fbpx

بين نهاد المشنوق ومحمد أمين عيتاني:
“إنكريبت”… جوازات سفر اللبنانيين  أسيرة صفقات مشبوهة 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أزمة جوازات السفر المتفاقمة تفتح الباب على صفقة تلزيم جوازات السفر البيومترية في لبنان وشبهات الفساد التي تحوم حول الشركة التي حظيت بهذا الامتياز، “إنكريبت”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تتحدث الأرقام عن أن ربع مليون لبناني هاجروا منذ أوائل عام 2021، وتشير إحصاءات الأمن العام إلى أن عدد جوازات السفر الصادرة منذ مطلع العام نفسه ولغاية شهر آب/ أغسطس، بلغ نحو 260 ألف جواز سفر مقابل نحو 142 ألف جواز سفر في المدة نفسها من عام 2020، أي بزيادة نسبتها 83 في المئة.

هذه الزيادة بدت انعكاساً مباشراً للأزمة السياسية والانهيار المالي والاقتصادي الذي يعيشه البلد منذ عام 2019 والذي يحمل الفساد المتجذر في النظام اللبناني مسؤولية كبرى فيه. ولكن حتى باب الرحيل بات مشفّراً بشروط تعجيزية تحكم الحصول على جواز سفر جديد.

فمنذ أشهر يتقاطر اللبنانيون للحصول على جوازات سفر أو تجديد المنتهي منها، هذا الضغط دفع بمديرية الأمن العام إلى إصدار سلسلة قرارات تقيد حصول المواطنين على جوازات السفر، بذريعة نقص الاعتمادات في بلد يعيش على وقع انهيار.

“إنكريبت”… 

أزمة الجوازات المتفاقمة تفتح الباب على صفقة تلزيم جوازات السفر البيومترية في لبنان وشبهات الفساد التي تحوم حول الشركة التي حظيت بهذا الامتياز، “إنكريبت”.

“إنكريبت” لتقنيات تحديد الهوية SAL، إحدى بنات إنكريبت الأم العشر، اقتنصت أول مناقصة مشكوك فيها في 28 حزيران/ يونيو 2013، بعد خمسة أشهر فقط من إنشاء الشركة.

كان هذا العقد- الذي تبلغ قيمته 3.93 مليون دولار أميركي- يهدف إلى إنشاء “نظام وبنية تحتية لتصاريح العمل الإلكترونية” للعمال الأجانب. وتظهر الوثائق ومحاضر الاجتماعات أن “إنكريبت” فازت بهذا العقد برغم اعتراضات المدير العام لإدارة المناقصات، والمدعي العام في ديوان المحاسبة، فضلاً عن ملاحظات الخبير الفني بخلو دفتر الشروط من الحد الأدنى من المواصفات الفنية التي تسمح بإجراء مقارنة علمية وسليمة وشفافة… ولكن كل تلك الاعتراضات تم تجاهلها في النهاية… وربحت “إنكريبت”.

كانت 2014 سنة ذهبية بالنسبة إلى “إنكريبت” -شركة متخصصة في حلول الأمن الرقمي، مقرها بيروت- توفر عدداً كبيراً من التقنيات الأمنية، تتراوح من بطاقات الائتمان إلى جوازات السفر البيومترية.

في ذلك العام وحده، فازت “إنكريبت” بسبع مناقصات من أصل 16 مناقصة عُقِدت في السنوات الثماني بين عامي 2012 و2020. بلغت قيمة هذه المناقصات السبع نحو 315 مليون دولار أميركي في بلد تبلغ فيه المشتريات العامة 20 في المئة من نفقات الحكومة المركزية، وتشكل 6.5 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي (نحو 3.4 مليار دولار في 2019).

لم تأت المكاسب المفاجئة لشركة “إنكريبت” من فراغ؛ فقبل أن تضع الشركة عينها على المناقصات بقليل، عُيِّن نهاد المشنوق وزيراً للداخلية والبلديات في 15 شباط/ فبراير 2014، وهو الذي ترشّح وربح الانتخابات النيابية على لائحة “تيار المستقبل”، حاله كحال النائب السابق محمد الأمين عيتاني، أحد مالكي في “إنكريبت”.

منذ تعيين المشنوق، استمرت سلسلة انتصارات “إنكريبت”؛ فتمكنت الشركة من الحصول على كل مناقصة تتعلق بتكنولوجيا الهوية البيومترية في لبنان منذ إنشائها. وقد فازت بأربعة من هذه العقود المربحة على أساس الاتفاق بالتراضي، وهي ممارسة تعني ترسية المشروع على شركة بعينها بالإسناد المباشر، دون طرح مناقصة؛ ويصفها خبراء مكافحة الفساد بأنها تسهل الفساد.

وفق لمياء مبيض بساط، رئيسة “معهد باسل فليحان المالي”، وهي أيضاً الرئيسة المشاركة للجنة الأمم المتحدة للخبراء في الإدارة العامة- “تشير التقديرات إلى أن الفساد في المشتريات العامة في لبنان يكلف الاقتصاد 5 مليارات دولار سنوياً تحت بند التكاليف المباشرة، و5 مليارات دولار أخرى تكاليف غير مباشرة تحت بند الفرص الاقتصادية”.

وأضافت: “يُعتقد أن وجود نظام مشتريات عامة متماسك وواضح يتماشى مع المعايير الدولية ويستند إلى أسس قانونية ومؤسسية سليمة يحقق وفورات سنوية تقدر بمئات الملايين من الدولارات”.

نظام مشتت وبالي للمشتريات العامة  

لم تُحدث أي من انتصارات “إنكريبت” خرقاً واضحاً للقوانين اللبنانية البالية والمشتتة.

لكن هذا التحقيق يُظهر أن عدداً لا يحصى من هذه العمليات يشوبه غموض ومخالفات إجرائية، ما يكشف عن أوجه قصور هيكلية تنخر في أسس نظام المشتريات العامة المتهالك في لبنان، والذي يخضع لمحاولات تحديث من وزارة المالية منذ عام 2018 دون نجاح يذكر.

بالنسبة إلى الخبراء، تكشف هذه المناقصات عن القوة المهيمنة للمحسوبية والسلطة القضائية المُسيّسة للغاية في بلد لا ترقى فيه إجراءات المشتريات العامة إلى المعايير الدولية.

بالنسبة إلى الشعب اللبناني، فإن هذه المناقصات تمثل استنزافاً آخر للأموال العامة، في بلد يعاني من الفقر والبطالة المتزايدة، كما يواجه منذ نهاية عام 2019 أسوأ انهيار اقتصادي منذ نهاية الحرب الأهلية قبل ثلاثة عقود.

خلال نحو عقدين من نشاطها، أصبحت “إنكريبت” علامة تجارية متخصصة في مجال تقنيات الحلول الأمنية في لبنان. تأسست المجموعة- وهي مظلة لعشر شركات مختلفة- عام 2002، وفازت بكل مناقصة محلية تتعلق بتكنولوجيا القياسات الحيوية منذ ذلك الحين.

منذ عام 2013 -وهو العام الذي انطلقت فيه واحدة من شركات التكنولوجيا البيومترية الرئيسية في “إنكريبت”- بلغ حجم هذه المناقصات أكثر من 339 مليون دولار أميركي، بناءً على مقررات لمجلس الوزراء اللبناني؛ وثمة احتمال أن يكون المجموع الحقيقي أعلى بكثير ولكن لم نستطع الوصول إليه بسبب صعوبة الوصول إلى المعلومات في البلد.

لدى جميع الشركات التي تضمها مظلة “إنكريبت” هيكل الملكية نفسه؛ ويرأسها هشام محمد الأمين عيتاني -نجل النائب السابق لـ”تيار المستقبل”- مع مساهمين من بينهم ابنه الآخر رياض عيتاني، وشقيقه وابن أخيه. 

إنهم يعملون في عالم متخصص ومعزول لتوفير تقنيات أمنية للحكومات والشركات الخاصة، بالتعاون مع الشركات الأخرى في المجموعة التجارية التي يتراوح نشاطها من تصنيع بطاقات الدفع للبنوك إلى صنع بطاقات الخدش لمقدمي خدمات الاتصالات.

كانت إحدى الشركات على وجه الخصوص – “إنكريبت” لتقنيات تحديد الهوية SAL- مسؤولة عن توليد ثروة ضخمة للمجموعة. أنشئت تلك الشركة -وهي مركز قوة القياسات الحيوية في إنكريبت- في 31 كانون الثاني/ يناير 2013، وفازت بما لا يقل عن 11 مناقصة بين عامي 2013 و2018.

توصل تحقيقنا إلى أن هذه المكاسب لم تعتمد على قدراتها التقنية وحدها؛ بل كان إحراز هذه الانتصارات يحصل عبر الانتهاكات الإجرائية والمحسوبيات السياسية، تاركاً سؤالاً مفتوحاً حول ما إذا كان القطاع العام المتهالك في لبنان قد حصل على أرباحه من الاستثمارات.

مكافآت مشكوك فيها

اقتنصت “إنكريبت” لتقنيات تحديد الهوية SAL أول مناقصة مشكوك فيها في 28 يونيو/حزيران 2013، بعد خمسة أشهر فقط من إنشاء الشركة.

كان هذا العقد -الذي تبلغ قيمته 3.93 مليون دولار أميركي- يهدف إلى تقديم أنظمة وتجهيزات بطاقات عمل الكترونية لزوم وزارة العمل. كان أقرب منافس لشركة “إنكريبت” شركة أخصائيو الالكتروميكانيك والتي قدمت عرضاً لتدشين هذا النظام بتكلفة 4.65 مليون دولار أميركي تقريباً.

تظهر الوثائق ومحاضر الاجتماعات التي حصلنا عليها أن “إنكريبت” فازت بهذا العقد رغم اعتراضات المدير العام لإدارة المناقصات، والمدعي العام في ديوان المحاسبة، إنما تم تجاهل تلك الاعتراضات في النهاية.

أصدرت لجنة المناقصات العامة في لبنان المناقصة الأولية لتصاريح العمل، ووصلت شركتان إلى القائمة القصيرة للمرشحين، هما “إنكريبت” و”إي. إم. إس-EMS-SAL”. تُظهِر محاضر اجتماع اللجنة أنها طلبت خبيراً لأنها تفتقر إلى الخبرة الفنية في هذا النوع من المناقصات.

قدم الخبير تقريره في منتصف حزيران 2013 مقترحاً عدم الموافقة لأن الملحق الفني الخاص المرفق بدفتر شروط المناقصة يشوبه الغموض وخال من الحد الأدنى للمواصفات الفنية المطلوبة للتجهيزات موضوع المناقصة والتي تعتبر أساسية لتمكين الخبراء من إجراء مقارنة فنية عملية وسليمة وشفافة؛ والشهادات المرفقة لا تعبر بشكل صحيح عما هو مطلوب في دفتر الشروط. 

تجاهلت اللجنة توصيات الخبير وقبلت مباشرة العرض الذي قدمته “إنكريبت”. يُظهر محضر الاجتماع أن اللجنة في البداية أجَّلت جلسة التقييم التي كان يفترض عقدها في 13 حزيران، في انتظار أن يوضح الخبير بعض النقاط المبهمة. لكن في 28 حزيران أُعطيت المناقصة لشركة “إنكريبت” دون تفسير.

أثارت إدارة المناقصات في لبنان الكثير من الاعتراضات؛ وقال الدكتور جان العلية- المدير العام لإدارة المناقصات منذ عام 2012- إن هذه الخطوة تنتهك بروتوكول المناقصات، وتعد تجاوزاً من جانب اللجنة.

وفي مقابلة أجريناه معه قال: “لقد تجاهلوا جميع الأسباب التي قدمها الخبير في خاتمة تقريره حول سبب عدم الموافقة على العطاء الذي قدمته “إنكريبت”، ووضعوا أنفسهم مكان الخبير والإدارة التي نظمت بروتوكول المناقصة”.

رفع العلية كتاباً رسمياً إلى وزير العمل في ذلك الوقت سليم جريصاتي، يفصل فيه تحفظاته على المناقصة، واقترح على الوزير رفض قرار لجنة المناقصات وإصدار مناقصة جديدة. إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث، أخذت المناقصة المجرى المعتمد إلى ديوان المحاسبة- وهو السلطة المسؤولة عن الإشراف على جميع المناقصات التي تزيد قيمتها من 50000 دولار، كما أن رأيه ملزم. وبحسب المحاضر الرسمية التي حصلنا عليها، عُرضت المناقصة على هيئة في ديوان المحاسبة ولم توافق عليها ولكنها عرضت على هيئة أخرى وهذه الأخيرة وافقت  وتمت المصادقة على فوز إنكريبت بالمناقصة.

اعترضت “مجموعة رايدي- Raidy Group” -إحدى الشركات المنافسة لشركة “إنكريبت”- على ذلك. رفعت الشركة -التي اعتذرت عن تلبية طلبنا الحديث عن الموضوع- قضيتها إلى النيابة العامة لديوان المحاسبة، مشيرة إلى أن ثمة المزيد من الانتهاكات الإجرائية في سير عملية التلزيم.

وطالبت النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة -مستندة إلى مخالفات لإجراءات المناقصات العمومية وضياع المال العام- ديوان المحاسبة بإعادة النظر في قرار التلزيم، ولكن ذلك لم يحصل.

النائب العام -القاضي فوزي خميس- قال إن يديه مقيدتان؛ فالسلطة النهائية تعود إلى ديوان المحاسبة، واعتُبر فوز “إنكريبت” بالمناقصة سارياً.

يشير محامون لبنانيون إلى أن ذلك مثال على مخاطر المحسوبية والفساد في نظام المشتريات العامة في لبنان، حيث إن ديوان المحاسبة- أعلى سلطة رقابية على الأموال العامة في البلاد- يديره معاونون سياسيون. وقال المحامي ربيع الشاعر إن ذلك يمكن أن يمنح الوزارات حرية الالتفاف على إجراءات المناقصات العادية وإدارة المناقصات اللبنانية.

واتفق المحامي رفيق غريزي مع الشاعر؛ إذ قال: “إن الضعف ليس فقط في قوانين المناقصات العامة، بل في التحايل على هذه القوانين كما حدث في مناقصة إنكريبت”.

“السياسيون في لبنان لا يهتمون حقاً بالمال العام؛ فبعضهم يمارس ضغوطاً على القضاء لشل رقابته على إعداد المناقصات العامة وترسيتها بحسب القواعد المتبعة”.

خمس مناقصات في عقد واحد

ثمة مخالفة إجرائية أخرى- وأعلى تكلفة بكثير- شابت مناقصات لبنان لعام 2014 لتوفير جميع رخص القيادة في البلاد، ولوحات المركبات، وبطاقات تسجيل المركبات ومكننة دائرة تسجيل السيارات.

فازت “إنكريبت” بالمناقصة التي بلغت قيمة عقدها 175 مليون دولار لمدة سبع سنوات، وألزمت الدولة بدفع 25 مليون دولار سنوياً للشركة.

أعرب العلية- المدير العام لإدارة المناقصات- عن استيائه قائلاً: “هذا العقد يعادل إهدار 175 مليون دولار دون أخذ أي شيء في المقابل؛ فلا يوجد تناسق بين الأموال المدفوعة والخدمة التي تحصل عليها الدولة في المقابل”.

بدأ العمل على هذه المناقصة عندما كان العميد مروان شربل وزيراً للداخلية، وبحسب ما أفادنا طلب أن تتم عبر  “إدارة المناقصات”،  لكن عام 2014 استقالت الحكومة وحل المشنوق محل مروان شربل وزيراً للداخلية.

غيّر المشنوق مسار المناقصة، وطلب من “هيئة إدارة السير والآليات والمركبات” في لبنان تولي المناقصة بدلاً من “إدارة المناقصات”. ينتهك هذا القرار المرسوم الرئاسي لعام 2003 الذي يحدد دور “هيئة إدارة السير والآليات والمركبات” باعتبارها جهاز تخطيط مستقلاً يتبع إدارياً لوزارة الداخلية والبلديات.


ردّ المشنوق

ومع ذلك، أصر المشنوق -في مقابلة أجريناها معه- على أن “هيئة إدارة السير والآليات والمركبات” لها الحق في طرح المناقصات، مستشهداً بمرسوم حكومي ينص على أن الهيئة تتمتع بشخصية اعتبارية واستقلال إداري ومالي.

أما شربل -سلف المشنوق- فقال إن وجهة نظره هي أن المشاريع المشمولة في العقد يجب أن تُعرض على شكل مناقصات منفصلة، وليس كحزمة واحدة بعقد واحد.

وتابع قائلاً: “رخصة السيارة مختلفة عن رخصة القيادة، ولكل منها مواصفات مختلفة، فلماذا تُطرحان معاً في مناقصة واحدة؟ من أجل السلامة والأمن، كان يجب أن يكون لكل مناقصة بروتوكول خاص بها ودعوة مختلفة لتقديم العطاءات”.

حصلت “إنكريبت” على المكافأة المباشرة لجميع العقود السبعة بعد تعيين هدى رياض سلوم مديرة عامة جديدة لهيئة  إدارة السير والآليات والمركبات في 22 أيار/ مايو 2014. هدى سلوم -التي عينها المشنوق نفسه- هي قريبة النائب هادي حبيش ضمن كتلة عيتاني والمشنوق الموالية للحريري، وأكد حبيش أنه مثّلها في قضية ضد المدعي العام في جبل لبنان -القاضية غادة عون- التي سعت لاحتجاز سلوم للاشتباه بصلتها بقضية اختلاس و إثراء غير مشروع.

كانت هذه واحدة من سبع مناقصات حصلت عليها “إنكريبت” في العام نفسه الذي أصبح فيه المشنوق وزيراً للداخلية والبلديات.

إقرأوا أيضاً:

صفقات بالتراضي

كان لدى “إنكريبت” طرائق مختلفة لتجاوز أنظمة الحوكمة الضعيفة في لبنان. فقد حصلت الشركة منذ عام 2014 على أربع مناقصات على الأقل، بقيمة إجمالية تزيد عن 157 مليون دولار، بعضها من خلال عملية سرية تعتمد على الإسناد بالأمر المباشر تسمى “الاتفاق بالتراضي.” 

وقد وافق مجلس الوزراء على هذه العقود في ضوء اقتراح قدمه الوزيران آنذاك نهاد المشنوق وعلي حسن خليل، الذي تولى منصب وزير المالية بين عامي 2014-2020. في حين فرض مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية عليه عقوبات في أيلول/ سبتمبر 2020 بسبب تقديمه دعماً مادياً لـ”حزب الله” وتورطه في أعمال فساد.

يسمح القانون اللبناني بإبرام مثل هذه العقود بالموافقة المتبادلة، بيد أن هذه الصفقات يخيم عليها الغموض وتكتنفها المحسوبية والاحتيال، على حد قول المحامي ربيع الشاعر، الذي أشار إلى إمكانية تلقي البعض رَشَاوى، موضحاً أنه بإمكان الوزير أن يطلب الحصول على عمولة مقابل الموافقة على عرض الشركة.

مضيفاً “يمتلك الوزير صلاحية إبرام مثل هذه العقود ولا يمكن لأحد محاسبته أمام القضاء لأن القانون يسمح بالاتفاق بالتراضي”.

وأردف الشاعر أن عقود الاتفاق بالتراضي هذه تثير مخاوف متعلقة بالفساد. وأعرب أنه “عموماً، تُمنح الكثير من العقود من خلال الاتفاق بالتراضي وهو أمر مشين. إذ يسمح إبرام العقود بالموافقة المتبادلة بقدر كبير من السرية في السياق اللبناني”.

وقد رتبت أربع مناقصات حصلت عليها “إنكريبت” وفق عقود الموافقة المتبادلة في عهد المشنوق، وهو الوزير الذي كان عضواً في المجلس النيابي مع مؤسس “إنكريبت”. وقد نفى المشنوق، في مقابلتنا معه أن تكون المناقصات قد قُدمت بالاتفاق بالتراضي.

غير أن وثائق مجلس الوزراء اللبناني التي حصلنا عليها تُظهر خلاف ذلك.

بعد فترة وجيزة من تولي المشنوق منصبه عام 2014، مَنح عقداً بقيمة 140 مليون دولار لشركة “إنكريبت” لتطوير جوازات السفر البيومترية اللبنانية. وتشير المصادر والوثائق التي حصلنا عليها  إلى أنه على الرغم من أن عملية المناقصة استغرقت خمس سنوات، فقد مُنح هذا العقد في نهاية المطاف عبر الاتفاق بالتراضي.

أثارت المناقصة جدلاً استمر لمدة طويلة. ففي عام 2009، تلقت وزارة الداخلية والبلديات عرضاً من المديرية العامة للأمن العام، تقترح فيه قبول اتفاق بالتراضي مقدّم من شركة “ساجيم” الفرنسية.

وقال زياد بارود، وزير الداخلية والبلديات اللبناني آنذاك، في حديث أجريناه معه، إنه رفض فكرة المناقصات القائمة على الاتفاق بالتراضي وأصر على تشكيل لجنة لإطلاق مناقصة دولية.

ومضت عملية المناقصة قدماً، بيد أن الكثير من التغييرات التي شهدتها الحكومة في لبنان أدت إلى عدم توقيع أي عقد حتى تولى المشنوق السلطة عام 2014.

بعد فترة وجيزة من توليه السلطة، قام المشنوق بتغيير نظام تقديم المناقصات، وسمح بمنح المشروع على مرحلة واحدة بدلاً من مرحلتين. وأعلنت لجنة حكومية ضمت المديرية العامة للأمن العام عن مناقصة دولية تقدمت إليها سبع شركات.

اشتملت القائمة النهائية على اثنين من المرشحين الخمسة المتأهلين، وهما: مشروع مشترك بين شركة “إنكريبت” وشركة “جيمالتو” الفرنسية (المعروفة الآن باسم مجموعة تاليس) وشركة “دو لا رو” البريطانية.

 وأفادت الوثائق الرسمية التي حصلنا عليها بأن اللجنة وافقت على منح العقد إلى شركة “إنكريبت” المتخصّصة في تقنيات تحديد الهوية SAL، ثم أحالت المديرية العامة للأمن العام اتفاقية “نظام إصدار جوازات السفر البيومترية” إلى وزارة الداخلية والبلديات.

ورداً على سؤال طرحناه، رفضت المديرية العامة للأمن العام التعليق على عدد الشركات التي تقدمت للمناقصة وكيفية إتمام الاتفاقية. بيد أن مصادر مطلعة على العملية قالت إن اللغة المستخدمة في الوثيقة تؤكد أن المناقصة أُسندت بالاتفاق بالتراضي.

وسيتبع ذلك مزيد من التفاصيل. ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2016، وافق المجلس على تحويل 3,614,985.000 ليرة لبنانية (حوالي 2.41 مليون دولار أميركي) من احتياطيات الميزانية لعام 2016 إلى شركة “إنكريبت” لتقنيات تحديد الهوية SAL، بموجب عقد اتفاق بالتراضي لتسليم مليون تصريح إقامة.

وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، مُنح عقد اتفاق بالتراضي آخر، تحت إشراف المديرية العامة للأمن العام أيضاً، إلى شركة “إنكريبت” لتقنيات تحديد الهوية SAL، لتوفير مليون جواز سفر بيومتري، مقابل 21,965,737,000 ليرة لبنانية (14.644 مليون دولار).

لم نتمكن من الحصول على أدلة على الرشاوى المقدمة إلى المشنوق. غير أن مجلس الوزراء وافق في أيلول/ سبتمبر 2017 على قبول هبة من شركة “إنكريبت” لتقنيات تحديد الهوية SAL لصالح وزارة العمل – دائرة التفتيش، وهي عبارة عن خمس سيارات من طراز داشيا لوغان، وتقدر قيمتها الإجمالية بنحو 55.000 دولار.

لا يحظر القانون على الشركات تقديم هبات للوزارات، لا سيما إذا تمت الموافقة على التبرع بموجب مرسوم من مجلس الوزراء. غير أن المدير العام لإدارة المناقصات، الدكتور جان العلية، أشار إلى وجود تضارب في المصالح بين الوزارة وشركة “إنكريبت”.

وقال “لا أحد يتبرع دون مقابل”.

“إنكريبت” في محكمة التجارة

عند مراجعة السجل التجاري للشركات التابعة لإنكربت، يتبين أن هناك إشارة موضوعة على السجل التجاري للشركات التالية: (Inkript Industries (Holding) SAL, Inkript Holding SAL, Resource Group Holding, اInkript Technologies Holding SAL).

تظهر الاشارة إلى أنه كان هناك إشعار تبليغ صادر عن محكمة التجارة في بيروت بتاريخ 2012/3/30 مقدم من المدعيين داني الياس شكور وسليمان جان عبيد ضد المدعى عليه هشام محمد الأمين عيتاني. وبتاريخ  2012/10/29 هناك طلب إضافي على استحضار رقم 2012/81 القاضي بإلزام المدعى عليه هشام محمد الأمين عيتاني بدفع مبلغ مليونين و600 ألف يورو.

شكور وعبيد يملكان شركة Afriways التي تعمل في مجال “إنكريبت” نفسه ولكن في أفريقيا، وتظهر الإشارة إلى نزاع بينهما وبين هشام عيتاني. 

تواصلنا مع عبيد لسؤاله عن سبب الدعوى، لكنه رفض الحديث عن تفاصيلها، مشيراً إلى أن النزاع كان في أفريقيا وحصل منذ سنوات وحُلّ، خاتماً الحديث “الآن نحن أحباب”.

من جانبها  نفت غنى رمضان، المتحدثة باسم شركة “إنكريبت”، أن تكون الشركة قد حصلت على كل هذه المناقصات العامة البيومترية لأن السيد عيتاني على علاقة وطيدة بوزير الداخلية والبلديات السابق نهاد المشنوق.

وقالت إن “إنكريبت تنفي بشدة هذه الادعاءات التي لا أساس لها من الصحة والتي تتجاهل تماماً تاريخ الشركة وسجلها الحافل ومعرفتها ومهارتها وحجمها وتغطيتها للسوق، وتستبعد تماماً وجود هيئات مستقلة وجهات رقابية ولجان تحكم عمليات المناقصة في لبنان تتمتع بقدر قليل من المصداقية بصرف النظر عن أي وزير”.

وأكدت رمضان أن شركة “إنكريبت” تأسست عام 1973 باعتبارها شركة عائلية متخصصة في الطباعة الأمنية، وتوسعت كمقدم للحلول الأمنية الرقمية مع أنشطة تجارية في أكثر من 50 دولة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا، ولديها مرافق للإنتاج في لبنان والمملكة العربية السعودية.

وأضافت أن الشركة أصبحت المزود الفعلي لحلول تحديد الهوية الرقمية المعترف بها دولياً ومزود وثائق السفر التي تحظى بقبول منظمات مثل “الإنتربول” و”منظمة الطيران المدني الدولي”. وعلى مر السنين، استثمرت شركة “إنكريبت” أكثر من 100 مليون دولار في المنشآت والبحث والتطوير، وجذبت التمويل من البنوك وعشرات المستثمرين.

ونظراً إلى السجل المحلي والإقليمي الناجح لشركة “إنكريبت”، فمن الطبيعي أن ترى النجاح في بلدها الأم. إذ لا توجد شركات في لبنان والمنطقة تقدم عروضاً مماثلة”.

وفي حوار أجريناه مع وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق حول الصفقات، نفى أنه دعم شركة هشام عيتاني على حساب الشركات الأخرى. وقال عن عيتاني، “إنه أحد أذكى الأشخاص الذين قابلتهم، إنه قرش”.

وعن مسألة الرشاوي أكد أنه لم يتقاضَ أي رشاوى، وذكر أنه ليس بحاجة إلى أي أموال، وأضاف حتى لو كانت هناك رشوة، “لا شيء يبرر المبلغ الضخم من المال الذي يتم الادعاء أن “إنكريبت” حصلت عليه”.

السلامة الرقمية للشعب اللبناني

ينطوي عقد جوازات السفر البيومترية المربح الذي حصلت عليه “إنكريبت” على عواقب محتملة تتجاوز إلى حد بعيد إهدار الأموال العامة. إذ إن فوز الشركة عام 2014 بالمناقصة جعلها مسؤولة عن تأمين البيانات الشخصية لكل مواطن لبناني.

يقول خبراء الأمن الرقمي أن اختيار شركة “إنكريبت” شريكها في العمل، وكذلك طبيعة عقدها مع المديرية العامة للأمن العام، يثير شكوكاً حول أمن هذه البيانات.

في أعقاب تفويض الأمم المتحدة عام 2015، يجب أن يحتوي كل جواز سفر بيومتري في العالم على رقاقة بحجم شريحة الهاتف، والتي تعطي موظفي الأمن بياناً كاملاً حول هوية حامل جواز السفر وسجله الإجرامي، بما في ذلك بصمات الأصابع وبعض خصائص التعرف إلى الوجه.

والعقد الذي حصلت عليه “إنكريبت” الخاص بجوازات السفر البيومترية يجعلها مسؤولة عن تسليم برمجة هذه الرقائق والبرمجيات المرتبطة بها. في حين تقوم شريكتها في المشروع شركة “جيمالتو” بتصنيع جوازات السفر نفسها، ومطابقة واجهة البرنامج مع آلات التشفير، بحسب ما قاله جاك سيف، المدير العام لشركة “إنكريبت”، للصحافيين عندما فازت الشركة بصفقة جوازات السفر البيومترية.

سجل شركة “جيمالتو” يثير الشكوك. إذ تعرضت الشركة التي تُستخدم تقنيات جوازات السفر الإلكترونية الخاصة بها في 30 دولة، للاختراق من قِبل وكالات الاستخبارات الأميركية والبريطانية عام 2015.

وقد رفضت شركة “جيمالتو” (المعروفة الآن باسم مجموعة تاليس) التعليق على الأمر.

ولم يجب اللواء عباس إبراهيم، المدير العام للمديرية العامة للأمن العام منذ عام 2011، على أسئلتنا حول السبب في منح عقد جوازات السفر البيومترية في لبنان بالاتفاق بالتراضي، وأي جزء من جوازات السفر البيومترية تقوم “جيمالتو” (المعروفة الآن باسم مجموعة تاليس) بتصنيعه، وما هي التدابير التي تتخذها المديرية العامة للأمن العام لضمان حماية البيانات الشخصية للمواطنين.

أعرب محمد نجم، المؤسس المشارك لمنظمة “سمكس”، وهي منظمة غير حكومية مقرها بيروت تعمل في مجال البحث والتدريب والدعوة لضمان سياسة الإنترنت وحماية الحقوق الرقمية للمستهلكين، عن قلقه إزاء عدم وضوح العقد الذي وقعته المديرية العامة للأمن العام في لبنان مع شركة “جيمالتو”، قائلاً إن القانون اللبناني ليس مؤهلاً لحماية السلامة الرقمية للمواطنين.

وقال نجم “لا يوجد في لبنان إطار قانوني يضمن الحق في سرية البيانات الفردية، وليست هناك لجنة مكلفة بحماية البيانات الشخصية”، مضيفاً أن “البيانات موجودة بين خوادم الشركات الخاصة والسلطات الأمنية المختلفة، وهناك خوف من تسريبها أو التلاعب بها أو محوها”.

مشروع قانون الشراء العام

أوضحت لمياء المبيض بساط، رئيسة المعهد الذي أعد تقرير “منهجية تقييم أنظمة المشتريات” لعام 2019-2020، أن عدم وجود توافق سياسي في لبنان أدى إلى إحباط العديد من المحاولات لتحديث نظام المشتريات العامة في البلاد.

من جهته، قال محمد مغبط كبير المستشارين القانونيين في “الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية”، إن مشروع قانون لتحديث قانون الشراء العام يتضمن عدداً من الضمانات يمكن أن تساعد في الحد من “المحسوبية والفساد”، وإن لم يكن ذلك كافياً.

وأضاف “يُنظر إلى “حق الوصول للمعلومات ATI” من وجهة نظر قانونية أساسية وليس بوصفه حقاً دستورياً أو أساسياً من حقوق الإنسان، وليس لمنظمات المجتمع المدني أي دور في مراقبة المشتريات العامة، ولا يوجد ذكر للمالكين المستفيدين من المتعاقدين في مشروع القانون”.

قدم النائبان اللبنانيان ياسين جابر وميشال موسى، في شباط/ فبراير 2020 مشروع قانون ينص على نظام حديث موحد للمشتريات العامة إلى البرلمان. وقد اجتمعت لجنة برلمانية خاصة شُكلت لدراسة القانون 40 مرة منذ تشكيلها في حزيران/ يونيو 2020. ومن المتوقع أن يصبح القانون نافذاً في أواخر تموز/ يوليو 2022. 

يقترح مشروع القانون إنشاء كيانين جديدين؛ “هيئة المشتريات العامة”، وهي هيئة مستقلة، ستكلف بمهمة التنظيم وهياكل السياسات العامة للنظام. و”هيئة مراجعة المشتريات”، التي سيُطلب منها مراجعة آلية الشكاوى وتأسيس هيئة مراجعة مستقلة تتبع إجراءات واضحة لاتخاذ القرارات بشأن الشكاوى أثناء مرحلة ما قبل العقد، بطريقة عادلة وشفافة وفي الوقت المناسب.

وقال جابر، وهو رئيس اللجنة النيابية التي درست اقتراح قانون الشراء العام، في حديث أجريناه معه إن هذا القانون من أهم القوانين الإصلاحية التي يطالب بها المجتمع الدولي، مشيراً إلى أنه هناك اتفاقاً على القانون بحد ذاته ولكن السؤال هل سيطبّق؟ ولفت إلى أن هناك 54 قانوناً أقرت في مجلس النواب وكلها قوانين إصلاحية، لكنها لا تطبّق لأن سلطة تطبيق القانون هي من صلاحية الوزير المعني والوزير يقول “القانون لا يعجبني ولا أريد تطبيقه… الوزير يريد أن تظل يداه مطلقتين، وهذه القوانين الإصلاحية تحّد من صلاحياته”.

إقرأوا أيضاً:

محمد أبو شحمة- صحفي فلسطيني | 24.04.2024

مع زيادة التهديدات الإسرائيلية… عائلات تترك رفح

للمرة السادسة، اضطرت عائلة أمير أبو عودة إلى تفكيك خيمتها من مكان نزوحها في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، والتوجه بها إلى خان يونس التي تبعد عنها قرابة الأربعة كيلومترات، بعد تزايد الضربات الجوية الإسرائيلية على المدينة الحدودية مع مصر، وزيادة التهديدات بقرب تنفيذ هجوم عليها.