fbpx

روح “الفقارة” مهددة بالإهمال والمضخات…
من يسقي نخيل الجزائر؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

برغم دقة نظام الفقارة وفاعليته في الحفاظ على الماء وحماية البيئة، إلا أنه يتحوّل شيئاً فشيئاً “طريقة بدائية” لجلب الماء، وهي معركة تربحها المضخات الكبيرة والآليات المتطوّرة وما تخلفه من آثار مضرة بالبيئة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا  يزال السكان الأصليون  في منطقة أدرار في جنوب الجزائر (1500 كلم من العاصمة) يعتمدون على الطريقة التقليدية في التزود بالماء الصالح للشرب وتسمى “الفقارة”، ويعتبرون أن ما يحصلون عليه من ماء أنظف وأعذب من مياه الصنبور. 

بيئياً، هذا النظام لم يفد الإنسان فحسب، بل أيضاً الطيور المهاجرة والغزلان، وشكّل منبعاً ممتازاً للأسماك. وقد توارثت الأجيال هذا النظام منذ قرون، إذ تعود أصول الفقارة بحسب الدراسات إلى القرن الحادي عشر، حين انطلقت في إيران. والفقارة هي نظام سقي يعتمد على جلب الماء من الأماكن المرتفعة إلى الأماكن المنخفضة عبر قنوات تحفر تحت الأرض بعمق معين، وتربط بين هذه القنوات مجموعة من الآبار. والبئر الأخيرة تستقر عند المنطقة المنخفضة لتصب المياه على سطح الأرض، وبذلك يتمكن الإنسان من استخدام الماء في حرث الأرض وغير ذلك، ما يمنح تلك المنطقة نوعاً من الاستقرار المائي. 

أثبتت أبحاث أن الفقارة هي النظام المائي الوحيد الذي يتأقلم مع البيئة الصحراوية القاحلة، ويواجه الجفاف، كما يجمع بين الجانبين الاجتماعي والتقني، فالذين يستفيدون من مياه الفقارة ويتشاركونها، يساهمون بأنفسهم في حفرها وصيانتها ويهتمون بالحفاظ عليها. وقد أدرجت “اليونيسكو” الفقارة وتقنية كيال الماء ضمن التراث العالمي.

ونظراً إلى أهمية الفقارة في حياة سكان المنطقة من الناحية المعيشية والاقتصادية وكذلك البيئية، يبذل الشباب اليوم ما في وسعهم للحفاظ على هذا المصدر الحيوي للماء. 

أسس صلاح الدين الإدريسي مع أصدقائه جمعية خاصة بحماية الفقارة في منطقة تمنطيط. اصطحبنا معه إلى مناطق الفقارات في تمنطيط التي تبعد من مقر الولاية 15 كلم، وعرّفنا إلى ثلاث فقارات حية (فيها ماء) متبقية من أصل 360 كانت موجودة، ويتخوف السكان من أن تجف تماماً، فهذا يعني جفاف الواحة كلها، ما يؤثر في المنتوجات الفلاحية في تمنطيط مثل الطماطم والعدس، حتى إن الجو اللطيف الذي كانت توفره واحات النخيل، سيختفي باختفاء الفقارة. يؤكد صلاح الدين ذلك، مشيراً إلى أن السبب هو إهمال الفقارات والتوجه إلى المضخات، ما عرضها لزحف الرمال والتصحر.

“سبخة تمنطيط” و”واحة أولاد يحي” صنفتا عام 2002 من بين المناطق الرطبة العالمية بحسب اتفاقية رامسار، وتقدر مساحة المنطقة الإجمالية بنحو 12 ألف هكتار وسبب تصنيفها هو وجود الفقارة، الذي خلق تنوعاً بيولوجياً، من النخيل إلى الثروة السمكية النادرة الموجودة في الفقارة والسواقي، إلى جانب اعتبارها محطة مهمة في رحلة الطيور المهاجرة، وقد تم إحصاء 2466 طيراً من 13 نوعاً (عام  2021) عبر الولاية، وسبخة تمنطيط إحدى محطاتها. وبحسب مكتب إحصاء الطيور المهاجرة، فإن عددها في تناقص، إذ قدّر عام 2018 بنحو 3221 طيراً من  20 نوعاً. 

ساقية الفقارة

يدلنا صلاح الدين على أحد شيوخ المنطقة الذي يحدثنا عن الأسماك التي كانت تعيش في الفقارة، وتخرج وقت الضحى إلى الساقية بحثاً عن الغذاء، لأن الساقية مكان تنمو فيه النباتات، وكيف كان يوبخ الأطفال الذين يستعملون ماء الكلور من أجل صيد الأسماك: ”كان الأطفال يفرغون بعضاً من ماء الكلور في الآبار المؤدية إلى الفقارة حتى يهرب السمك باتجاه الساقية ويتم صيده”. 

جفاف الفقارة أصبح هاجس الأهالي. تمتلك عائلة طالبي فقارة مسماة السويهلة البلقاسمية، لكنها جفت منذ 5 سنوات بسبب انخفاض منسوب المياه. صالح طالبي (39 سنة) أحد أبناء العائلة، أب لطفلين، ينتابه قلق من عدم قدرة أبنائه على التعايش مع الصحراء كما أجدادهم، ويفكر إن كانوا سيعرفون معنى الفقارة التي تربى عليها والدهم، وأجيال من قبله. 

سكان الواحات صاروا يعتمدون على المضخات للوصول إلى المياه الجوفية واستغلالها في سقي بساتين النخيل، لكن أحياناً تكون هذه المياه غير صالحة للفلاحة لارتفاع نسبة الملوحة فيها. اليوم أكثر من 47 ألف فلاح يعتمدون على السقي بنظام الفقارة في أقاليم توات، قورارة و تيدكلت، وهناك نحو 30 مليون نخلة مثمرة تسقى بمياه الفقارة. 

وحتى الآن نجد بعض ملاك الفقارة يرفعون الشكاوى للسلطات من أجل معاقبة المستثمرين الفلاحين الذين يتعدون على مساحات شيدت فيها الفقارات، وينصبون فيها مضخات المياه. 

اختفاء الفقارة يعني اختفاء قسم مهم في المنظومة البيئية، الاجتماعية والاقتصادية، ما يعرض المنطقة للتصحر والجفاف، وستختفي مهن نشأ عليها أجيال لقرون من الزمن، مثل كيال الماء، الذي يقسم الماء بالعدل بين فلاحي الواحة، والنفاذ الذي ينجز المسالك بين الآبار وصولاً إلى الواحة، إضافة إلى روح العمل الجماعي في صيانة الفقارة وتأهيلها كل موسم، وفرحة الفلاحين بالغلة والثمار في كل فصل. كل هذا معرض للزوال. 

إقرأوا أيضاً:

ولحماية هذا الموروث قامت الوكالة الوطنية للموارد المائية بمنع الترخيص لحفر آبار قريبة من الفقارة، وأوضح مدير الوكالة السيد لنصاري أن الفقارة تساهم في حماية البيئة من التصحر، من خلال تزويد واحات النخيل بالماء بشكل مستمر ومستدام. هذه الواحات بدورها  تشكل مصدات للرياح الرملية الحارة، ناهيك بكون الفقارة نظاماً اجتماعياً اقتصادياً تعايشت فيه القبائل في المنطقة بسلام، وكتبت تاريخها انطلاقاً من هذا الإرث.

تتوزع 1890 فقارة على الأقاليم الثلاثة، توات، قورارة، تيدكلت، 330 فقارة فقط نشطة وفي حالة جيدة وتحتوي على منسوب مياه معتبر، بينما 1256 فقارة جفت وامتلأ معظمها بالرمال بسبب الإهمال.

وأشارت خولة قروط المكلفة بالاتصال في مؤسسة مرصد الفقارة، إلى أن فقارات كثيرة مهددة بالانهيار، خصوصاً بسبب التوسع العمراني على سطح أماكن وجود الفقارات، إلى التعدي على القنوات التي تربط الفقارات، واستغلت كمجار للصرف الصحي أو كقنوات لأسلاك الكهرباء أو الهاتف. 

وتعمل مؤسسة “مرصد الفقارة” على تطوير طرق لحماية موروث الفقارة، واقترح مدير “المرصد” السيد بوتدارة يوسف استعمال التكنولوجيا الحديثة في معاينة الفقارات، مثل كاميرات خاصة تنزل إلى أعماق الفقارة وتكشف الأضرار، وآلات خاصة لاستخراج الطين من الفقارة وتنظيفها. 

عاشت أجيال عدة ولعقود على نظام الفقارة، هناك كتب الناس تاريخهم وأسسوا لحضارتهم، اليوم يبقى اسم الفقارة في الذاكرة يصارع البقاء أمام تسارع التكنولوجيا. برغم دقة نظام الفقارة وفاعليته في الحفاظ على الماء وحماية البيئة، إلا أنه يتحوّل شيئاً فشيئاً “طريقة بدائية” لجلب الماء، وهي معركة تربحها المضخات الكبيرة والآليات المتطوّرة وما تخلفه من آثار مضرة بالبيئة. 

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.