fbpx

“منتدى شباب العالم” من أينشتاين إلى “بيلا تشاو”:
الجهل يحرج النظام المصري

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ادعاء الانفتاح الثقافي يناقض الجهل الذي يغلب النظام المصري ويتغلغل في كيان الدولة. هذا الجهل على الأرجح هو ما دفع اللجنة المنظمة للمؤتمر إلى الوقوع في ورطة مخجلة، وهي اختيار واحدة من أكثر الأغاني ثورية على الإطلاق، “بيلا تشاو” لتغنيها فرقة على مسرح منتدى شباب العالم في دورته الأخيرة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عام 2017، كنت أستمع من زنزانتي عبر راديو جاهدت كثيراً للحصول عليه، إلى بث صوتي مباشر لـ”منتدى شباب العالم” الذي ينظمه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي سنوياً في محافظة شرم الشيخ. 

كنت حينها في الثانية والعشرين من عمري، أمضي عامي الثالث في السجن السياسي، وأستمع إلى شباب جيلي من كل أنحاء العالم، يتحدثون عن قضايا محلية وعالمية، عن السلام والحب والحرية والتسامح، وعن المستقبل المشرق للإنسانية، وضرورة مواجهة “داعش”.

كنت أشعر بحواجز هائلة تفصلني بأسى عن هؤلاء الشباب وعن الجيل الذي يتحدثون عنه، وتُلقيني في عتمة السجن كهلاً يحمل في قلبه مرارة الواقع. كان عليّ فقط أن أنظر أثناء إصغائي لجهاز الراديو إلى موقعي وعمري برفقة الكثير من أبناء جيلي في معتقل مظلم في صحراء وادي النطرون، لأتبين جوهر الادعاء ومكمن العبث، وأسأل بحرقة، ما الغرض من هذا كله؟

تولدت فكرة “منتدى شباب العالم”، حين عرضت مجموعة من الشباب المصري مقترحاً على الرئيس في إحدى دورات المؤتمر الوطني للشباب التي تقيمها الدولة للتحاور معهم والإنصات إلى قضاياهم. وافق الرئيس على المبادرة بإجراء حوارات مع الشباب من كل أنحاء العالم، لتبادل الرؤى المستقبلية والحاضرة لأوطانهم والعالم أجمع.

كنتُ أفكّر من زنزانتي، لماذا تستخدم الدولة فئة الشباب لتقديم نفسها من خلالهم إلى العالم وتصدير صورة سياسية لامعة وبراقة على هذا النحو، بخاصة في ظل مشكلات الدولة الحقيقية مع الشباب، باعتبارها دولة عجائز تضطهد هذه الفئة تحديداً، لأنها الفئة الوحيدة القادرة على تهديد عرش شيخوختها وذهنيّتها المتخلفة.

الأمثلة على ذلك كثيرة، منها الكمائن التي تستهدف الشباب بالدرجة الأولى، والجامعات التي عسكرها الأمن وحاصرها، برعاية السلطة السياسية وتدخلها في مساراتها، ونشاطها ونشاط طلابها، بفضل ذلك العداء وبدافع من الخوف من تلك الفئة وخصوصاً عندما تكون متعلمة. 

في الدراسة التي أجرتها الباحثة سلوى إسماعيل، بعنوان “الحياة السياسية في الأحياء العمرانية الجديدة بالقاهرة” تظهر كيف تعادي الدولة فئة الشباب، وخصوصاً شباب الطبقات الوسطى وما تحتها، أي الذين في حاجة حقيقية إلى الإنصات لمشكلاتهم. تظهر الدراسة كيف تعادي السلطة الشباب وتعاملهم كقوة مهمشة وتمارس عليهم أنواعاً مختلفة من العنصرية والعنف غير المبرر. فضلاً عن مئات الآلاف من الشباب المصري الذين مروا على السجن السياسي حيث احترقت أجمل سنوات عمرهم في زنازين قاسية.

في منتدى “شباب العالم”، تحاول الدولة تمرير صورة مخالفة لكل المضامين والوقائع والحقائق، لتقدم نفسها إلى العالم على أساس حضاري وانفتاحي، لاكتساب شرعيتها كدولة حديثة.

التحكم في الأنظمة التابعة للدولة الحديثة بحسب ميشال فوكو لا يعد شأناً ذاتياً أو محلياً داخل الدولة فحسب، بل يعد عرض هذه الأنظمة وأفكارها، جزءاً أساسياً من مفهوم الدولة التي تقدم نفسها عبر هذا العرض إلى العالم.

والرسالة التي يعرف المنتدى نفسه بها ويروج لها عبر شبابه هي السلام والازدهار والوئام، واعتباره فرصة لتواصل الشباب مع كبار صانعي القرار والمفكرين حول العالم، في حين أن الدولة لا تترك مجالاً حراً للفكر أو التعبير عن الرأي في مصر، إضافة إلى عشرات الآلاف من الشباب الذين لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم أو الدفاع عن حقوقهم وقضاياهم أمام المحاكم السياسية.

إقرأوا أيضاً:

ما هو المنتدى؟

يعد “منتدى شباب العالم” منصة لتزوير الحقائق وتجميل صورة النظام بتكاليف باهظة. وبحسب تقرير لـ“العربي الجديد” كانت تكاليف النسخة الثالثة عام 2019، 37 مليون دولار، تحملتها المصارف الحكومية وشركة “وي” التي تستحوذ الاستخبارات على حصة حاكمة فيها. 

وذكر التقرير أن مصدراً نيابياً في تكتل 25-30 المعارض، استبعد تقدم أحد أعضاء البرلمان باستجواب الحكومة أو بطلب إحاطة بشأن التكلفة الضخمة لمنتدى الشباب، بسبب غياب الشفافية حول حقيقة المبلغ، والهيئات والجهات التي مولته، فضلاً عن الآليات التي تم اختيار الحضور على أساسها سواء من داخل مصر أو من خارجها.

في الدروة الرابعة للمنتدى التي انعقدت أخيراً، قام “روبوت” (رجل آلي) أثناء تقديم الحفل بالترحيب بالرئيس والحضور نيابة عن مجموعة من الروبوتات التي تعمل على توفير الأمور اللوجستية، وأداء الخدمات الأخرى في المؤتمر. إضافة إلى ذلك تم استدعاء عالم الفيزياء ألبرت أينيشتاين والفيلسوف جلال الدين الرومي والأم تريزا بتقنية الهولوغرام لإلقاء خطاب إنساني للحضور والعالم. 

وتلخص رمزية هؤلاء التاريخية، ثلاثية العلم والفلسفة والإيمان. وهو ادعاء آخر تحاول الدولة من خلاله تقديم نفسها كحاضنة للعلم والثقافة. منذ ظهور الحداثة التي ارتبطت باختراع مطابع النشر ومن ثم انتشار الكتب المطبوعة، أصبحت الدولة الحديثة تقدم نفسها كراع أمين للعلم والفكر والثقافة.

الدولة المصرية التي تكتظ سجونها بأساتذة الجامعات والمفكرين والكتاب، وأصحاب دور النشر الذين ألقوا في السجون لأنهم طبعوا كتباً لم تكن على هوى السلطة، تستحضر العلماء والمفكرين بتلك التقنية الحديثة في محفل التزوير الفخم، التي تقيمه لتبييض يدها وغسلها من الجرائم المتنوعة التي تقترفها، لا سيما في حق مجتمع الكتاب والمثقفين.

ادعاء الانفتاح الثقافي يناقض الجهل الذي يغلب النظام المصري ويتغلغل في كيان الدولة. هذا الجهل على الأرجح هو ما دفع اللجنة المنظمة للمؤتمر إلى الوقوع في ورطة مخجلة، وهي اختيار واحدة من أكثر الأغاني ثورية على الإطلاق، “بيلا تشاو”  لتغنيها فرقة على مسرح منتدى شباب العالم في دورته الأخيرة، ما أثار حملات سخرية واسعة على السوشيال ميديا.

أغنية “بيلا تشاو” الإيطالية تعني “وداعاً أيتها الحبيبة”، وكان يغنيها العمال الثائرون والمناضلون في الثورة أثناء توديعهم محبوباتهم، قبل ذهابهم إلى ميدان المقاومة ضد موسوليني وفاشيته. 

انتشرت هذه الأغنية في نسخ كثيرة ومختلفة حول العالم وأصبحت رمزاً للنضال والحرية والمقاومة في أوجه الطغيان والقمع في العالم. إضافة إلى ذلك استضاف المؤتمر الممثلة الإسبانية، أتزيا إيتونيو، التي عرفت بدورها الثوري في المسلسل الإسباني، “لاكاسا دي بابل”، إذ أدت دور ضابطة الشرطة المنحازة إلى صفوف الثوار وانتمت إلى الثورة أكثر من انتمائها لقوات الشرطة.

قد يُعتقد أن الدولة المصرية تعرف كل هذه الرموز، وأنها اختارت البطلة والأغنية متعمدة استدعاء أنماط تاريخية والاستفادة من التاريخ على حساب قلب الحقائق، خصوصاً أن جهاز المخابرات الحربية هو من يقوم بتنظيم منتدى شباب العالم. وحسب تقرير “العربي الجديد”، فإن التنظيم في الدورة الثالثة خضع لإشراف مباشر من  أحمد شعبان، مدير مكتب رئيس المخابرات العامة عباس كامل. كما أن شعبان يُشرف بنفسه على كل الفعاليات داخل المنتدى، بمساعدة مجموعة صغيرة من المنسقين الإعلاميين التابعين لأجهزة في الدولة.

 من المحتمل جداً بل ومن المرجح أن تكون الدولة تلقت صدمة عندما أُخبرت بمعنى الأغنية والفيلم وسياقاتهما التاريخية. تناولت جريدة “اليوم السابع” التابعة للدولة أغنية “بيلا تشاو” عقب تأديتها على المسرح على أساس أنها أغنية كلاسيكية إسبانية وقالت، “أغنية إسبانية كلاسيكية شهيرة، تمت إعادة إصدارها في نسخة جديدة مع المسلسل الشهير لاكاسا دي بابيل، الذي كانت بطلته ضمن المشاركين في فعاليات المنتدى”.

إن واحداً من الشباب المصري الموجودين في المؤتمر والذين تم اختيارهم وفق نظام مخابراتي صارم ودقيق، للتأكد من ضمان ولائهم الكامل للنظام، إضافة إلى ملفاتهم الوطنية ناصعة البياض، لا يجرؤ على توجيه خطاب يحمل أي انتقاد للدولة، ذلك الذي تحتمه أي مناقشة جادة لقضايا الشباب في مصر.

وهو الأمر الذي تتصاعد حدته دولياً- الانتقادات الموجهة للنظام المصري- مع استمرار تقييد الحريات، وانتهاكات حقوق الإنسان المتواصلة في حق المعارضين، إضافة إلى التعذيب في المعتقلات والتصفيات الجسدية والإخفاء القسري.

المتحدثة باسم “تحالف البحر المتوسط” أحرجت هذا الصمت حين وجهت خطابها اللاذع منتقدة الرئيس ونظامه أثناء حضورها المنتدى، إذ قالت، “إن تحالف البحر المتوسط يشعر بقلق عميق إثر تنامي الآثار بعيدة المدى بسبب الوباء وتأثيره على الفئات المهمشة والضعيفة التي تركت وحيدة في مواجهة الوباء. كما أن مؤتمر الأمم المتحدة الرابع عشر للعدالة الجنائية ووقف الجريمة، أشار إلى أن السجون المصرية تعد بيئات عالية الخطورة في ظل الجائحة بسبب الإهمال الممنهج وعدم ملاءمة أنظمة الصرف الصحي في السجون المصرية. إن التحالف لا يزال قلقاً إزاء التمييز ضد النساء والأقليات والمجتمعات الضعيفة الأخرى، فضلاً عن حالات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري وقمع المجتمع المدني”. 

إقرأوا أيضاً: