fbpx

الممانعة إذ تنصر بوتين ثقافياً 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إعلام الممانعة يأبى عندنا إلا أن يشارك في حفلة السلطوية، فينصب “أخاً أكبر” ثقافي، لتخوين كل معترض على قتل الناس في أحياء كييف، تحت طائلة “الخضوع للرجل الأبيض”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

خصصت صحيفة “الأخبار” الناطقة باسم الممانعة، ملفاً ثقافياً، لتبرير حرب فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا، فتوزعت عناوين ملفها بين ثلاثة، “بلطجَة الغرب”، و”رُوسُوفوبيَا: في ذمِّ مثقف الكولوناليات الشَّقراء” و”في متاهة النيوكولونيالية: عرب وضاعوا”، فضلاً عن عناوين المقالات التي تركزت على مركزية سردية الأوروبي وعدم تصديق الروايات المضادة لتلك التي يصنعها “الرجل الأبيض”. وهذه العناوين إذ، تستعيد لازمة ثقافية شعبوية مكررة حول كراهية الغرب وأبلسته وجعله سبب كل شرور العالم ومشكلاته، فإنها تضع مثقفين عرباً، قدموا مقاربات متفاوتة حول الغزو الروسي، في قفص الاتهام، باعتبارهم غير مؤيدين لمغامرات “القيصر” وحروبه. ويتم تغليف الاتهام، بعناصر اللازمة الثقافية، بحيث يبدو التقاعس عن تأييد النظام الروسي، سقوطاً في “النيوكولونيالية” و”خيانة”، وخضوعاً لـ”المركزية الأوروبية”.

في تصميم النسخة الورقية للملف، وُضعت صورة عملاقة، للكاتب الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، وأمامها مقتطفات من كلام المثقفين المستهدفين وسواهم. فبدى سعيّد الذي خصص جزءا كبيراً من كتاباته لتحذيرنا من خطر اختراع الغرب صورتنا لنا واستغلالها في السياسة، “أخ أكبر” يراقب كتابات، لا تروق له، ولا تتطابق مع حساسيته المناهضة لتمثلات الغرب لنا. ويحضر سعيد أيضاً في الشهادات المنتقاة، إذ يُخصص له مقتطف من مقالة بعنوان، “خيانة المثقّف، لا مقاومة من دون ذاكرة”، نُشِرَتْ في “لوموند ديبلوماتيك” آب/ أغسطس 1999، “في سياق القصف الأطلسي الممنهَج لصربيا”، بحسب الصحيفة. وينتقد سعيد في كلامه المجتزأ، التضحية بالديبلوماسية على اعتبار أن الضحية ليست من الجنس الأبيض، ويرفض “تمويهُ الوطنية في شكل نزعة قومية”، بحيث يصير الإخلاصُ للأمة “أقوى من الوعي النقدي”، و”خيانةَ المثقفين وإفلاسهم الأخلاقي يصيران في حكم القضاء المبرَم”. 

وبمعزل عن السياق الذي حكم آنذاك نص سعيد، وتقييمنا له، فإن هدف الممانعة، في استحضار جزء من النص، هو التلميح تجاه “المقاومة الأوكرانية” ضد جيش بوتين، حيث يتقاطع كلام سعيد المختار مع اتهامات الرئيس الروسي لمن يتصدى له في أوكرانيا بـ”القوميين المتشددين”.

وبقدر ما تبدو الاستعانة بسعيد، انتقائية، إذ يتم الاعتماد على مقتطف من مقال، لبث رسالة ضمنية تؤبلس “المقاومة الأوكرانية” بقدر ما يبدو صاحب “الاستشراق”، المرجع المثالي الذي تعود إليه الممانعة عند كل حدث ليمدها بالحجج والمبررات الثقافية، بهدف خلق اصطفاف سياسي، مع ديكتاتور أو نظام قاتل. فسعيد، وفر بنية تحتية فكرية، للتشكيك والاشتباه بكل ما يأتي من الخارج، ما حرم الداخل، المستعصي على إحداث تغيرات جوهرية، أيَّ إمكانية للارتباط بالعالم، في سياق تفاعلي منتج، غير استهلاكي يكتفي بالتقنية. لذا، تمت “عملقة” الكاتب الراحل، في تصميم الملف، ليحاسب المثقفين الرافضين للغزو، وهؤلاء بحسب مقدمة الملف، تابعون لـ”أنظمة بدورها تابعة للقوى الاستعمارية مباشرة”. ويقدمون خدمات “للسفارات والقنصليات وصنائعها من جماعات السلفية الجهادية” ولا يجدون ضيراً “في تبرير حصار العراقيّين وتجويعهم (العقوبات الغربية على نظام صدام حسين)، ولا في تقديم خدمات استشاريّة للبنتاغون”. النزعة الاتهامية، بمعزل عن ابتذالها، تنطلق من فكرة الابتعاد من التأثير السعيدي في الثقافة العربية، خصوصاً التعامل مع الغرب. وتحصر التعامل مع الأخير إما برفضه باعتباره “رجلاً ابيضاً”، و”هيمنة” و”مركزية”، و”استشراق” أو التخوين والخضوع والتسليم بمرجعية الآخر. لا مكان للعقلانية في مقاربة الممانعة لهذه المسألة، لا سيما أن معيارها هو إدوار سعيد، إذ إن اعتماد الأخير، كمرجع ومثال، لبناء خلطة ثقافية تنحدر نحو الشعبوية والاتهامات، هدفه سياسي، بحيث يبدو سعيد والمفاهيم الناقدة للكولونيالية، في خدمة بوتين ولتلميع صورته.  

 ومع أن القيمين على الملف، عمدوا إلى التذاكي، فنوّعوا في اختيار المثقفين، وأدرجوا آراء متفاوتة حول غزو أوكرانيا، شملت سلافوي جيجيك ونعوم تشوميسكي عالمياً، وشعراء وباحثين عرباً، بينهم زكريا محمد. لكن المستهدفين، كانوا بوضوح، الشاعر اللبناني عباس بيضون الذي اعتبر “عبادة القوة في العقل القومي” وراء الافتنان العربي ببوتين وغزوه، والناقدة العراقية فاطمة المحسن، التي انتقدت قفزة بوتين الحمقاء مقارنة إياها بغزو صدام حسين الكويت، والشاعر المغربي، عبد اللطيف اللعبي الذي دعا إلى الوقف مع الشعب الأوكراني الذي يقف في الخطوط الأولى “للدفاع ضد الهمجية”.

هكذا، أدمجت، بخبث وتلاعب، آراء، بيضون والمحسن واللعبي النقدية تجاه الغزو، ضمن مقدمة نارية ضد المثقفين “التابعين”، وصورة عملاقة لـ”الأخ الأكبر” إدوارد سعيد، وعناوين اتهامية حول “الخضوع” لسرديات الغرب، كي تبدو أمثلة لموضوع الملف وأهدافه التي لم تقتصر على التخوين غير المباشر لرافضي الغزو، وإنما امتدت لتناصر البروباغندا الروسية حول اجتياح أوكرانيا. وللقيام بذلك، لا بد من العودة من جديد لسعيد، باستحضار مقولة من كتابه “الثقافة والإمبرياليّة”، حول “الخضوع للمستعمر”، كمدخل لمقال مستقل حول أسباب قبولنا الرواية الغربية للغزو وعدم تصديقنا الرواية الروسية “المضادة”. إذ يسهب كاتب المقال، بالحديث عن “التبادل اللامتكافئ للثقافة والأفكار بين حضارتَين”، وعن التفوق الأميركي عبر اللغة والتعليم وهوليود، ليخلص أن هناك “طاّبور خامس” يحبس “نفسه في كهف أفلاطوني يرى فيه الديموقراطية التمثيلية والفردانية والقوّة والسلع الأميركية منتهى الحضارة الإنسانية، من دون أن يتخيّل عالماً آخر خارج هذا الكهف لا نكون فيه أتباعاً لأحد”. والكاتب، لا يحتاج لمواصلة مقاله، لنعرف أن العالم الآخر، ليس سوى روسيا والصين وفنزويلا وكوريا الشمالية وإيران، أي كل القوى المناهضة للغرب. علما أن هذه الأخيرة أو بعضها، لا تتفق مع المعيارية  السعيدية المهجنة التي تضعها الممانعة، ذاك أن النظام الروسي قريب جداً من أقطاب يمينيين في أوروبا، يمجدون “الرجل الأبيض ومركزية الغرب”، والنواة الصلبة التي تلتف حول بوتين مجموعة “أولغارشيين”، من المفترض أن تمتلك الصحيفة صاحب الملف، حساسية “يسارية” تجاههم.

هذه التناقضات، لا تمنع الممانعة من العودة في دفاعها الثقافي على بوتين، إلى بضاعتها الكاسدة، حول “هيمنة الغرب” وخضوعنا له، وفبركة مفاهيم غير علمية، وعناوين طنانة، لتفتح محكمة تفتيش ضد مثقفين رافضين للغزو البوتيني، وتنصب إدوارد سعيد “أخا أكبرا” كمعادل لـ”الأخ الأكبر” في روسيا، أي فلاديمير بوتين، فقبل ساعات على نشر الصحيفة الممانعة ملفها، أقر “القيصر” قانوناً يعاقب بالسجن كل من ينشر “أخبارا كاذبة”، فضلا عن حظر “الفيسبوك” و”التوتير”، والتضييق على الإعلام المستقل لدفعه لمغادرة البلد. 

هكذا، يتاح لـ”الأخ الأكبر”، مراقبة أي اعتراض على غزواته في روسيا، وإعلام الممانعة يأبى عندنا إلا أن يشارك في حفلة السلطوية تلك، فينصب “أخاً أكبر” ثقافي، لتخوين كل معترض على قتل الناس في أحياء كييف، تحت طائلة “الخضوع للرجل الأبيض”.

إقرأوا أيضاً: