fbpx

موازنة الحكومة اللبنانية لمواصلة الانهيار:
ضرائب على الفقراء وإعفاءات للنافذين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تستكمل الحكومة ما بدأه رياض سلامة: مهمّة التملّص من إجراء الإصلاحات الجذريّة الكفيلة بإخراج البلاد من محنتها، لمجرّد تعارض هذه الإصلاحات مع مصالح الفئات الأكثر نفوذاً مالياً وسياسيّاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

حين تمّ تعيين يوسف الخليل وزيراً للماليّة في حكومة ميقاتي، كان من الواضح أن ثمّة سلسلة طويلة من المخاطر التي ستتأتّى نتيجة تعيين موظّف لدى رياض سلامة في هذا الموقع بالتحديد. وبصورة أدق: توجّس كثيرون من إمكانيّة استتباع السياسة الماليّة للدولة اللبنانيّة، وجعلها مجرّد حلقة مكمّلة للسياسات التي يرسمها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، على وقع الانهيار، مع كل ما يحيط بسياسات الحاكم من التباسات وإشكاليّات لا تُخفى على أحد. وبشكل من الأشكال، كان هذا التطوّر سيعني فرض رؤية سلامة للمعالجات الماليّة على سائر أجهزة الدولة اللبنانيّة ووظائفها، وهي رؤية لا تمثّل سوى كتلة من المصالح العميقة والمتشابكة بين أقطاب النظام السياسي وكبار النافذين داخل النظام المالي. 

ومنذ تشكيل الحكومة، ظلّت مسودّة الخطة الماليّة التي تعمل عليها الحكومة سرّاً من أسرار الدولة التي لم يطلع عليها أحد، فيما امتنعت الحكومة عن الاجتماع لفترة قاربت الثلاثة أشهر و12 يوماً، ما حال دون التحقّق فعلاً من السياسة الماليّة التي ستنتهجها الحكومة في عملها أو معالجتها. أمّا اليوم، ومع صوغ وزير الماليّة أولى مسودّات مشروع قانون الموازنة العامّة، والتي يفترض أن تحدد الملامح الرئيسيّة لسياسة الحكومة الماليّة بعد إقرارها في مجلس النوّاب، ومع إنجاز مجلس الوزراء التعديلات التي يريدها على المسودّة، بات بالإمكان الحكم على التوجهات الماليّة التي ستحكم عمل الحكومة، وخصوصاً من جهة مدى استتباعها السياسات التي يعمل عليها حاكم مصرف لبنان منذ بدء الانهيار المالي. مع الإشارة إلى أنّ هذا التقييم بات متاحاً أيضاً عبر تقييم الخطوط العريضة للخطة الماليّة التي تعمل عليها الحكومة، كما تسرّبت في الفترة الأخيرة خلال الأيام القليلة الماضية. 

من الناحية العمليّة، قد يبدو للمتابع أن ثمّة مبالغة في الربط بين مسألة ماليّة بحتة كالموازنة، ومعالجات ذات طابع نقدي أو مصرفي، كالتي امتهنها حاكم مصرف لبنان منذ حصول الانهيار المالي. لكنّ الطابع الانكماشي للموازنة العامّة، وطبيعة الأولويّات التي تخدمها، تنسجم اليوم بشكل مثالي مع الإجراءات الأخيرة الذي ذهب إليها سلامة. فيما تنسجم في الوقت نفسه الموازنة وإجراءات الحاكم معاً مع الخطوط العريضة للخطّة الماليّة الحكوميّة التي يتم التفاوض عليها مع صندوق النقد الدولي، وفقاً للتسريبات الأخيرة.

الموازنة الانكماشيّة وسياسات سلامة النقديّة

جولة صغيرة في صفحات مشروع قانون الموازنة تظهر غياباً شبه كامل للنفقات الاستثماريّة، وخصوصاً تلك التي تُعنى بإنعاش القطاعات الإنتاجيّة التي تئن في ظل تردّي البنية التحتيّة بكل أشكالها. الإنفاق على شبكات الحماية الاجتماعيّة شبه معدوم، سواء في ما يخص البطاقة التمويليّة أو حتّى في ما يتعلّق بالأمن الصحّي والحاجات التمويليّة الداهمة للمستشفيات الحكوميّة. أمّا تصحيح أجور العاملين في القطاع العام، فغائب كليّاً، مع استبداله بمساعدة اجتماعيّة موقتّة، هي عبارة عن راتب شهر واحد يُمنح لكل موظّف. وحدها خدمة الدين العام حظيت بشرف الحفاظ على الاعتمادات المرصودة لدفعها، برغم أن هذا الدين يُفترض أن يكون اليوم ديناً متعثّراً خاضعاً للتفاوض وإعادة الهيكلة، بدل أن يتم سداد فوائده، نظراً إلى إعلان الدولة امتناعها عن السداد منذ آذار/ مارس 2020، ما يجعل هذه الاعتمادات مجرّد إنفاق عبثي غير هادف.

إذاً، هي موازنة انكماشيّة قاسية من ناحية بنية نفقاتها، من النوع الكفيل بإطلاق ركود قاسٍ في أي اقتصاد طبيعي، فما بالك باقتصاد منهار لا يمكن أن يسلك مسار التعافي من دون دعم حكومي شامل. ولهذا السبب تحديداً، لا يبدو أن من أشرف على إعداد الموازنة وضع في حساباته دفع البلاد باتجاه السير نحو النمو الاقتصادي هذه السنة، من خلال سياسة إنعاش مالي تتكامل مع خطة التعافي الحكوميّة، بل اتجهت الحكومة نحو مقاربة محاسبيّة بحتة، استهدفت الوصول إلى أدنى مستوى من الإنفاق في جميع مجالات الاستثمار وشبكات الحماية الاجتماعيّة. أمّا الهدف، فهو شراء الوقت من خلال تمرير الموازنة كصك قانوني للإنفاق والجباية، من دون الذهاب أبعد من ذلك على مستوى التعامل مع جذور الأزمة الماليّة.

في واقع الأمر، تتكامل هذه المقاربة الماليّة، التي تم اعتمادها في مشروع قانون الموازنة العامّة، مع مقاربات السياسة النقديّة التي يعتمدها حاكم مصرف لبنان، وهو ما يجعل مشروع قانون الموازنة مجرّد حلقة مستتبعة لسياسات الحاكم. فعمليّة تخفيض سعر صرف الدولار مقابل الليرة، تمّت خلال الفترة الماضية من خلال بيع الدولارات النقديّة مقابل الليرات النقديّة، وبسعر صرف المنصّة عبر الفروع المصرفيّة. وهذه السياسة النقديّة التي استهدفت امتصاص الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، بمعزل عن تداعيات هذه الخطوة الخطيرة على المستوى الاقتصادي، تتكامل اليوم مع مشروع قانون الموازنة الذي حرص على لجم الإنفاق للحد من حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة في السوق.

في  النتيجة، نحن أمام سياسة نقديّة خفّضت سعر صرف الدولار مقابل الليرة بشكل موقّت وغير مستدام، ومن دون أي رؤية لكيفيّة إدارة السياسة النقديّة على المدى الطويل، وبكلفة باهظة على احتياطات مصرف لبنان من العملة الصعبة التي تم ضخها لتنفيذ هذه العمليّة، بل وبكلفة باهظة أيضاً على الاقتصاد المحلّي الذي سيدفع ثمن لجم الكتلة النقديّة المتداولة بهذا الشكل. وفي الوقت نفسه، سنكون أمام سياسة ماليّة تنتهجها الموازنة العامة، تسعى إلى تحقيق الهدف نفسه، على حساب لجم الإنفاق الاستثماري وتغييب شبكات الحماية الاجتماعي. وفي الحالتين، لا تندرج أي من السياستين في إطار حل شامل للأزمة، أو في إطار خطّة ذات صدقيّة تمكّن البلاد من الخروج من أزمتها. 

إقرأوا أيضاً:

الضرائب والرسوم

في ما يخص الضرائب والرسوم الواردة في مشروع قانون الموازنة، تتجه سياسة الدولة الماليّة مرّة أخرى إلى تحميل الفئات محدودة الدخل كلفة الأزمة، من خلال ارتكازها على زيادة الضرائب والرسوم غير المباشرة، مقابل كتلة من الإعفاءات التي يمكن أن تستفيد منها الفئات النافذة ماليّاً. 

فعلى سبيل المثال، ينص مشروع القانون على مجموعة من الإعفاءات الضريبيّة التي تستفيد منها شركات “الأوف شور” المسجّلة في الخارج، مثل الإعفاء من ضريبة الدخل وتملّك رؤوس الأموال المنقولة وضريبة الرواتب لموظفيها، إضافة إلى الفوائد التي تدفعها للمقيمين خارج لبنان. كما نصّ مشروع قانون الموازنة على إعفاء الشركات الدامجة من ضريبة الدخل، ما يمهّد لتخفيض كلفة الضرائب على المصارف التي ستخضع لعمليات دمج واستحواذ خلال الفترة المقبلة. مع الإشارة إلى أن هذه العمليات متوقعة تحديداً بالنسبة إلى المصارف التي لم تتمكّن من الامتثال لمتطلبات إعادة الرسملة، التي وضعها مصرف لبنان في تعاميمه.

في المقابل، توسّعت الموازنة في فرض كتلة من الرسوم الجديدة، أو زيادة الرسوم القائمة، والتي سيدفع كلفتها عموم المستهلكين من محدودي الدخل، بخلاف ادعاء وزير الماليّة الذي صرّح بأن موازنته لم تنص على استحداث أي ضرائب جديدة. فالموازنة نصّت على رسم جديد بقيمة 5000 ليرة على أي معاملة تتم لدى المخاتير، كما رفعت- بمعدلات متفاوتة- تعرفات الفواتير والإيصالات الناتجة عن معاملات المواطنين لدى المؤسسات العامّة. 

نصت مواد أخرى على زيادة رسم مقطوع على السلع المستوردة والخاضعة للضريبة على القيمة المضافة (بنسبة 3 في المئة من قيمتها)، إضافة إلى رسم آخر بنسبة 10 في المئة من قيمة السلع التي يتم استيرادها والتي تُنتج محلّياً (حتى لو كانت مستويات الإنتاج المحلّي لا تكفي لتغطية جزء وازن من الطلب عليها). وإضافة إلى كل ذلّك، نصّت الموازنة على زيادة رسوم الخروج المفروضة على المسافرين اللبنانيين جواً أو براً، كما نصّت على زيادات وازنة في الضريبة على المعاملات العقاريّة.

حكومة بلا رؤية ماليّة

باختصار، لا يوجد في كل طرحته الموازنة ما يوحي بامتلاك الحكومة رؤية ماليّة قادرة على دفع البلاد نحو الخروج من الانهيار، كما لا يبدو أن سياسات حاكم مصرف لبنان، التي تتكامل معها سياسة الحكومة، تملك هذه الرؤية. 

حتّى في ما يخص خطة التعافي التي عملت عليها الحكومة في الفترة الأخيرة، والتي يفترض أن تحملها إلى صندوق النقد للتفاوض، ينحصر نطاق هذه الخطة اليوم في توزيع الخسائر ومعالجة أزمة القطاع المصرفي، على حساب المودعين وسائر المقيمين، بدل أن تحمل رؤية للاقتصاد البديل الذي يجب أن يتجه نحو لبنان في مرحلة التصحيح المالي. 

تستكمل الحكومة ما بدأه رياض سلامة: مهمّة التملّص من إجراء الإصلاحات الجذريّة الكفيلة بإخراج البلاد من محنتها، لمجرّد تعارض هذه الإصلاحات مع مصالح الفئات الأكثر نفوذاً مالياً وسياسيّاً. أما البديل، فشراء الوقت بهذه الطريقة، من السياسات المكلفة على المستوى الاقتصادي، والتي تفاقم آثار الأزمة على عموم المقيمين في لبنان. هذا ما يحصل لسياسة الحكومة الماليّة حين تعيّن موظّفاً لدى رياض سلامة برتبة وزير ماليّة. 

إقرأوا أيضاً: