fbpx

جرذ في غرفة المؤونة ينقذ عائلة
سورية من جيش النظام

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يكن أحد يعلم ليلتها، أن تلك البيوت المتفرقة، المحيطة بالثكنة، تعتبر بالنسبة إلى عناصر جيش النظام ومخابراته، أماكن تهدّد محيطهم، قد يستخدمها الجيش الحر كمراكز للهجوم على الثكنة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم أتمكّن أبداً من تخيّل أنّ ذلك حدث فعلاً، ولولا ثقتي بدموع المرأة الّتي انهمرت أثناء حديثها، لقلت إن كلّ شيء كان مجرّد خيال، لا يحدث إلّا في الأفلام، فمن يصدّق، أنّ عائلة كاملة نجت من القتل، أو بتعبير أدق من التصفية على يد قوّات الأمن التّابعة للنّظام، وأنّ سبب نجاتها كان “جرذاً”!

قد يبدو الأمر سورياليّاً في ظاهره، لكنّه في الحقيقة، يحدث في سوريا، حيث يحدث أيضاً ما هو أفظع.

بدأت حالات النزوح والهروب من المنازل تزداد، حين باشرت أوّل طائرة تابعة لجيش النظام السوري برمي الأحياء السكنية بالبراميل المتفجّرة، ما  أجبر الناس على الانتقال من الحارات المستهدفة إلى الحارات الأبعد، الأكثر أماناً، وإن في المنطقة ذاتها، فالنزوح كان مرتبطاً بفكرة أنّه موقّت. “كم يوم ومنرجع” هذه العبارة، كانت مُعادلاً بسيطاً للقهر والذل وقلّة الحيلة، أمام طائرات تدمّر السكّان والمدن.

في صيف 2014، اضطُرّت إحدى العائلات للنزوح. وبما أن الخيارات المتاحة لم تكن كثيرة، فقد لجأت  إلى بيت أحد الأقارب، الذي بدا خياراً جيّداً، لكنه في الحقيقة لم يكن آمناً تماماً، فأصحابه الذين تركوه وسافروا منذ الأيّام الأولى لبدء الثورة، لم يفعلوا ذلك بلا سبب.

مشكلة البيت كانت تكمن في موقعه القريب من إحدى الثكنات العسكرية التابعة لجيش النظام، الموجودة عند طرف القرية، يفصل بين البيت والثكنة سهل واسع، تتفرق فيه بضعة بيوت أخرى.

لم يكن لدى تلك العائلة خيارات غيره. وكانوا يواسون أنفسهم بالقول: “على الأقل هون مارح تقصفنا الطيارات” .

مرّت أيام قليلة منذ نزوحهم إلى المنزل الجديد، وكانت الأمور جيّدة إلى حد ما، تسمح لهم بالجلوس على شرفة البيت الوحيدة، المُطلّة على الثكنة، هرباً من الحر الشديد وانقطاع الكهرباء.

على الشرفة، كان يجلس رب العائلة وزوجته وابنتهما الصغيرة (15 سنة) تزورهم الجدّة بشكل يوميّ حين يكون الوضع مناسباً، أي؛ لا طائرات تحلق في سماء المدينة.

يجتمعون في محاولة لقتل الوقت الّذي يمرّ بطيئاً. لولا أنّ حدثاً مُفاجئاً في إحدى الليالي، جعلهم يزحفون على بطونهم وأيديهم من شدّة الذعر، محاولين الاحتماء داخل المنزل، حيث اخترقت السقف فوق رؤوسهم، رصاصة قنّاصة، كان مصدرها، الثكنة المقابلة لهم، تلتها رشقات استقرت في واجهة المنزل.

مرّت أكثر من ساعتين، بينما يختبئ أفراد العائلة  داخل غرفة من غرف البيت، لا يعرفون ما الذي يمكن أن يحدث في أيّ لحظة. الخوف والرعب من الاحتمالات الكثيرة الممكنة، الّتي تفتح في جميع الحالات على موت وشيك.

مرت تلك الليلة بشكل مرعب، وزاد الأمرَ سوءاً، انقطاع الكهرباء، وأيضاً، صوت رنين الهاتف الأرضي الذي لم يهدأ، ولم يجرؤ أحد على الإجابة، تقول الزوجة: “كنت أشعر أنّ خلف ذلك الاتصال يتربّص موت قريب، لذلك توسّلت الجميع ألا يرفعوا السماعة”.

لم يكن أحد يعلم ليلتها، أن تلك البيوت المتفرقة، المحيطة بالثكنة، تعتبر بالنسبة إلى عناصر جيش النظام ومخابراته، أماكن تهدّد محيطهم، قد يستخدمها الجيش الحر كمراكز للهجوم على الثكنة، لذلك كانت مُراقبة بدقّة استخبارتيّة، وكان مخوَل للعساكر، حرّاس الثّكنة، إطلاق النار على أي شيء يتحرّك في المحيط، مهما كان.

في اليوم التالي، استيقظت العائلة على صوت الهاتف الأرضيّ يرنّ مرّة أخرى، فقرّر الزوج أن يردّ “واللي بدو يصير يصير” على حدّ قوله. رفع السماعة، وإذا بصوت إحدى جاراتهم في المنزل القديم (الذي نزحوا منه) تصرخ بغضب “وينكن صرلي من مبارح كلّ اللّيل عم اتّصل وما حدا عم يرد”…

صمت الزوج قليلاً ثم سألها بعدما تنهّد: “خير شو صاير” فأخبرته أنها طيلة ليلة أمس، تسمع صوت تحطم أثاث وزجاج في منزلهم، ثمّ همست “يمكن عم يعفشوه”.

والتعفيش هو مصطلح يشير إلى قيام عناصر جيش النّظام بسرقة أثاث المنازل التي ينزح منها أصحابها.

ذلك الخبر، زاد الخوف والقلق في قلوب الجميع، لكنّ الزوجة تشجّعت وقرّرت أنها ستذهب برفقة ابنتها إلى البيت القديم لاستطلاع الأمر، بينما يبقى الزوج هنا، لحماية هذا البيت في حال حدث طارئ ما. لذلك قرر الزوج أن يواجه الخوف ويفتح الباب، بل ويخرج إلى الشرفة، مشجّعاً نفسه بعبارة “لشو بدنا نبقى خايفين ونحنا مو عاملين شي!”. وفعلاً، ما إن فتح الباب حتى ظهرت لهم حياة شبه معدومة في الخارج، حيث كان الهدوء مريباً جدّاً، ما دفع الزوجة إلى الاستعجال  مع ابنتها، للذهاب إلى البيت القديم، كما كان الاتفاق.

إقرأوا أيضاً:

وحده الزوج يعرف كيف قُتل ضياء…

بعد مرور أقل من 10 دقائق على خروج الزوجة وابنتها من البيت، لاحظ الزوج أن السهل الممتد أمامه، أخذ يعجّ بالعساكر، الّذين تجمّعوا قرب الثكنة، ثمّ بدأ يسمع أحد الضباط عبر مكبّر الصّوت، ينادي على شاب يرعى بعض الأغنام في ذلك السّهل، يأمره أن يتوجّه نحوهم، رافعاً يديه في الهواء. وما إن وصل إليهم، فتّشوه بعنف، ثمّ ناوله الضابط “طرف كابل كهربائي” واضح أنّه مُمدّد تحت الأرض، وطلب منه أن يقوم بسحبه والسير وراءه ليعرفوا أين ينتهي طرفه الآخر.

الزوج يجلس على الشرفة، يراقب ما يحدث بخوف متواتر، إلى أن لاحظ، أنّ الرّاعي يتّجه في سيره نحو البيت، هو ما زال بعيداً، لكن المسار واضح جدّاً. في تلك اللّحظة، رنّ الهاتف مرة أخرى، فنهض الزوج، رفع السّماعة، وكانت زوجته. تخبره أنّ أصوات التحطيم في بيتهم القديم خلال ليلة أمس، كانت سببها جرذ، يختبئ في غرفة المؤونة، وطلبت أن يأتي فوراً للتخلص منه، لأنّه يتلف الطعام.

البيت القديم يبعد مسافة حارتين فقط من البيت الجديد.

وجد الزوج في ذلك الأمر ذريعة للخروج من تلك الحارة، لدرجة أنّه لم يضيّع وقته حتى في تبديل ثيابه، خرج من الباب الخلفي واتّجه نحو البيت القديم، لكنّه ما إن وصل وصار مع زوجته وابنته، حتّى سمعوا صوت تفجيرات بعيدة، تلتها الأخبار التي انتشرت في القرية، عن أنّ جيش النظام اقتحم كل البيوت المحيطة بالثّكنة، بعدما حاصرها، ثم قام بتفجيرها وتصفية كل الّذين وُجِدوا يسكنون فيها، بحجّة أنّهم اكتشفوا عبوات ناسفة مزروعة في السهل، حيث انفجرت إحدى تلك العبوّات بالراعي ضياء (26 سنة).

ما كان من الزوج، سوى أن نظر إلى زوجته وقال لها: “لولا هالجردون كنّا هلق مرميّين بالسهل، عم تنهش بجثثنا كلاب الشوارع”. ومن دون تفكير أو تأخير، أغلقوا باب البيت القديم وراءهم، ونزحوا من طريق التهريب إلى قرية أخرى، ثمّ بعد أيّام، سافروا إلى لبنان، لأن مخابرات النظام وعناصر أمنه لن يتركوهم وشأنهم.

إقرأوا أيضاً: