fbpx

البرد في مجاهل العتمة: كيف يتعايش السوريون مع الثلج؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على رصيف ضيق تقف الأم لتجمع بعض الثلوج، تجمعها وتحولها إلى كرات صغيرة، وتمنحها لولديها الصغيرين، تدعوهما للعب معها، يضحكون ببراءة لكن كرات الثلج سرعان ما تذوب، فيعودون إلى البيت مجبرين: لا كهرباء ولا تدفئة، حتى دقائق اللعب أقصر من ضحكاتنا!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم تعد الأخبار تخيف أحداً، ولم تعد تغري أحداً بسماعها، موجة صقيع وصلت لتوها! سنتسلح بالبطانيات وحساء العدس، باتت الوصفات جاهزة ومحفوظة عن ظهر قلب في مواجهة أخبار مفجعة تزداد وتيرة التخويف منها، وكأن حياتنا غير مهددة أصلاً، وكأننا سنفاجأ بمشكلة طارئة، وعلينا بالتالي شكر أصحاب الأخبار لحرصهم الفائق على تنبيهنا لضرورة تدبر أمورنا سلفاً.

الاحتفاء بالمصائب

اعتادت البشرية على التماس هطول الأمطار والثلوج لتأمين مياه الشرب وتعقيم الأرض من الأوبئة والحشرات الضارة، لكنها وعبر احتفالاتها بمصائب الطبيعة التي تجر عليها الويلات والأمراض بسبب الفقر وانعدام الأمان المجتمعي وغياب العدالة بتقاسم الخيرات كما النوائب، قررت مضطرة ودونما أي خيار أن تستسلم للعبث، للمرض، للبرد والصقيع، للموت غرقاً في الطين أو انزلاقاً في المنحدرات، بل ويتعاظم القهر ليعتبر البشر قرار الطبيعة بإبادتهم راحة أبدية لهم.

احتفل السوريون والسوريات بالثلج الشحيح في دمشق وأطرافها بسخرية عارمة، تناقضت مشاعرهم حيال ندف بيضاء تنير العتمة الحالكة في الشوارع والبيوت، راقبوا الثلج قليلاً بلا شغف وبالكثير من الارتجاف، عادوا إلى بطانياتهم الرقيقة التي تختبئ تحتها أجساد باردة.

يبدو تفشي “كورونا” وتحديداً “أوميكرون” بالتزامن مع البرد، لعنة إضافية تضاف إلى مآسينا. في غرفتها البائسة تحتال سعاد على نفسها، تقول: كريب، وهذا التحايل ليس سوى مبرر للهرب من زيارة الطبيب، والطبيب في حارة سعاد الشعبية رحوم ولا يتقاضى إلا بدل معاينة رمزياً، لكن الغالبية لا تقوى على دفعه. في الليل شعرت سعاد بألم حاد في الظهر وفي الصدر وتشنجت يدها اليسرى، فزارت الطبيب صباحاً خوفاً من الجلطة، لكن الطبيب طلب صورة شعاعية للصدر وعدداً من التحاليل، لتأتي النتائج مؤكدة إصابتها بـ”كورونا”. فاتورة الأدوية والصورة والتحاليل والمعاينة قاربت 200 ألف ليرة، المضحك المبكي أن الطبيب اكتشف هبوطاً في عدد الكريات البيض عند سعاد، فطلب منها الانتباه إلى طعامها لتحسين مناعتها وزودها بفيتامينات تعزز المناعة وترفع قدرة جسدها على مقاومة المرض اللعين، لكن فرط واقعية الطبيب تسبب بنوبة ضحك لسعاد، حين سألته عن ضرورة تأمين وسيلة تدفئة، فأجابها حرارة الإيمان والأدوية تكفي…

ابتدع السوريون رأس مدفأة يوضع على غاز السفاري وبأحجام مختلفة، تجلس العائلة حوله متلمسة  بعض الدفء. في الشوارع والبيوت البائسة تفوح روائح البلاستيك الموضوع داخل تنكة أو مكوم ضمن دائرة محشوة بالأمتعة والأحذية الشعبية وعبوات النايلون، لا أحد يتحدث هنا عن الخطر خلف تلك الوسائل التي تدفئ الأجساد الهشة وتأكلها في الوقت ذاته.

على باب أحد المحال المعدة للترميم كومة من خشب رقيق، ربما كان يوماً إطاراً للأبواب أو النوافذ، لكنه ضئيل ومكسر، دخل رجل إلى المحل وطلب من الشاب شراء الأخشاب، سأله الشاب عن السبب، فأجابه للتدفئة، وحين وافق، وبعد صفرة واحدة من فم الرجل هرع ثلاثة أطفال لحمل الخشب وفرحهم يسبق خطاهم…

إقرأوا أيضاً:

العتمة المريحة

تكمن بلاغة الغبطة عندما يتقبل الناس المستحيل وكأنه من طبيعة الأشياء، اعتادوا العتمة، وكأنهم يعيشون ما قبل اختراع الكهرباء، يوماً فيوم تتناقص مساحة الأماكن المضاءة حتى داخل البيوت، وتصير العتمة فرداً من الأسرة.

بيد إيمان مصباح متوسط الحجم، بات رفيقها الأقرب، تضعه في محفظتها عند الخروج من البيت وفي جيب سترتها السميكة داخل البيت، تعرف الطرق جيداً، لكنها تخاف العتمة فتتسلح به وبخاصة عند ذهابها إلى الحمام، تسكن في بيت تعيش فيه أسر أخرى، لم يتمكنوا من الاتفاق على تركيب بطارية مشتركة للكهرباء. لذلك بات المصباح اليدوي وسيلتهم الوحيد لقضاء حاجاتهم. لكنها وفي غرفتها الواسعة نسبياً، ترتب كل شيء في ضوء النهار، منامتها والأغطية الشتوية، زجاجة الماء، إبريق المتة، وغاز السفاري الصغير، حتى أنها لجأت في الآونة الأخيرة وبعد اشتداد البرد وطول وتكرار فترات انقطاع الكهرباء لقضاء حاجتها في دلو بلاستيكي تضعه في زاوية الغرفة وقد زينته بغطاء من الصوف المخرم والمشغول بسنارة واحدة وبأصواف ملونة، بات التعامل مع العتمة شأناً إبداعياً خالصاً، وحين لا تنفع كل الأمنيات والإمكانات لتوفير الضوء يغدو التعامل مع العتمة وتأمين عبورها دون خسارات أو  إصابات، أمراً بالغ الذكاء، تماماً كمن يجمّل موته.

احتيالات بريئة 

يتساءل الأطفال عن سبب غياب الكهرباء، يلومون أهلهم وكأنهم الجناة. يصطحب كميل لابتوب ابنته التي تدرس الهندسة المعلوماتية إلى بيت خالته في حي بعيد، حيث بطارية تؤمن الكهرباء لشحن هاتفها وحاسوبها.

درج كميل على زيارة خالته دائماً لتأمين شحن لابتوب ابنته وجواله وجوال زوجته، مع وعود مستمرة بات أبناؤه متأكدين من استحالتها بأنه سيشتري لهم قريباً “إنفرتر” للكهرباء، لكن الأمنيات لا تتوقف والضيق يبلغ حده الأعلى دون بارقة أمل بأي تحسن.

على رصيف ضيق تقف الأم لتجمع بعض الثلوج، تجمعها وتحولها إلى كرات صغيرة، وتمنحها لولديها الصغيرين، تدعوهما للعب معها، يضحكون ببراءة لكن كرات الثلج سرعان ما تذوب، فيعودون إلى البيت مجبرين: لا كهرباء ولا تدفئة، حتى دقائق اللعب أقصر من ضحكاتنا!

إقرأوا أيضاً: