fbpx

عاصفة تجتاح لبنان في يوم عادي بلا كهرباء

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان شتاء هذا العام قاسياً جداً، ليس بسبب المطر والثلوج، بل لأننا لا نملك شيئاً لمواجهة عاصفة طبيعية عادية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

سألني في أي ساعة أنام عادة. كنت أعلم أنه يحاول التودّد بلا شكّ، لكنني اضطررت إلى خذلانه بسرعة، مخرجة إياه من مزاجه الرومانسي، حين قلت له: “الكهربا بتنقطع الساعة 12”. بمعنى آخر، هنا في لبنان، لا نملك رفاهية النوم ساعة نشاء أو ساعة نتعب، إننا نعيش وفق برنامج المولد الكهربائي في الحي، نعيش على صوته، ونموت برداً وظلاماً حين يصمت. ثم سألني بعد حين عن دوام عملي وإن كنت أستيقظ باكراً مثله، ذلك أنه يمارس الرياضة الصباحية. مرّةً أخرى اضطررت إلى إخراجه من مزاجه “الرايق”، إذ أعلمته أنّ التقنين يبدأ من السابعة صباحاً ولا ينتهي قبل التاسعة، ليعود عند الثانية عشرة ظهراً. وبالتالي أضطر أحياناً للنهوض عند السادسة صباحاً، لأرتدي ملابسي وأسرّح شعري وأشعل المدفأة قليلاً، حتى لا أتجمّد من برد الصباح. لكنني خجلت من شرح هذه المأساة اليومية الرهيبة، فأضفت إلى ذلك كذبة بيضاء صغيرة، قلت له أنني مثله أستيقظ عند السادسة لأمارس الرياضة واليوغا، قبل أن أبدأ يومي. فعلت ذلك حتى أحفظ ماء وجهي مع الرجل الرومانسي الذي يحاول فهم حياتي وتفاصيلها. بعد ذلك، حان وقت التقنين وكان عليّ أن أحتفظ بما لديّ من شحن في هاتفي من أجل الطوارئ ولم أواصل المحادثة، ولأكون صريحة كان عليّ أن أستعجل لأن طوابير البنزين عادت، في ظل الحرب الروسية على أوكرانيا والغلاء الفاحش محلياً، و”نيسو” سيارتي كانت جائعة جداً.

مقابل شقتي أسرة من أربعة أشخاص، قرر رب العائلة وقف اشتراك المولّد لأن كلفته تتخطّى راتبه. أرى ابنته كل يوم بعد الظهر تجلس على الشرفة في هذا البرد القارس لتحصل على بعض النور الطبيعي لتكمل دروسها

باسكال صوما

“بفوّلك مدام؟”، سألني أحد العمال في محطة البنزين، هززت برأسي موافقة، فيما كنت أفكّر إن كنت أملك ما يكفي من المال لسداد ثمن “التفويلة”… “مليون و200 ألف مدام”، قال الشاب ومدّ يده نحوي، ثم قال ليهدئ الصدمة على وجهي، “التنكة 427 ألف يا مدام، سعر الدولة”… أعطيته كل ما كان في حقيبتي. بقيت معي ورقة ألف ليرة لبنانية، كانت قبل الانهيار تشتري منقوشة أو سندويش فلافل، لكنها الآن لا تنفع حتى للزينة.

في اليوم التالي أرسل لي الرجل الطموح ذاته مقالاً مترجماً من الألمانية عن البيوت في المريخ وأخبرني أن اقتناء أحدها، واحد من أحلامه. ثم سألني عما أحلم به بالفعل، اعتصر قلبي إذ لم تخطر لي سوى جملة واحدة: “أحلم بوطن آخر”… لكنني بعد ذلك أعلمته أنني لا أؤمن بالأحلام واتفقنا على إغلاق هذه السيرة إلى الأبد. لماذا كذبت عليه؟ لأن قارورة الغاز احتاجت إلى تغيير في صبيحة ذلك اليوم، وكلّفني الأمر 360 ألف ليرة، وحين فوجئت، قال المعلّم محمد، ملك الغاز كما يسمّونه في الحي هنا، “لو حكيتيني بكرا كنت قلتلك ما عندي، بدو ينقطع يا مدام”.

بالمناسبة، تباً لكلمة “مدام” التي تنتهي بها تلك الجمل المستحيلة حول الغلاء غير المنطقي والمواد الأساسية المقطوعة، والحياة المرهقة داخل البيوت المغلقة، في محطات البنزين، في الدكاكين، في محادثات “النت”، في كل مكان…

مقابل شقتي أسرة من أربعة أشخاص، قرر رب العائلة وقف اشتراك المولّد لأن كلفته تتخطّى راتبه. أرى ابنته كل يوم بعد الظهر تجلس على الشرفة في هذا البرد القارس لتحصل على بعض النور الطبيعي لتكمل دروسها، إنه مشهد يقتلني. نتبادل أحياناً الابتسامات من بعيد، ثم أدخل وأتركها.

كان شتاء هذا العام قاسياً جداً، ليس بسبب المطر والثلوج، بل لأننا لا نملك شيئاً لمواجهة عاصفة طبيعية عادية. لا كهرباء ولا ماء ساخن ولا غاز ولا مازوت ولا بنزين ولا أمل ولا حتى رفاهية أن نكون رومانسيين…

إقرأوا أيضاً: