fbpx

كمين لحاجز النظام السوري في قريتنا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“شايفة يا حجّة شو صار فيكن من ورا الحرّيّة اللي بدكن ياها!” فأجابته، من دون أن تلتفت إليه: “والله يا خالة مابدنا لا حرّيّة ولاغيرها كلّ اللي بدنا ياه إسقاط هالنظام”. كانت إجابتها أقسى من رصاصة في رأس الضّابط، وفي صدور عناصره.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أدخلت الثورة السورية إلى البلاد مفاهيم كثيرة، لم نكن قبلها، نعرف شيئاً عنها، سوى في الكتب التاريخيّة الّتي نقرأها عن شعوب أخرى، وعن ثوراتها، ومن اللافت في مكان ما، أن أبرز تلك المفاهيم،، هو مفهوم الشعارات، وتحديداً تلك المناهضة للأنظمة والخارجة عن السائد، الّتي أخذت ضمن مناحٍ كثيرة، مأخذ ترديدها بشكل ببغائي، دون الإيمان بها أو حتّى فهمها.

كان دخول شعارات جديدة إلى ثقافتنا، يشبه دخول غيمة محملة بالمطر إلى أرض قاحلة. شعارات ذات كرامة خاصة، تمحو كلّ ما قام نظام البعث بحشوه في  رؤوسنا، على مدار خمسين عاماً، من شعاراتٍ تُمجّد “القائد الخالد” ونظامه العسكري، الذي دسّه في طعامنا وشرابنا ودفاترنا وحتى في ثيابنا المدرسيّة.

وهذا هو السّرّ في قولنا: “إننا نطرب” عند سماعنا تلك الشعارات في الهتافات العالية، خلال التظاهرات.

ولا أنكر أيضاً، أن الشعارات التي أخذت طابعاً دينيّاً شوّهت إلى حدّ كبير ذلك الشعور بالحريّة المطلقة، في قول ما نريد قوله.

وربما-كشاهدَين لما سأرويه بعد قليل- فإنّ أبرز تلك الشعارات على الصّعيدين، الثّوري والدّيني، الّتي تصدّرت الهتافات في التظاهرات، هما “الشعب يريد إسقاط النظام” و “التكبير”. 

هذا الأخير الذي اعتُبر فيه أنّ قول “الله أكبر” هو انضمام رسميّ إلى صفوف الثوار المقاتلين.

“والله يا خالة مابدنا لا حرّيّة ولاغيرها كلّ اللي بدنا ياه إسقاط هالنظام”.

المكافآت فرديّة والعقوبات جماعيّة: مدنيّون تحت قوانين عسكريّة

اعتادت قريتنا منذ بدء الثورة، على الاقتحامات اليومية التي ينفذها عناصر الأمن التابعون للنّظام، في حملات اعتقالات وتفتيش عن المطلوبين، لكن بعد مرور عام تقريباً، انتشر السلاح بين عناصر الجيش الحرّ داخل القرية، وصار أيّ اقتحام، يقدم عليه جيش النظام، يستوجب اشتباكاتٍ قد يروح ضحيّتها كثيرون من الطرفين، لذلك صار يكتفي- النظام- بنشر جيشه وعناصره على أطراف القرى، ونصب حواجزه على مداخلها وجميع مخارجها.

كان الهدوء مسيطراً على الوضع عموماً، لفترة لا بأس بها. حتّى إن الناس خرجوا في تظاهرات داخل القرية، من دون أن يجرؤ أمن النظام على اقتحامها.

رمضان 2012

يزداد الهدوء في شهر رمضان، بخاصة خلال الدقائق الّتي تسبق أذان الإفطار. وبينما كانت كلّ عائلة تجلس إلى مائدة الطعام، منتظرةً “الله أكبر” لتبدأ إفطارها، سمع الجميعُ  صوت إطلاق “رصاصة واحدة” دوّى صداها في القرية كلها، وقد ساد هدوء مخيف بعدها، تلاه صوت زخات من الرصاص، دامت لأكثر من عشر دقائق،  ثمّ هدأت.

تكرّرت تلك الحادثة على مدار الأيام العشر الأولى من رمضان، وأُطلقَ لقب “أبو طلقة” على ذلك الشخص الذي كل يوم قبل الإفطار، يكمن لأحد الحواجز المنصوبة حول القرية، يرميه برصاصة واحدة فقط، ثمّ يهرب. وإذ لا يتمكّن أحد من التعرّف إليه، فلا يكون من عناصر الحاجز التابع للنظام سوى أن يوجّهوا بنادقهم وسبطانات دبّاباتهم وأسلحتهم الثقيلة نحو المكان الّذي خرجت منه الرصاصة، ويقوموا بحصد كل ما في مرماهم، من بيوت ومدارس وبساتين وقطط.

كان أبو طلقة، ينتقل بين الحواجز على متن درّاجة ناريّة، ما خلق لقوات الأمن مسوّغاً (أمام الرأي العام العالمي) لإصدار قرار، يخوّلهم اقتحام القرية بحجّة البحث عن الأشخاص المُسلّحين، وكانوا يدخلون بتعزيزات كبيرة إلى كلّ البيوت.

لم يوفّروا شارعاً أو حديقة، ولا بيتاً مهجوراً ولا ساحة عامّة إلّا واجتاحوها بالدبّابات والمُشاة وحاملات الجنود، والأسلحة الثقيلة، وكان من بين البيوت التي دخلوا لتفتيشها، بيتٌ يعود لعائلة مسيحيّة، يسكن فيه ربّ العائلة (العم ميشيل، 50 سنة) وزوجته (الخالة جورجيت، 43 سنة). العائلة المسيحيّة الوحيدة في قريتنا.

إقرأوا أيضاً:

دخل العناصر بأحذيتهم وروسيّاتهم والقنابل المحمولة على صدورهم، فتّشوا كل الغرف، في الحمام والمطبخ وعلى سطح البيت فلم يجدوا شيئاً، بينما العم ميشيل يقف جانباً ويرتجف. زوجته تراقب من نافذة إحدى الغرف. إلى أن فجأة وسط التّرقب والحذر،  ظهر من بين أشجار الزيتون المحيطة بالمنزل، عنصر أمنٍ يجرّ “درّاجة ناريّة” وجدها مُخبّأةً خلف إحدى الأشجار، وأخبره الجيران إنها تعود للعم ميشيل.

نظر الضابط إلى ميشيل نظرة استفسار غاضبة، فما كان من الأخير سوى أن اقترب منه متوسّلاً: “والله يا سيدي نحنا عائلة مسيحيّة، ما إلنا علاقة بشي”.

ابتسم الضابط ابتسامة ساخرة، ثمّ أمر عناصره بأن يحرقوا الدّراجة أمام ميشيل وزوجته، بينما يقول له: “سوريا الأسد، ما فيها مسلم ومسيحي هون طول عمرنا واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”.

فما كان من العم ميشيل بعدما غادرت الدّورية، سوى أن نظر إلى زوجته، نظرة انكسار وصاح بها غاضباً: “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد، كبّري يا جورجيت كبّري” في إشارة منه إلى رغبته في الانضمام إلى صفوف الثوّار المقاتلين.

في نهاية ذلك اليوم، وصلت عمليات التفتيش والمداهمة إلى آخر القرية من الجهة الأخرى، دخل الجنود المسلّحون وعناصر الأمن إلى بيت بسيط عند أطرافها، يعود لامرأة عجوز، عمرها تجاوز الثمانين، تعيش لوحدها مذ مات زوجها.

أجلسها الضابط على كرسيّ خارج غرفتها، وتركَهَا تراقب بعينيها من خلف نظارتها السميكة، كيف يقوم العناصر بتحطيم الأثاث، وتكسير كل شيء يظهر في طريقهم.

ثمّ نظر إليها، وقال مُحاولاً تبرير فعلته: “شايفة يا حجّة شو صار فيكن من ورا الحرّيّة اللي بدكن ياها!” فأجابته، من دون أن تلتفت إليه: “والله يا خالة مابدنا لا حرّيّة ولاغيرها كلّ اللي بدنا ياه إسقاط هالنظام”.

كانت إجابتها أقسى من رصاصة في رأس الضّابط، وفي صدور عناصره.

إقرأوا أيضاً: