fbpx

سميرة المسالمة تشرّح “الانهيار السوري…
في الصراع على السلطة والدولة والهوية”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“لقد اخترت عن سبق إصرار وتصميم أن أكون مع الشعب السوري، في خياراته في الحرية والكرامة”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أعترف بتعاطفي وبكائي على الهواء (في لقاء على قناة الجزيرة) ألماً واحتجاجاً على قتل أبناء بلدي بأيدي رجال الأمن… وكان طردي من العمل… اتصل بي اللواء علي مملوك، بعد ذلك اللقاء (8 نيسان/ أبريل 2011)، طالباً التراجع عن اتهامي القوات الأمنية بقتل السوريين المتظاهرين، والتصديق على أكاذيب الجهات الأمنية بأن مندسين هم من أطلق النار… وعندما لم يجد وسيلة لإقناعي، قال لي: أنت على الضفّة الثانية.

ظل بيتي محطة يومية لبعض العابثين ممن يحملون البطاقات الأمنية، تارة يبحثون عن سلاح، وأخرى يدّعون أنهم كانوا يلاحقون إرهابياً، لينتقموا لرئيس النظام الذي خيبت ظنه بوقوفي مع ثورة تنادي بإسقاطه، أحدهم ترك لي ذكرى حسب تعبيره في وجهي بإطفاء سيجارته تحت عيني اليسرى… لأتذكر دائماً أن من ينشق عن النظام يصبح وجهه قبيحاً”.

“كان حدثا صادماً ومرعباً عندما قررت إحدى الدوريات تنفيذ حكم إعدام ميداني بزوجي وأولادي… اقتحموا البيت في الواحدة ليلاً… قيدوا زوجي، وأغلقوا الستائر… طلبوا من ابني مجد أن يجثو على ركبتيه ويداه إلى الخلف ووضع أحد العناصر فوهة مسدسه على جبينه، وآخر وضع فوهة بندقيته الروسية التي لقمها على مسمع منه على رأسه من الخلف، طالبين من والده أن يعد حتى الرقم ثلاثة ليصار إلى إعدامه، ووسط موجات من رجاء زوجي لهم أن يبدأوا بالإعدام به بدلاً من ولديه، كان الرد أن عليه أن يراهما قتيلين قبله”.

لم ترد تلك العبارات المؤلمة في رواية متخيّلة، إنها أحداث عاشتها سميرة المسالمة، وسجلتها في كتابها: “الانهيار السوري… الصراع على السلطة والدولة والهوية”، الذي حاولت فيه تشريح حال المعارضة بالطريقة الصعبة، وفق رؤية نقدية مسؤولة، في مطالعتها الآمال التي فتحتها، والمآلات الخائبة والموجعة وباهظة الثمن، التي وصلت إليها.

تتأتى أهمية هذا الكتاب من ندرة الكتب التي حاولت رصد واقع الثورة السورية، وتحولاتها، بطريقة موضوعية، غير دعائية، لا سيما أنه أتى على شكل مراجعة نقدية للمسارات والتحولات التي ذهبت، أو أخذت، إليها المعارضة. كما تتأتى أهميته من موقع صاحبته، الكاتبة والإعلامية، فهي شغلت موقع رئيسة تحرير جريدة “تشرين” الحكومية (قبل عام 2010)، وتمت إقالتها (8/4/2011) بسبب موقفها الأخلاقي والسياسي الجريء في بداية الثورة، كما انخرطت في صفوف المعارضة، من خلال “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”، والذي شغلت فيه موقع نائبة الرئيس (2016ـ2017)، ثم قدمت استقالتها (مع زملاء لها)، حين أيقنت عجزها عن القيام بما يخدم قناعاتها فيه. 

وكانت المسالمة عبرت عن مواقفها النقدية والجريئة، المدرجة في الكتاب، إزاء مجمل المكونات السياسية والعسكرية للمعارضة، وضمنها الائتلاف، بخطاباته وبناه وأساليب عمله، عندما كانت فيه، بل إنها لم توفر في نقدها طريقة تعامل الدول “الصديقة” مع المعارضة.

في مقدمتها، اعترفت المسالمة بأنها في هذا الكتاب تواجه نفسها، وإنه من واجبها السياسيّ والأخلاقيّ “وضعُ الشعب بصورة ما جرى، ووضع نفسها تحت طائلة المحاسبة”، طارحة أسئلة مثل: “لماذا عجزت المعارضة… عن تعزيز مكانتها في مجتمعات السوريين في الداخل والخارج؟ ولماذا لم يستطع الائتلاف استيعاب كلّ المُكونّات السياسيّة؟ ولماذا ظلت علاقاته مع الفصائل العسكرية بلا أي معنى من الناحية العمليّة؟ وما الذي جنيناه من الارتهان لإرادة هذه الدولة أو تلك؟ مع إقرارها بأن أحد أهم أسباب تخلف المعارضة يكمن في أن “نظام الأسد حرَم الحياة الحزبية، ومنع السياسة”. 

واستهلت المسالمة كتابها بشهادة شخصية، عارضة الأحداث التي شاركت فيها، أو اطلعت عليها عن قرب، مؤكدة أن النظام رأى في الحَراك الشعبي تهديداً لسلطته وبالتالي لوجوده. وتلفت الكاتبة الانتباه إلى أن “النظام لم يقف متفرجاً منذ انطلاقة ثورات الربيع العربي في عدد من الدول العربية… بل بدأ نشاطه ضد الثورة المحتملة قبل قيامها، من خلال تكثيف رقابته وإحكام سيطرته على وسائل التواصل الاجتماعي… ودراسة مواقف بعض الإعلاميين والمثقفين… كما شكل خلايا متعددة، أمنية وعسكرية وبحثية وإعلامية، لمعالجة مقدمات الثورة المحتملة”. بيد أن استعداد النظام لا ينفي حالة الذعر التي كانت تخيم عليه، خلافاً للتصريحات التي أدلى بها الرئيس بشار الأسد آنذاك، حيث رأى “أن الدول التي اجتاحتها رياح الربيع العربي هي تلك التي تقاربت مع إسرائيل، بعلاقات تطبيع يرفضها الشعب العربي، وذلك في استمرارية منه باستغلال القضية الفلسطينيّة، كمعيار لتقييم الشعوب لحكامها من جهة، ومحاولة للهروب من استحقاقات مرحلة التغيير الشامل”.

وتستحضر الكاتبة من ذاكرتها بعض الأحداث: “واحدة من أهم المعارك الإعلامية التي خضتها مع زملائي في الإعلام كانت ضد وزارة الاتصالات والتقانة، بسبب حظر الفيس بوك، والتعامل مع المواطنين كمشتبه بهم… ولهذا عَدّت المستشارة الإعلامية في القصر بثينة شعبان أنّ مطالباتي في رفع الحظر جزء من مخطط أشارك به مع مخربين”.

وتشير الكاتبة إلى التحذير من “طموحات العائلة الحاكمة الاقتصادية التي كان يمثلها رجل الأعمال رامي مخلوف، التي تعد من الأسباب الأساسية… التي ستؤدي إلى التعاطف مع تحركات متوقعة للربيع العربي في سوريا، إلا أن التعمق في هكذا حديث كان يشبه عملية انتحار…” ولم تخف الكاتبة قناعتها “بأن التغيير الذي ننشده في سوريا، يمكن العمل عليه عبر خطوات إصلاحيّة، تدريجية، وهو ما حاولته فعلاً (مع العميد مناف طلاس في لقائها بعض شخصيات من المعارضة بعلم رأس النظام)، ولكن تلك المحاولة أجهضت بالطبع، لاعتماد النظام الحل الأمني حصراً. 

إقرأوا أيضاً:

وتسجل المسالمة لحظة إنهاء صلتها بالنظام، بقولها: “اتصل بي اللواء علي مملوك، بعد لقاء تلفزيوني لي على قناة الجزيرة (8 نيسان 2011)، طالباً مني التراجع عن اتهامي القوات الأمنية بقتل السوريين المتظاهرين… فقلت له: هذا ما قلته إذا كان هناك من مندسين فعلياً فإن المسؤولية بوجودهم تقع على الأمن السوري، وبالتالي ليس مبرراً لعناصر الأمن أن يقفوا متفرجين على قتل المتظاهرين تحت ذريعة أن من يقتلهم هم “المندسون”، وعندما لم يجد مملوك وسيلة لإقناعي بالعدول عن موقفي ضد عناصره القتلة، قال لي: أنت على الضفّة الثانية”؛ وتتابع المسالمة: “لقد اخترت عن سبق إصرار وتصميم أن أكون مع الشعب السوري، في خياراته في الحرية والكرامة”. 

“هذا لم يمنع الأجهزة الأمنية من دفع بعض الشبيحة لأذيتي مع أفراد عائلتي، واستباحة حرمة منزلي أكثر من مرة”، متذكرة بمرارة وألم حادثتين، الأولى قيام رجل أمن بإطفاء سيجارته بوجهها قرب عينها اليسرى (الأمر الذي تعاني من مضاعفاته حتى الآن)، والثاني قيام دورية أمنية باقتحام البيت وتهديد زوجها وولديها بإطلاق النار عليهم.

عدا المقدمة والشهادة الشخصية والخاتمة، جاء الكتاب في أربعة أقسام:

الأول، وعنوانه: “من الصراع في سوريا إلى الصراع عليها”، عرضت الكاتبة فيه لمواقف الأطراف المتدخلة في الصراع السوري (الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل)، راصدة التحولات في مواقف كل دولة، وأثر ذلك على الثورة السورية، بما في ذلك الآثار السلبية الناجمة عن تدخلات الأطراف المحسوبة كداعمة، والتي نجم عنها تشجيع المعارضة على التحول نحو العسكرة والأسلمة (تركيا مثلاً)، ونكوص بعضها عن مواقفها السابقة التي كانت تعتبر أن على الأسد أن يرحل (الولايات المتحدة). في هذا الإطار، ترى الكاتبة أن الواقع الذي تجسد نجمت عنه معادلة ألا ينتصر الأسد وألا تُهزم المعارضة، بحيث يبقى الصراع مستمراً، وهذا هو واقع السياسة الأميركية، كما نجم عنه خروج قرار الحسم بمسارات الصراع من أيدي النظام والمعارضة، إذ باتت تتحكم فيه الأطراف الخارجية التي تتوزع النفوذ في الجغرافيا السورية. كما لاحظت الكاتبة تغير تموضع تركيا لمصلحة تحالف ثلاثي استانة، مع روسيا وإيران، ما خلق تداعيات أضرت بالمعارضة السورية في صراعها مع النظام، وأضرت بصورتها لدى شعبها، كما لاحظت التنافس على النفوذ في سوريا بين حليفي النظام، إيران وروسيا. أما بخصوص إسرائيل فقد اعتبرت الكاتبة أن إسرائيل تضطلع بدور كبير، ولو خفي، في تقرير المسار السوري، سواء من خلال تدخلاتها، أو ضرباتها العسكرية المباشرة ضد الوجود العسكري الإيراني والميليشيات التابعة له، أو من خلال الحرص على بقاء الوضع وفق صيغة لا غالب ولا مغلوب بحيث يبقى الصراع مستمراً، عبر تفاهمها مع الولايات المتحدة الأميركية على ذلك، باعتبار أن هذا الوضع هو الذي يخدم أمنها واستقرارها على المدى الطويل.

الثاني، وهو عن واقع المعارضة ونقدها، وقد عرضت الكاتبة فيه رأيها صراحة بمكامن الخلل في المعارضة، سواء في خطاباتها التي ابتعدت من المقاصد النبيلة والمشروعة للثورة السورية، في الحرية والمواطنة والديموقراطية، لمصلحة خطابات ذات طابع طائفي، في قصور رؤيتها لمستقبل سوريا كدولة لكل السوريين، المتساوين والأحرار. كما أخذت على المعارضة الرسمية عدم تحولها إلى كيان وطني جامع للسوريين، وهشاشة بناها، وارتهانها للدول الراعية لها، أكثر من اهتمامها بمصالح السوريين. وقد شمل ذلك بالطبع نقد الفصائل العسكرية ذات الطابع الطائفي الأيديولوجي، وطريقة إدارتها ما سمي “المناطق المحررة”، مركزة نقدها على جبهة “النصرة”، التي قاتلت الجيش الحر، وحاولت فرض تصوراتها على السوريين في المناطق التي تسيطر عليها، وأخذت على المعارضة سكوتها عن تلك الجبهة، والتغطية عليها أو محاباتها، ما أضعف التعاطف مع الثورة السورية. أيضاً في هذا القسم تحدثت الكاتبة عن ضرورة وضع حد للرهانات الخاطئة التي تبنتها المعارضة، وضمنها العسكرة والتطييف والاعتماد على الخارج.

في القسم الثالث، وعنوانه “بين الثورة والمفاوضة”، تحدثت الكاتبة عن المسيرة التفاوضية بين النظام والمعارضة، والتي خلت من أي معنى، سواء في مساري جنيف أو أستانة، وأخذت على المعارضة خفتها، وقلة خبرتها وضعف إدارتها الملف التفاوضي، لا سيما انزياحها نحو مسار استانة التفاوضي تجاوباً مع مطالب الراعي التركي.

أما القسم الرابع، فجاء تحت عنوان: “إلينا وإلى مواطنينا السوريين الكرد”، وفيه تحدثت الكاتبة عن الجرح الكردي في سوريا، وعن حق الكرد، كأفراد وكجماعة قومية بنيل حقوقهم، الفردية والجمعية، في إطار الوطن السوري، الذي يجمع السوريين بكل مكوناتهم وأطيافهم، على أساس الحرية والكرامة والمساواة للجميع، مع الحرص على الاعتراف بالكرد السوريين كجماعة لها حقوق قومية، وكجزء من جماعة قومية. والفكرة الثانية التي طرحتها الكاتبة هنا هي تبني الفيدرالية لكن على أن تكون على أساس جغرافي، لا على أساس إثني أو طائفي، وفي دولة مواطنين ديموقراطية. 

الكتاب، غني بالأحداث والتحليلات والاستنتاجات والانتقادات، وهو مهم للباحثين والمهتمين، والمشتغلين في حقل السياسة والتفكير السياسي، ويشكل إضافة مهمة للكتب التي تعرف بحال سوريا وتحولات المعارضة السورية في صراعها مع النظام. وقد صيغ الكتاب وفق تبويب منظم، دعمته قوة المشاعر، بما في ذلك الآلام والأمال التي تختزنها الكاتبة بحكم تجربتها الشخصية، وأسلوبها الهادئ، بحيث جاء النص على قسوته سلساً، مع العلم أن المسالمة، الإعلامية والصحافية، سبق أن كتبت شهادتها أو تجربتها في رواية عنوانها: “نفق الذل” (إصدار منشورات ضفاف/ بيروت، 2014).  

يبقى القول إن الكاتبة صدرت كتابها بإهداء معبر إلى “كلّ من سقى نبتة الحريّة بدمه، أو فنه، أو قلمه أو فكره… إلى زوجي وولديّ مجد وحسن، الذين ابتسموا للموت فمنحهم القدر فرصة الحياة ثانية… إلى صديق انتزع رحيله قلبي… إلى العزيز ميشيل كيلو الذي حمل عصفورَ حبٍ إلى كل طفل سوري ليعلمه الطيران بحرية. إلى أصدقاء غربتي ودروع الأمان. إلى كل امرأة تدافع عن كيانها. إلى قبلة الحياة سوريا”.

إقرأوا أيضاً: