fbpx

الظاهر والباطن في ما فعله تبون:
قصة عامين في حكم الجزائر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لمدة عامين استفاض الرئيس تبون في التبشير بخروج عهد جديد للجزائر بملامح قوية تنهي العهد البائد لعصابة العشرين سنة التي شيدت صروحها كما قيل على الفساد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

استوى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون على كرسي الحكم لمدة عامين، وأدار لعبة ألغاز صنع القرار. كانا عامين رأت فيهما الجزائر لوامع أمل، سرعان ما كانت تختفي، ومن حين إلى آخر تعاود الظهور، تفتش عن مستقر لها وهكذا. بدا تبون خلال هذين العامين فارساً يحمل بيد سيفاً معوج الشرعية، وبالأخرى فأساً يجاهد به لمواجهة ما ترسب من تراكمات ومصاعب. لكنه فارس تائه وسط بطانة مقلقة، مناورة، لا تخبره بكل الحقائق، يتلمس الواقع المضطرب المتماوج تحت قصره. يفكر في مخارج تحصن عهدته الأولى ضد ما قد يكدرها في سماء الجزائر الملبدة بالغشاوات والسحب والضباب، بعدما سطع الحراك وحاول أن يقلب كل التوقعات والموازين ليغير كل ما يرمز للنظام لكنه اختطف، وضاع في مناوشات رياح عصفت بأحلامه وطموحاته ومستحيلاته.

التفكير في ما بعد العهدة الأولى

إذا صدقنا بعض المعلومات الشحيحة التي تقول إن الرئيس تبون يستعد لعهدة ثانية، وأنه يتشاور مع دائرته المقربة في مكان ما داخل قصر الرئاسة أو في إقامته أو حتى داخل رأسه، عن الاحتمالات والتداعيات والظروف والسياقات، وأضفنا إلى ذلك تصريحاته الأخيرة التي أعقبت تصويته في الانتخابات البلدية والولائية، والتي قال فيها إنه ماض لتحقيق الــ54 نقطة التي جاءت في برنامجه الانتخابي ولا نعرف حتى الآن عند أي نقطة هو واقف الآن، ما يرجح أن يكون الأمر صحيحاً وأقرب إلى الحقيقة، وأنه فعلاً يتم التحضير للأمر على قدم وساق وفي سرية تامة.

فهل يكون الرجل قد بدأ فعلاً إحكام قبضته على دواليب الحكم؟ وهل لانت له الصراعات وخفتت بخاصة مع النواة الصلبة للمؤسسة العسكرية؟ وهل نية الترشح وفق مصادر قريبة منه، تكفي لجعل الأمر ممكناً في ظل ظروف صعبة ومشكلات على مختلف الأصعدة؟ كيف سيتخلص من القوى العميقة التي تعرف متى وكيف تديم زحفها في الظلال لترسم من جديد جسداً للصراع على السلطة في الجزائر؟

في القصر

عندما دفع الراحل قايد صالح الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة للاستقالة، أول شيء فعله كان إفراغ مقر الرئاسة حيث أعطى أوامر خاصة لفرقة من الجيش بالتنقل هناك وأخذ كل شيء… لذلك عندما فاز تبون وأصبح رئيساً للدولة ودخل القصر لم يجد أمامه ما يغري… بدا المكان فارغاً مغبراً تسكن خيوط العناكب مكاتبه وزواياه المظلمة، يكاد يشبه تلك القصور في حكايا الأشباح الخرافية المخيفة. جال وصال مع معاونيه بداخله، أصيب بالدهشة أمام منظره الكئيب، اختفى كل ما له علاقة بفترة حكم الراحل عبد العزيز بوتفليقة من وثائق ومستندات وتسجيلات وغيرها، مثلما أخبر بعض الإعلاميين على هامش لقاءاته الدورية الأولى مع الصحافة الوطنية، مرت برأسه ورأس من كان معه في تلك اللحظات من الذين وطئت أقدامهم أول مرة عتبات القصر، مرت برأسهم صوره الجميلة المبهرة النظيفة وهو يستقبل الزعماء والرؤساء والملوك والقادة من مختلف أنحاء العالم، حز في نفسهم ما آل إليه أحد أهم رموز الدولة الجزائرية، سكن الشحوب سماء الرئيس تبون، كتم حسرة دفينة، وقرر أن يعيد للقصر أبهته وبهاءه وهيبته.

مهمات مجلجلة

منذ تلك اللحظة الفارقة وبعد أكثر من عامين، شهد القصر قصصاً جديدة، اختفت حكاياه القديمة التي نسجت طوال عشرين سنة حتى تحولت إلى ما يشبه الأساطير العجيبة، لم تعد أشهر حكاية تداولت علناً عن تجوال ختم الرئاسة في يد السعيد مستشار الرئيس الراحل بوتفيلقة تشغل الليالي والسهرات والقعدات والهمهمات، حلت حكايا أخرى يرويها اليوم تبون وحاشيته، ويصنعون أفقها بالكثير من المعاناة والصبر والأخطاء والمعالجات التي تحاول أن تصل إلى لب المشكلات الحقيقية الراهنة.

كان تبون في غمرة خطواتها الأولى وقبل أن يعتل ويغادر الجزائر إثر مرض أقعده في ألمانيا لمدة طويلة وهي علة ألقت بضجيجها الصامت داخل أروقة الحكم وخارجه، كل يعطي رأيه حول حقيقتها ومستقبلها… قلت كان كالبرق يشق الغيوم، متقمصاً دور الرئيس. يبكر ليتلحق بالقصر. ملفات معقدة كثيرة مطروحة على طاولته. يلبس ثوباً أكبر من مجرد وال أو وزير سابق. الصلاحيات أوسع وقد تكون مطلقة وهو أمر مخيف ومرعب وحساس ودقيق.

ماذا سأفعل؟

كل يوم هو السؤال المسيطر على عقله وروحه؟… وكل يوم هناك إجابات تأتيه غزيرة ومتدفقة من مستشاريه السبعة، أغلبهم من كبار السن (وللأرقام سطوتها وقدسيتها، فالرئيس تبون كما هو معروف ممتثل لكل ما يرمز للدين والغيب والروحانيات وحلقات الذكر وبخور الزوايا ونفحات الأولياء الصالحين…) 7 مستشارين لا غير، كما يقول موقع الرئاسة، من دون احتساب الجيش الذي يقبع في القصر ممن يحملون صفة المكلفين بمهمة، أو تلك الحاشية التي تتعقب خطاه في كل وقت.

إقرأوا أيضاً:

جبهة مستشارين

لعل أبرز مستشاري الرئيس في الوقت الحالي والأقرب إليه هو بوعلام بوعلام، وهو معروف في الكواليس والجلسات والأحاديث بــB.B، الذي كان قبل أن يضمه تبون إلى زمرته الضيقة، مديراً للوكالة الوطنية الجزائرية لمكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. استقدمه تبون من عالم التنصت والمراقبة المبهم الخطير المتوغل في ثنايا الأصوات والأقوال والمحادثات وخفايا الأمور. كان يعرف الكثير، ما سهل عليه المناورات وطرق التحكم، وهو ما استفاد منه الرئيس بشكل واضح.

بعد بوعلام يأتي آخرون، لا نعرف مدى قربهم من الرئيس والقدرات التي يملكونها، يبدو بعضهم كأطياف ضائعة في جنبات القصر، لا يظهرون إلا في مناسبات قليلة. يرمون خطباً أو كلمات أو تصريحات يغلب عليها الوهن والتعب والشيخوخة، وتبدو بلا روح أو مغزى.

فعبد الحميد شيخي صاحب أكبر تكليف كما ورد في موقع الرئاسة والمستشار المكلّف بالذاكرة الوطنية والأرشيف الوطني، اختاره الرئيس لمهمات صعبة متصلة بالذاكرة الجريحة، كانت أولاها أن يقف الند للند مع المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا لوضع مقترحات تخص الذاكرة والثورة والاعتراف بما حصل… جهز هذا الأخير في أقل من عام تقريره وفصله وحبكه، وخيط  نقاطه وحروفه وأسطره وجمله، وقدمه إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. انتظرنا وأنتظر الرئيس والحكومة والرأي العام الجزائري والجميع على اختلاف توجهاتهم، تقرير شيخي. قيل سيكون مفحماً وجباراً وعنيداً وغنياً بالمفاجآت والمقترحات والحلول، لكن طال الانتظار، وحتى اليوم لم يظهر شيء… فيما بقي شيخي يلوك بشكل دراماتيكي وشعبوي ردود فعل بائسة على تقرير ستورا. انتهى الأمر كما هو معلوم إلى هجومات منسقة من طرف ماكرون على الجزائر وتاريخها.

في زحمة مرض محند أوسعيد بلعيد المستشار والمتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، وعجزه عن مواصلة مهماته، انتهى دوره في القصر. طارت مهمة الاتصال والتواصل والإعلام إلى مديرية متشعبة الوظائف والمهمات وأسندت إلى كمال سيدي السعيد. لا يعتبر هذا الأخير من دائرة المستشارين الخاصين لتبون، يقال إنه خبير وعبقري في التسويق الإعلامي، يتولى وفريقه ترتيب الواجهة الإعلامية للرئاسة ولنشاطات الرئيس، لتلميع صورة الأخير وصقلها.

وهذه المديرية  تتابع ما يكتب ويذاع ويصور في الخارج والداخل وتحفظه وتلخصه في تقارير دقيقة صحية وتليق بمزاج الرئيس، تعرض عليه ليأخذ فكرة قريبة من مشاغل المواطن المتناثرة في كل مكان، والأهم تغرد في “تويتر” باسمه في قضايا كبرى أو بسيطة. وعلى رغم الجهد الكبير الذي تقوم به هذه المديرية في تقفي كل صغيرة وكبيرة، إلا أنها لم تبشر بعد بقطيعة نهائية مع ممارسات إعلامية أكل عليها الدهر وشرب، فحتى اللغة المستعملة في بياناتها وإعلاناتها هي لغة خشنة ديماغوجية لا تلفت الإنتباه ولا تشبه العصر وواقع الحال. 

حتى اللقاء الإعلامي الدوري الذي أراده الرئيس تبون وسعى لجعله قفزة نوعية تعد بالجديد شكلاً ومضموناً، الذي يزخر بالمواقف القوية، حولته المديرية إلى بؤرة منمطة باهتة بديكور خافت لا يسر الناظرين، تحضر فيه وجوه إعلامية بقي خيارها يخضع لمعايير مجهولة، وجوه اعتاد الجمهور عبوسها ووجوهها الشاحبة.

أما بقية المستشارين والمكلفين بمهمات كثيرة، فهم في أحسن الأحوال مصطفون داخل القصر، كيانات هلامية، حاضرون بتوقيت روتيني، أو في مناسبات تظهر فيها وجوههم وتسمع أصواتهم، اندمجوا في وظائفهم المختلفة مثل عمال يدخلون إلى المصنع في الساعة الفلانية ويغادرونه بعد حين.

الرئيس مع محيطه… علاقة قلقة أو حائرة؟

سنمر سريعاً على علاقة العسكر مع الرئيس التي تزخر بالأسرار والخفايا والتقلبات، ومهما أولت الأدبيات وحللت وجادلت وحفرت لفهم العلاقة بين العسكري والسياسي في الجزائر، فليس بمقدورها أن تضع على طاولة التشريح الهادئ الشفاف، حجم هذه العلاقات المتشابكة أكانت علاقات متوترة أو صافية أو مزعجة للطرفين أو متوافقة على نقاط معينة. فاليوم ما يحدث خارج الحدود أو قربها وانعكاساته على الداخل، حتمت الركون إلى مسطرة تفاهمات عميقة ناعمة بين القائدين، وبين المؤسستين، بين الرئيس تبون والفريق شنقريحة. هما منسجمان، ومتناغمان، متوافقان على قلب رجل واحد وسيفهم على أعداء كثر، حتى إنهما ترافقا في السيارة ذاتها لحضور بعض جنازات شخصيات الدولة الكبار في الفترة الأخيرة… لا يطلب الرئيس تبون من الفريق شنقريحة سوى ما هو محدد ومبين في الدستور والقوانين والشرائع، الكلمة الفاصلة في الظاهر هي للرئيس وهو يؤكدها في كل مناسبة، وتذاع في لقاءاته الإعلامية أو تكتب في بيانات الرئاسة. فهو في نهاية المطاف القائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع الوطني، يرجع إليه قرار إصدار أي مواقف أو تعليمات أو أوامر، وله الطاعة الكاملة في ذلك وعليه مسؤوليات مطلقة في الحفاظ على مؤسسات الدولة بما فيها الجيش. وهو يريد أن يبقى الفريق شنقريحة كما بهذه الحيوية، لا يبتعد ولا يحيد، يشير وينصح، ويعطي رأياً جامعاً مانعاً في القضايا الشائكة للأمة دون أن يفرضها بالقوة أو خلف الستائر الشفافة أو حتى يوحي أنه يعاكس قرارت الرئيس.

وإذا ما عرجنا على حكومة الرئيس التي تدير برنامجه الواسع الحالم، فاللافت فيها كما يرى متابعون الارتباك والتخبط وضياع بوصلتها وعدم قدرتها على الضبط، ومن ذلك الاحتفاظ بوزراء أصبحت إخفاقاتهم بالصوت والصورة والفعل والقوة والبراهين العينية الواضحة عنواناً صاخباً بل مضحكاً على وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي، ومن هؤلاء وزير التجارة الحالي.

يغيب وزراء آخرون عن الصورة الهشة للواقع الصعب والشائك، متوراين، يرقبون ويترقبون، أو يبدون خائفين، أو غير مصدقين بعد أنهم وزراء، وكأن لا جدوى منهم، لا تحس صخبهم أو تتحسس قلقهم. يدخلون مكاتبهم المريحة بعيداً من الضجيج والفوضى. بعضهم لا يوقع حتى على قرارات مهمة خوفاً من مصير مجهول، ويجرؤ آخرون على الإصغاء العفوي من دون أن يأمروا بالتنفيذ أو السير في تحقيق الأبسط والممكن والسهل، وبعضهم الآخر يدور هنا وهناك ليرى ويسمع ما يدور في محيطات الشأن العام المرتبط بمشاغل وزارته يحدث بعض الفرق الموقت، قبل أن تعود المشكلات من جديد.

حاول وزير الخارجية جاهداً منذ تعيينه تكسير القوقعة التي ضربت بالحديد والأسلاك على سمائنا وأرضنا بسبب اندفاع الرئيس في أحد تصريحاته الإعلامية أثناء لقاء تلفزيوني حول قضايا مصيرية تواجه الأمة العربية، خاضها بحماسة وإقدام وجرأة، من دون تقدير العواقب والمخاطر… كانت تلك أولى تصرفاته الرئاسية الصادقة المؤمنة الحريصة على التفكير في الهمّ العربي التقليدي المشترك، أخفق في الرد على سؤال مضن وخطير ومفخخ حول تطبيع بعض الدول مع إسرائيل، كما لاحظ كثيرون. تداعت تصريحاته البريئة وانفجرت ببطء في وجهنا واندلعت نيران صامتة تشتعل خفية حولنا وتحيط بنا وهي اليوم تزداد خطورة وترتد نفحاتها القاسية علينا في كل لحظة.

جردة بسيطة لما قام به وزير الخارجية رمطان لعمامرة أمام مبضع الرأي ستوضح أن كفة نجاحاته بقيت تراوح مكانها، لقاءات ومصافحات وأقوال وخطب وتنديدات والحث على التصدي والمواجهات والصمود، يلقيها في بيانات وتصريحات، لا يعني ذلك أن الرجل غير متمكن ولا يفهم في خبايا الديبلوماسية وكواليسها، ولكن الأحوال تبدلت، والعالم تغير من النقيض إلى النقيض، حتى المصطلحات والقيم وقواعد اللعبة العالمية غدت مرتبطة باللحظة والمصلحة القصوى. فما كان يصلح سابقاً، لم يعد نافعاً الآن.

تراكمت أمام هؤلاء الوزراء العقبات، فما كان في الأمس سهلاً، زاد تعقيداً اليوم، وما اعتقد أنه صالح أصبح طالحاً، وما كان ميسراً بات عسيراً، والثابت تغيّر الآن. هذا من دون أن نهمل خلو أرواح كثيرين منهم من حس المبادرة الخلاقة والخيال المبتكر، فهم رضوا بحظهم السعيد الذي وفرته لهم سياسة المحصاصات منذ الاستقلال بين مكونات النظام سواء كانوا معه أو ضده، واختزلت التعيينات في التزكيات والولاءات والموالاة والصحبة والعشائرية والجهوية، لتقاسم المنافع والمصالح الضيقة. لقد أكتفى هؤلاء بلقب سيادة الوزير، من دون أن تتلبسهم هذه المهمة بالفعل.

لمدة عامين استفاض الرئيس تبون في التبشير بخروج عهد جديد للجزائر بملامح قوية تنهي العهد البائد لعصابة العشرين سنة التي شيدت صروحها كما قيل على الفساد. قال وأكد وأصر وألح على أنه ماض بسرعة لإنشاء صروح أخرى بعدما اكتمل بناء مختلف المؤسسات الشرعية. في كل مرة ينبه إلى أن عددها 54. في وعيه يمثل هذا الرقم قدسية خاصة فهو العام الذي اندلعت فيه الثورة وسارت معه قاطرة الاستقلال والحرية. فهل سيجر تبون الجزائر معه إلى حيث نحلم؟ ومتى وكيف؟ 

إقرأوا أيضاً: