fbpx

عقد على الثورة السورية ودور رجال الدين في هزيمتها: “الله اللي بيرمي”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عندما واجه الشاب الدبابة وجهاً لوجه، تلعثم ولم يتذكر الآية القرآنية، فحاول قول أي شيء بمعناها، فما كان منه سوى أن صرخ بأعلى صوته “الله اللي بيرمي”. وكانت تلك آخر عبارة قالها في حياته.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

من الحكايات الكثيرة التي لم ترو عن سوريا في العقد الأخير تلك المتعلقة بغياب القيادات خصوصاً في المناطق الثائرة ضد النظام. كانت تلك من أكثر الأمور الّتي احتاجها النّاس في بدايات الثورة السّورية، أي قيادات ملهمة تكون قريبة منهم، توجّه تحركاتهم، وتتفاوض -في الحالات الّتي تستلزم المفاوضة- مع عناصر أمن النّظام. لكنّ خوفهم من بعضهم في الدّرجة الأولى، وخوفهم من “المخبرين” الّذين كانوا يندسّون بينهم في المظاهرات في الدرجة الثانية، منع ظهور قيادات من بينهم.

الفراغ ملأه رجال دين، عبر اعتلاء منابر المساجد وتنصيب أنفسهم قادة للثورة، مُستغلّين إيمان معظم الناس الأعمى بكل ما يقوله الشيوخ عامة.

كانت تلك من أبرز أسباب انحراف الثورة عن هدفها، ودخولها في متاهات لم تتمكن من الخروج منها على الرغم من مضي أكثر من عشر سنوات على اندلاعها.

ولا يغيب هنا عن البال أيام الجمعة، التي تميّزت عن غيرها من باقي الأيام في الثورة السورية، من خلال إطلاق تسميات عليها، كـ”جمعة الكرامة”، أو “جمعة العزة”، أو “جمعة الشهداء” و”الصمود”… وصولاً إلى آخر جمعة حملت اسم “جمعة أحباب رسول الله في سوريا يُذبحون”.

من خلال التّدقيق قليلاً في تلك التّسميات، نلاحظ الاتّجاه الّذي سلكته تلك القيادات، نحو تلبيس الثورة لباساً دينيّاً ساهم في إخراج الثورة عن أهدافها الأولى، وكي لا أسهب كثيراً في الحديث عن ذلك، أودّ الاستشهاد بأحد أيام الجمعة تلك، لتكون مدخلاً لرواية بعض الحوادث البسيطة، التي تحمل في مضمونها الكثير من الدلالات.

لنأخذ جمعة “الزحف إلى ساحات الحريّة” في 30 كانون الأوّل/اكتوبر 2011. في ذلك اليوم، صعد شيخ القرية على المنبر، وبدأ خطبته في الحديث عن الثورة، محاولاً تجييش مشاعر النّاس للنّهوض بعزم وقوّة والتّجمّع بعد الصلاة أمام المسجد، لينطلقوا جميعاً انطلاقة رجل واحد، سيراً على الأقدام، والتّوجّه إلى ساحة في مركز المدينة، للمطالبة برفع الحصار عن محافظة درعا، والهتاف ضدّ القمع والقتل الّذي تمارسه قوّات النّظام.

وفعلاً، خرج الناس وتجمّعوا أمام المسجد، لكنّهم تفاجؤوا بوجود شخص بينهم يهتف معهم، مردّداً وراءهم، كلّ الشعارات الّتي يصدحون بها، لكنّه في مشهد متناقض تماماً، كان يحمل بين يديه صورة لبشّار الأسد ويلوّح بها عالياً.

تقدّم منه بعض المتواجدين، وعلى رأسهم الشيخ. سألوه عمّا يفعل، بينما يتّضح عليه الارتباك وعدم الفهم، فسألهم: أليست هذه مسيرة؟؟

أجابه الشّيخ أنّ هذه ليست مسيرة، إنّما مظاهرة، “نخرج فيها ضدّ هذا الرّجل الّذي ترفع صورته”.

فما كان من الشّاب، سوى أن رمى الصّورة على الأرض، وبدأ يدوسها بقدميه، وهو يهتف: “حرّيّة، حرّيّة”.

غياب التّوعية والتّناقض بين ما يُفتيه الشيخ على المنبر، وما يحدث في الحقيقة على أرض الواقع، خلق جوّاً من الارتباك بين النّاس، حَوْل صحّة ما يقومون به من عدمه، وتحديداً فيما يتعلّق بمصير من يُقتل على يد قوّات النّظام في سبيل الثورة، هل هو “شهيد” أم مجرّدُ ضحيّة!!

يُحيلني هذا التّساؤل الأخير، إلى الأحداث الّتي تلت ذلك اليوم، حين اقتحمت قوّات الأمن التّابعة للنّظام ساحة المظاهرة، في حملة اعتقالات عشوائية، وقامت بتفريق النّاس بالرّصاص الحي، مّا أسفر يومها عن سبعة قتلى من شباب القرية، كان من بينهم صديق لي.

ذهبتُ على إثر ذلك الخبر إلى منزله، فوجدت النّاس يتجمّعون عند الباب، بينما والد صديقي ووالدته يجلسان بانكسار رهيب قرب جثمانه في ساحة البيت، مُحاطاً بقوالب الثّلج للحفاظ على الجثة.

الكلّ ولسبب كنت أجهله، كانوا بانتظار وصول الشيخ، الّذي ظهر من بين الجموع، ودخل البيت مُعزياً أهله، محاولاً التّخفيف عنهم في مصابهم.

وما إن أنهى حديثه، نظر إليه والد صديقي نظرة مليئة بالخوف، وسأله: “أنغسله ياشيخ “؟ في تساؤل ضمني منه: هل هو شهيد أم لا؟!

كان الأب يريد الاطمئنان على مصير ابنه بعد الموت، لكنّ الشيخ قتله مرّة أخرى، حين أجابه:”الأفضل أن تغسلوه” كي لايقع الشّكّ. 

هذه الإجابة، كانت كالصّفعة على وجوه الحاضرين جميعاً، ممّا حدا بهم إلى رمي تعزية سريعة لأهل صديقي، والمغادرة، حيث التزموا في بيوتهم، خوفاً من الموت “ببلاش” حسب مافهموه من كلام الشيخ.

بسبب هذه النماذج، انحسر المدّ الشّعبيّ للثورة بشكل ملحوظ، وخصوصاً بعد انتشار السلاح، وهنا أتحدّث عن المناطق الّتي عشت فيها، حيث كانت أغلبيّة النّاس هم من المعارضين لحمله، مهما كانت الدّوافع والأسباب. 

كلّ ذلك، أدى إلى تصدير الفئة الّتي حملت السّلاح كقادات للثورة، كل في منطقته، وهنا بالضّبط اختلطت الأوراق. 

الشّاب ذاته، الّذي تحدّثت عنه في البداية، ذلك الّذي لم يكن يميّز بين المسيرة والمظاهرة، صار بعد مرور عامين على بدء الثورة، واحداً من تلك القيادات، يترأس مجموعة يحملون أسلحة ويأخذون توجيهاتهم من رجل دين مسؤول عنهم.

وهنا، كخاتمة لما أريد توثيقه، أذكر تفاصيل حادثةٍ رُوِيت عن مقتله -أقصد الشّاب- حيث جاءه في أحد الأيام اتّصال من الشيخ، يخبره فيه عن كمين ينوون القيام به، وأنّهم بحاجة لرجل شجاع لا يهاب الموت. لذلك، هم لن يجدوا أشجع منه للقيام بتلك المهمّة.

كانت المهمّة تقتضي أن يقوم الشاب بحمل سلاح “الآر بي جي” الثقيل، ثم يكمن على الطريق العام، عند زاوية أحد المفارق المؤدّية إلى قلب القرية،  حيث تقف دبّابة تابعة للنّظام، ويحاول التّصويب نحوها، لتفجيرها.

لم تكن العمليّة بالنّسبة له صعبة أو خطيرة، لأنه على مدار عامين كاملين، نجا من الموت أكثر من خمس مرات، كانت من بينها، رصاصة “شيلكا” اقتلعت عضوه الّذّكريّ، وجزءاً كبيراً من فخذه، لكنّ معاناته تركّزت أكثر في جهله، وفي صعوبة ما أوكلَ إليه في ذلك اليوم، حين أخبره الشيخ، أنّ عليه ترديد الآية القرآنيّة “وما رميت إذ رميت، لكنّ الله رمى” قبل أن يضغط على الزّناد، لكي يُسدّد الله رميه.

ذلك الشاب، الّذي بدون مبالغة، لايعرف أن ينطق حروف اسمه جيّداً، أربَكَهُ جدّاً حفظ تلك الآية، لدرجة أنه حينما واجهة الدبابة، وجهاً لوجه، تلعثم ولم يتذكر الآية، وحاول ان يقول أي شيء بمعناها، لأنه اذا لم يقلها، فإنه لن يصيب هدفه كما قال له الشيخ. فما كان منه في اللّحظة الأخيرة سوى أن صرخ بأعلى صوته “الله اللي بيرمي”. وكانت تلك آخر عبارة قالها في حياته. 

إقرأوا أيضاً: