fbpx

قراءة هادئة لاعتزال داود عبد السيد… حركة احتجاجية ضد التفاهة والتغييب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يدفع المخرج المصري داود عبد السيد ضريبة أفكاره ومواقفه التي لا يتوقّف عن نشرها في أجواء الإحباط العام، واعتزاله الراهن لم يكن قراراً إنما يبدو أمراً واقعاً بعدما “اعتزلوه”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

داود عبد السيد ليس مخرجاً ومؤلفاً فحسب، هو أيضاً معارض لا ترضيه الظروف الاقتصادية والسياسية القائمة، فمن يدخل حساب داود عبد السيد في “فايسبوك” يعرف مباشرة لماذا كانت تتعطل مشروعاته طوال السنوات الماضية، ولماذا لا يقدم أعمالاً باستمرار، ولماذا يغيب عن الساحة السينمائية.

اعتزال داود عبد السيد ليس اختفاءً عابراً لمخرج كبير، بل هو قضية السينما المصرية، التي تواجه تحديات تهدد بزوالها بعدما بقيت في الصدارة لعشرات السنين، فإلى جانب عدد الأفلام القليل سنوياً، تجتاح “موجات التفاهة” الأعمال المُقدَّمة باستمرار إلى حدٍ لا يمكن الصمت عنه، بينما لا يجد الكبار عملاً، ويشيّعون السينما إلى مثواها الأخير.

في حوار سابق لداود عبد السيد، سئل عن الفيلم الذي لم يخرجه حتى الآن، ويتمنى خروجه للنور، فقال: هناك سيناريوات كثيرة جاهزة، لكن للأسف، لا نجد إنتاجاً يهتم بموضوعات معينة وقضايا مختلفة في ظل الظروف الحالية.

كان ذلك فصلاً من مسلسل التضييق المستمر على المخرج اليساري الكبير، الذي قدم في مسيرته الممتدة منذ عام 1985، 9 أفلام مخرجاً ومؤلفاً، لانتمائه لما يعرف بـ”سينما المؤلف”، التي يكون فيها المخرج رب العمل، وصانعه بالكامل، ولا يعتمد على سيناريست، وهي التي تبناها قبله في مصر أستاذه يوسف شاهين. 

لم يقدم داود أعمالاً سياسية، سوى بعض الشخصيات والتلميحات في أفلام عدة، لكن الموضوعات التي يناقشها وجودية، حول الإنسان ومتاعبه وأحلامه وتاريخ الإنسانية، يعتمد الرمزية في الحديث عن الله وقصة الخلق، ويُعد أفضل من قدم أعمالاً مصرية عن مسيرة الإنسان في الحياة، وهي الأمور التي لا يتبنّى النظام السياسي الحالي الحديث عنها أو الاقتراب منها، لكونه نظاماً محافظاً من الناحية الدينية والاجتماعية، لا يميل إلى إعمال العقل في أي قضايا فكرية، ويتعامل مع الثقافة– التي لا تدرّ أرباحاً– باعتبارها شيئاً هامشياً، من دون النظر إلى قيمتها العقلية، إلا أنه لا يضعها في أولوياته.

في الفترة الأخيرة، تم تخفيض الميزانيات وإلغاء الكثير من المشروعات الثقافية الخاصة بالكتب وغيرها من الأمور، فهي ليست ركناً من الأركان التي يقيم عليها النظام دولته، ويهدف من ورائها لجذب أرباح، من السياحة على سبيل المثال، فما وراء افتتاح المتاحف وتبني المواكب الملكية، والاحتفالات الفرعونية الضخمة، أيضاً، ليس تبجيلاً للتاريخ أو إعلاءً للتراث والفكر، إنما جذب للسياحة، وهو ما بدأ يتحقَّق بالفعل… نالت تلك الاحتفالات دعاية دولية كبرى، فزادت الحجوزات السياحية في الأشهر الأخيرة.

لم يقترب داود يوماً من السينما التجارية، حتى إنه كثيراً ما كان يعتمد على دعم الدولة في عهد حسني مبارك، إلى جانب منح تمويلية من جهات أجنبية متنوعة، وهو ما لا يتلاقى مع توجهات النظام المصري السياسية، باعتباره المالك الحقيقي لشركة “المتحدة الإعلامية”، التي تدير جميع عمليات الإنتاج الدرامي والسينمائي والإعلامي والصحف والقنوات في مصر.

السينما التجارية التي باتت تدعمها الدولة لا تناسب سينما داود عبد السيد، مخرج “الكيت كات” و”أرض الخوف”، الذي صنع علامات في تاريخ السينما المصرية، فترجَّل بعيداً… على غير إرادته، إلا أن هذا- وحده- لم يكن السبب.

داود… المعارض “من الداخل”

كان داود عبد السيد لوقت طويل ممنوعاً من الظهور على الشاشات المصرية، أو الاستضافة في الصحف، أو نشر أخباره أو اسمه وصورته، وذلك عقاباً له على مواقفه السياسية المعارضة للنظام المصري. تحوّل داود عبد السيد إلى رجل وحيد ينتقد النظام من ذيله حتى رأسه، فمعظم منشوراته على “فايسبوك” تنتقد الوضع السياسي، وقراراته، ومشروعاته، وإنجازاته، على عكس ما كان بينه وبين دولة مبارك، التي كان يعمل خلالها، فقد شارك جهاز الإنتاج في الحكومة المصرية في إنتاج فيلمه “رسائل البحر”، برغم عدم اتفاقه مع الدولة في ذلك الوقت، إلا أن هجماته المستمرة حالياً تجعل الدولة رافضة لوجوده. 

بعد الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير، كان الثوري الأكبر بين الفنانين، وأبرز المتحدثين عن “انتكاسة يناير”، فكان يرى أن “25 يناير كانت محاولة للتحرر من الديكتاتورية وقيادة المجتمع للأمام، ولكن أعداء التحرر- وهم كثيرون- قمعوا كل شيء يتعلق بالثورة، أحلامها وأفكارها ورموزها”، وأتبع ذلك بقوله: “لازم يكون عندنا مجتمع مدني وحياة سياسية وديموقراطية وأحزاب قوية يتفاعل معها المثقف. دون ذلك سيصبح الوضع كما هو عليه. اليوم يتم قمع وتشويه كل من يدعو لحياة تحررية تدفعنا للأمام”، فكانت تلك التصريحات تنفخ في النار، وتزيد الشقاق بينه وبين من يديرون الأمور في ذلك الوقت، ويضعه في القائمة السوداء، التي دفعته للتصريح عام 2017، حين بلغ 71 سنة، قائلاً: أنا متشائم

احتجاج على “الأوضاع الخاطئة”

كان داود متشائماً من كل شيء، مما حصل ويحصل ويتوقع أن يحدث، فالرجل الملقّب بـ”فيلسوف السينما” لا يجد من ينتج أفلامه، وحتى إذا وجده، فلن يحصل على التصاريح اللازمة لإتمام العمل، إلا إذا خرج لتصويره في دولة أخرى. ففي مصر، لا تمنح تصاريح تصوير الأعمال غير المنتجة بواسطة الشركات الصديقة للدولة، ما يدفع الشركات الأخرى إلى تشييد حارات وشوارع مصرية في لبنان أو المغرب، والتصوير هناك، كما حدث في أفلام أجنبية يتم منعها من التصوير داخل مصر، حتى إذا كانت أحداثها تدور في مصر، خوفاً من الصورة التي ستصدّرها، وحدث في أفلام مصرية من إنتاج شركات عربية كـ”صادق الصباح” في ظل الصراع التجاري بين قناة “ام بي سي مصر” والشركة المتحدة. 

اعترض داود عبد السيد على ذلك أكثر من مرة، كان يرفع صوته رافضاً إعدام الصناعة بمنع منح تصاريح التصوير، لينتهي الأمر إلى المزيد من التضييق عليه، بدلاً من حل تلك المشكلات التي تواجه صناع السينما والدراما بقرار سيادي. وهي الأمور التي ذكرها عبد السيد في حديث عابر، لم يكن شرحه متاحاً على الهواء، حين قال: “الاحتكار في سوق الإنتاج، وشكل الإنتاج بمنظومته الحالية وسقف الحريات، فلا يمكن تقديم صناعة السينما إلا بمناخ كامل من الحريات ورفع الرقابة”… وكانت هذه الظروف هي السبب الأول للمتغيرات التي قال إنه لا يستطيع التعامل معها.

إقرأوا أيضاً:

يتمتع المخرج داود عبد السيد، برغم كونه قليل الإنتاج ولا يملك الكثير من الأفلام في مسيرته الفنية ويقدم أعمالاً على مراحل متباعدة، بغرور فطري، ربما لكونه تلميذاً من مدرسة يوسف شاهين، التي أكسبت بعض المخرجين سمات “الألوهية” في العمل، ففي أحدث رد فعل لداود عبد السيد على التعليقات الغاضبة من اعتزاله، وضع شروطاً للعودة والتراجع عن القرار، وأغلبها شروط غير منطقية لن يستجيب لها أحد، فداود عبد السيد يتعامل مع نفسه باعتباره فناناً في غرفة سماوية، لا يرى أحداً ولا يتواءم مع الأوضاع الراهنة. 

من بين الشروط إصلاح المجال العام، الشيء الذي يحاول نشطاء وسياسيون ومعارضون وصحافيون إحداثه طوال سنوات، يشترط داود  تقليل أسعار تذاكر السينما “الباهظة”، وتعديل شروط الرقابة، وإقامة صالات عرض في الأحياء بأسعار تلائم الطبقة المتوسطة. 

قدم داود 9 أفلام في تاريخه، في البداية احترف الأفلام الوثائقية وقدم فيلمين هما “العمل في الحقل” و”عن الناس والأنبياء والفنانين”، ثم قدم فيلماً لم ينجح جماهيرياً هو “الصعاليك”، ثم قدم تحفته الأهم “الكيت كات”، المأخوذة من رواية “مالك الحزين” لابراهيم أصلان، بطولة محمود عبد العزيز، ثم “البحث عن سيد مرزوق” الذي بدأ الفكرة التي غرق فيها داود عبد السيد طويلاً، وهي البحث داخل الإنسان وماهية وجوده، فقدّمها بتنويعات عدة في أفلام لاحقة، كـ”سارق الفرح” و”أرض الأحلام” و”أرض الخوف” و”مواطن ومخبر وحرامي” و”رسائل البحر”. ويحسب على داود، برغم أهمية أفلامه في تاريخ السينما المصرية، أنه مقل، فبين الفيلم والآخر يمكن أن يغيب 5 أو 9 سنوات، كان ذلك في عهود سبقت تلك التي دفعته للاعتزال، فهو ضحية التعالي على المنتجين والجمهور معاً، وهما اللذان إذا توافقا ضد فنان، فقد كل شيء. 

ومنذ فيلمه “رسائل البحر” كان يوجّه رسالة نفسيّة مفادها أن العالم يضيق به، فقد بدأ يرى نفسه صغيراً وضئيلاً وسط موتى. كانت رسالة فنية مضمونها الاكتئاب والتشاؤم من السلوك الذي أصبح عليه الناس، وكان ذلك في عهد مبارك حقيقياً، فالعاشقون لم يكونوا يجدون مكاناً وسط سيطرة السلفيين بمباركة النظام السياسي للتضييق على جماعة الإخوان، وهذا التضييق كان السر وراء أزمة يحيى ونورا.

يرى داود نفسه في كل أبطاله، بل إنه يقدّم شيئاً من سماته ومشاعره في هؤلاء الأبطال، فالفيلم في سينما داود عبد السيد رحلة، تبدأ في جميع أفلامه من نقطة واحدة حين يقرر البطل الانفتاح على العالم، والخروج من السجن الضيق الذي صنعه لنفسه إلى أفق أوسع. 

في “أرض الخوف” خرج يحيى أبو دبورة (أحمد زكي) من الشرطة إلى عالم تجارة المخدرات، الذي يجد فيه شهوته لبعض الوقت ثم ينحسر من بين يديه، ليضيق به هو الآخر، وكذلك كان يحيى (آسر يس) في رسائل البحر. كان مكتفياً بوحدته وعزلته، وحين أغوته نور وخرج إلى العالم الواسع، وجد من يضيّق عليه كل شيء. وكذلك داود عبد السيد، الذي أصبح يرى كل شيء في مصر يضيق ويختنق، ويحاصره، ويحاصر الجميع منذ ذلك الوقت، حتى الإسكندرية التي كانت محرَّرة من التعصب والضيق لم تعد كذلك. تمتلئ سينما داود عبد السيد بالصور الرمزية، ففي “رسائل البحر” كانت كارلا تستعد للرحيل مع أمها عن الإسكندرية. كان ذلك يشير إلى نهاية الإسكندرية بالمعنى التقليدي لها، فلم تعد مدينة التنوع والحرية.

وفي “قدرات غير عادية” أصبح السيرك في خطر. لا أحد يريده، الأطفال يطاردونه، والكبار يتجاهلونه، حتى تسرّب ذلك إلى العاملين فيه، فقال أحدهم: “الناس مش عايزانا”. كان داود يرمز هنا إلى الفرحة والبهجة، وكأنه يقول إن أحداً لم يعد يريد البهجة، بل سادت ثقافة الحزن المبالغ فيه. حتى حين يلجأ البطل إلى طريقة صوفية كي يغتسل من داخله، لا يقبله شيخ الطريقة، ويقول له: “ليس مكانك… المكان للمؤمنين وليس للمتشككين”.

يضيق العالم بأبطال داود عبد السيد كما يضيق به الآن، وكما أبطاله أيضاً، يصر داود على الاستمرار في رحلته حتى النهاية بالطريقة التي صاغها، فلا يريد أن يلعب دوراً آخر أو يغيّر خطته، حتى تصبح الرحلة متناغمة ومنسجمة، ولا يفسدها “فعل مخالف” لطبيعة البطل في النهاية. 

وهنا يأتي دور السلطة، العدو الأبدي في سينما داود عبد السيد، وربما في حياته. وربما كان يشير إلى السلطة “بمفهومها الكلي الأوسع” كناية عن السلطة السياسية.

كانت السلطة تؤرق حياة يوسف في “البحث عن سيد مرزوق”، حتى إنه توقف عن المشاركة في التظاهرات، وتوقف عن الخروج من البيت لشيء سوى العمل، خوفاً من السلطة، التي فرَّغت حياته من معناها وجعلت الاختلاف مع ذلك جريمة ووصمة. يتشابه ذلك مع المستقبل الذي صادف داود عبد السيد بعد سنوات، فالسلطة تفرّغ حياته من معناها، وتمنعه من تقديم ما يحبه، بل تحتكر السينما وتدمّرها، ودائماً ما يشير إلى السلطة بـ”أفراد البوليس” الذين يفسدون الفرحة دائماً، ففرحة يحيى أبو دبورة بحياته كضابط لم تكتمل بسبب “رُتبة أعلى” تكلفه بمهمة غامضة، ويحيى “رسائل البحر” كلما شعر بالسعادة وحاول التقرب من حبيبته وجد نفسه في عهدة الشرطة. 

كان كل ظهور للشرطة، “السلطة”، لا يعني، بأي شكل، الأمان، بل يعني التهديد والخطر ونهاية السعادة وقتل الطموح. كان يتنبأ داود بما سيحصل في حياته، فحين ظهر شبح الشرطة، أصبح طموحه و”سيناريواته” مهددين في آخر العمر. 

إقرأوا أيضاً: