاً لامعة.

إقرأوا أيضاً: