fbpx

بابا روما والمثليّة الجنسيّة: “تعايش” أم “اتّحاد”؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

شكّلت هذه القفزة الخطابيّة تطوّراً هامّاً بالمقارنة مع مواقف الكنيسة التاريخيّة وخطابات بعض الكهنة المؤنِّبة، ومنها عظات ونصح حملت كرهاً دفيناً للمثليّة الجنسيّة والحريّة الفرديّة وأدّت إلى كتم أصوات كثيرة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أثارت تصريحات البابا فرنسيس ضمن فيلم وثائقي يحمل عنوان “فرانشيسكو” للمخرج إيفغيني أفينيفسكي موجات تصفيق وشجب متفاوتة في أوساط المسيحيّين. بينهم مَن رحّب وفرح، وبينهم من رأى في دعم البابا “الاتّحادات المدنيّة” بين المثليّين تناقضاً صارخاً مع تعاليم الكنيسة وعقيدتها ونظرتها إلى الزواج على أنّه سرٌّ مقدّس يُمنح حصراً لرجل وامرأة ينويان الارتباط مدى الحياة.  

لكنّ البابا الأرجنتيني لم يقل أبداً إنّه مع منح هذا السرّ- أحد الأسرار الكنسيّة السبعة- لأشخاص من  الجنس البيولوجي نفسه، إنّما مع منحهم الحقّ في “الاتّحاد المدني” الذي من شأنه حمايتهم قانوناً وضمان معاملتهم بالتساوي مع سائر أفراد المجتمع في الأمور المتعلّقة بالحقوق والواجبات في إطار العقد الاجتماعي القائم في معظم البلدان بين الشعوب والدول –والذي تعترف به الكنيسة- لا مع المؤسّسة الكنسيّة التي تتمسّك بموقفها العقائدي الرافض حتّى الآن التطبيع مع العلاقات غير القائمة على أساس المُغايَرة الجنسيّة، حاصرةً إمكانيّة تكوين عائلة مع أطفال بالأزواج المعياريّين، أي ثنائي الرجل-المرأة. 

الجديد كان إطلاق فرنسيس لهذا التصريح بصفته البابويّة، لا الأسقفيّة، بعيداً من الأساليب الضبابيّة السابقة، والسماح للمخرج باستخدام أرشيف الفاتيكان الضخم، وإيراد هذا التصريح بالذات في فيلم يعرجّ على إشكاليّات العصر الكبرى

إيلي عازار، شاب لبناني أنهى دراساته اللاهوتيّة على طريق الكهنوت، أوضح لـ”درج” أنّ كلام البابا جريء، “لكنّه لا يبدو مُتعارضاً بالجوهر مع تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة إنّما خرج عن النّمط المعروف وتخطّاه”. وأضاف، “لناحية الجوهر، البابا فرنسيس لم يشبّه الأمر مطلقاً باتّحاد زوجيّ أسراريّ”. 

ربّما وجد فرنسيس الأوّل مخرجاً، أو صيغةً عملانيّة، تساعد مجايليه من المؤمنين في تجاوز معضلات عقائديّة تربكهم، بخاصّة المنبوذين أو المبتعدين عن دينهم لألف سببٍ وسبب. 

بحسب عازار، “هناك نوعٌ من إعادة تركيز البناء الأخلاقي للكنيسة من القوانين إلى الإنسان”. ويتابع، “البابا فرنسيس تخطّى التّعليم ليطالب برفع الظلم والاضطهاد عن طريق ملجأ قانوني للمثليّين… وبذلك، لا يطوي البابا فقط صفحة الخطاب القديم المؤنِّب للمثليّين على أنّهم يخالفون الشريعة الإلهيّة وحسب… بل هو ينتقل من خطاب الكنيسة وكيفيّة مرافقة المثليّين، للهجوم نحو الساحة الإنسانيّة المدنيّة والدفاع عن هذا الإنسان لئلّا يتعرّض للاضطهاد والظلم”. 

ردودٌ مسيحيّة متفاوتة

على المقلب الآخر، آثَرَ بعض الكاثوليكيّين والأقباط إلى الردّ بأنّ كلام البابا الأرجنتيني خورخي بيرغوليو حُرِّف وأُخرج من سياق المقابلة التي أجراها عام 2019 مع قناة “تيليفيزا” المكسيكيّة التي اقتُبس منها التصريح. منهم حتّى مَن انتهز الفرصة لإثبات أحقّية رفضه استمرار البابا الحالي تبوّء المنصب الأعلى في الهرم الكنسي. ذاك البابا الذي فاجأهم بفكّه الارتباط بين جهنّم والإلحاد عبر قوله الشهير “ليس الإيمان بالله شرطاً لدخول السماء”. البابا نفسه الذي اعتذر عن جرائم كهنة ورهبان ارتكبوا إساءاتٍ جنسيّةً بحقّ أطفال وأزال صفة السريّة عن الوثائق المتعلّقة بتلك الجرائم داخل الكنيسة. وبعض هؤلاء ذهب حدّ وصف فرنسيس بالقائد الماسوني الذي ينفّذ أجندةً صهيونيّة ترمي إلى محاربة الكاثوليكيّة وإعادة تنظيم البشريّة والتناسل.   

مسيحيّون آخرون، ومنهم كهنة، تدخّلوا في ظلّ غياب الردود الرسميّة من الفاتيكان والجهات الدينيّة الرئيسة، واضعين ما عدّوه تحريفاً لأقوال البابا في خانة الهجوم الممنهج الذي تتعرّض له الكنيسة بهدف تشكيك المؤمنين وإبعادهم عنها، لكن من دون أن ينسحب على هذا الرأي أيُّ رفضٍ لفحوى الكلام الذي صدر عن البابا. فقال الأب فارس سرياني في هذا السياق، “إنّ الكنيسة كعائلة عليها أن تفتح ذراعيها للترحيب بأعضائها جميعاً حتّى من المثليّين، فهم أبناء وبنات الكنيسة بالرغم من وضعهم غير المقبول، وعليها أن تضمّهم إلى حضنها”. وعلى المنوال نفسه، جاء توضيح الأب بيتر حنّا في فيديو بثّته القناة المسيحيّة العربيّة الأبرز “نورسات” وشاركه الكثير من المسيحيّين والمسيحيّات، أكّد فيه أنّ المقصود ليس الزواج بالمعنى الكنسي، إنّما الحماية المجتمعيّة وتنظيم العلاقات مدنيّاً وواجب العائلات احتضان أبنائها وبناتها بمعزل عن توجّهاتهم وميولهم. 

التعليم المسيحي وفق الفاتيكان: “الأفعال اللواطيّة منحرفة في حدّ ذاتها”

ارتكزت الكثير من الردود المرصودة، بما فيها ردور الكهنة المذكورين، إلى بنودٍ من كتاب “التعليم المسيحي” الرسمي الصادر عن الفاتيكان الذي تفرد فيه الكنيسة مبادئ توجيهيّة تساعد في إرشاد المؤمنين المسيحيّين في شتّى الميادين الحياتيّة. وتنضوي تلك البنود تحت عنوان لم تغيّره الكنيسة بعد، هو “العفّة واللّواط”. 

طعّم الكهنةُ بهذه البنود توضيحاتهم التي جاء معظمها على شكل الـ”نحبّكم، لكن هو ميلكم الذي لا نحب، لا أنتم”، والتي بدا في الأيّام الأخيرة أنّها الصيغة المتّفق عليها كونها الأسلس والأدق تعبيراً عن موقف الكنيسة إزاء المثليّة من جهة، والمثليّين والمثليّات من جهة أخرى. وهذا الفصل هو بالذات ما تسعى الكنيسة إلى تكريسه، علّها به تبقى قريبة من ناسها وعقيدتها في آنٍ، علماً أنّ فصلاً كهذا لن يشفي غليل شخص ستصله رسالة الحبّ على شكل الـ “أحبّك، على الرغم من أنّك لست طبيعيّاً”.  

تنصّ البنود رقم 2357 و2358 و2359 من كتاب “التعليم المسيحي” تحديداً على أنّ “الأفعال اللواطيّة تتعارض والشريعة والطبيعة وتغلق الفعل الجنسي على عطاء الحياة لا يمكن الموافقة عليها في أيّ حالٍ من الأحوال”، ولكن “يجب تحاشي كلّ علامة من علامات التمييز الظالم…”. ولا تزال تلك البنود تُعمَّم على الكنائس في جميع بقاع المسكونة. وما مواقف الكهنة التوضيحيّة إلّا صدى لما كرّسته تلك التعاليم الفاتيكانيّة من فصلٍ مقصود بين الشخص المثلي والفعل المثلي نفسه، وذلك لترسيخ الاعتراف بأنّ الشخص المثلي موجود وله حقوق وكرامة كسائر البشر، أمّا الفعل المثلي الإشكالي فهو الذي لا يمكن أن توافق عليه الكنيسة أو تباركه. وبذلك، تكون الكنيسة أثبتت ليونتها أمام كلّ ذي فكرٍ تقدّمي أو شخص مثلي/ة مُبعد، من دون أن تمسّ بعقيدتها التي لمّا تهتزّ بعد. 

ربّما وجد فرنسيس الأوّل مخرجاً، أو صيغةً عملانيّة، تساعد مجايليه من المؤمنين في تجاوز معضلات عقائديّة تربكهم، بخاصّة المنبوذين أو المبتعدين عن دينهم لألف سببٍ وسبب.

مع ذلك، شكّلت هذه القفزة الخطابيّة تطوّراً هامّاً بالمقارنة مع مواقف الكنيسة التاريخيّة وخطابات بعض الكهنة المؤنِّبة، ومنها عظات ونصح حملت كرهاً دفيناً للمثليّة الجنسيّة والحريّة الفرديّة وأدّت إلى كتم أصوات كثيرة. وتعود تلك الخطابات بالذاكرة إلى معركة المنع التي خاضها صاحب مقولة “ما رح تقطع”، أي رئيس المركز الكاثوليكي للإعلام في لبنان، الأب عبدو أبو كسم، ضد فرقة “مشروع ليلى” والمغنّي حامد سنّو على خلفيّات أخلاقيّة شكّلت المثليّة الجنسيّة فيها عاملاً محوريّاً، في الوقت الذي كان رئيس كنيسته أكثر ترحيباً بالمثليّين والمثليّات، لا بل مُعلناً موافقته على اتّحاداتهم المدنيّة. 

قانون “تعايش” أم قانون “اتّحاد”؟

انطلاقاً من مبدأ الفصل بين الشخص والفعل –المثلي ومثليّته- الذي تعتمده الكنيسة، دافع مسيحيّون كثرٌ عن باباهم وأوضحوا أنّ ما دعا إليه في معرض حديثه عن المثليّة كان في الواقع قانون “تعايش” مدني يحمي المثليّين ويمنع طردهم من عائلاتهم، لا قانون يعترف بتفضيلاتهم الجنسيّة ويسمح بارتباطهم مدنيّاً، مُعتمدين الردّ التالي الذي أصدرته مواقع مسيحيّة عربيّة عدّة وثابروا على نشره على مواقع التواصل الاجتماعي:

“ما قاله البابا في الحقيقة هو التالي “يحقّ للمثليين أن يكونوا ضمن العائلة. إنهم أبناء الله. ولديهم الحق أن ينتموا لعائلاتهم. لا يمكن طرد أحد من العائلة أو مقاطعته، هذا يجعل الحياة مستحيلة” ما علينا فعله هو قانون التعايش المدني. لديهم الحق في الحصول على حماية قانونية من تصرّفات الرفض الاجتماعي. لقد دافعتُ عن ذلك”. وهنا في كلام البابا لا ذكر للزواج المدني. وما يطالبه ببساطة هو حمايتهم من الدولة وعدم التعدّي عليهم. لا يشجّع ابداً الزيجات المثليّة…”

فيكتور ايمانويل فرنانديز

إذاً، اختلطت هنا على بعضهم الترجمة، فروّجوا لاعتماد كلمة “تعايش” كترجمة لعبارة convivencia civil المُستخدَمة في الأرجنتين، وليس كلمة union/اتّحاد. لكنّ ردّاً حاسماً جاءهم يوم 23 تشرين الأوّل/أكتوبر من أحد أكثر المقرّبين من بابا روما، رئيس الأساقفة الأرجنتيني فيكتور إيمانويل فرنانديز، الذي نقلت عنه “وكالة الأنباء الكاثوليكيّة- CNA” قوله على صفحته على فايسبوك إنّ العبارة تعني في جوهرها “الاتّحاد”، أي أنّها تُستخدم في اللّغة الإسبانيّة للدلالة على الشراكات المدنيّة التي يمكن أن تحصل، ومن بينها الشراكات بين شخصَين يجمع بينهما سقف واحد وحياة مشتركة واحدة ومصالح ماديّة واحدة، ذاكراً أنّ فكرة الاتّحاد المدني كان سبق وأثارها فرنسيس الأوّل منذ سنوات عدّة، حين كان لا يزال مطراناً في العاصمة الأرجنتينيّة، بوينوس أيريس، التي اجتاحتها في ذلك الوقت سجالاتٌ حامية حول تشريع الدولة الأرجنتينيّة لزواج المثليّين. 

كان خورخي بيرغوليو توصّل وقتها إلى قناعةٍ مفادها أنّه من الجنون الاعتقاد بأنّ الكنيسة ستتمكّن من كسب تلك المعركة، فارتأى أنّه من الأجدى تصويب النقاش وحصره في المجال المدني الصرف. لكنّ اقتراحه رُفض آنذاك، لئلّا يُفهم على أنّه ترويج لحقّ المثليّين في الزواج. 

بناءً على ما سبق، ذكّر مقرّبون من البابا أنّ موقفه الموثّق في “فرانشيسكو” الذي عُرض للمرّة الأولى في 21 تشرين الأوّل/أكتوبر في روما ليس بالأمر الجديد. إنّما الجديد كان إطلاق فرنسيس لهذا التصريح بصفته البابويّة، لا الأسقفيّة، بعيداً من الأساليب الضبابيّة السابقة، والسماح للمخرج باستخدام أرشيف الفاتيكان الضخم، وإيراد هذا التصريح بالذات في فيلم يعرجّ على إشكاليّات العصر الكبرى، كالهجرة والفروقات الطبقيّة والبيئة والنزاعات المسلّحة في العالم، وليس فقط المثليّة التي تخوّف المخرج الروسي أن تستحوذ على مجمل النقاشات حول الفيلم، فتُهمَّش القضايا الأخرى التي يتناولها.    

الكاهن أنطونيو سبادارو، أحد أبرز مستشاري البابا لشؤون التواصل والإعلام، قال أيضاً لوكالة “أسوشييتد بريس”، “إنّ كلام البابا ليس بالجديد وكان جزءاً من المقابلة التي أجريت مع قناة تيليفيزا”، الأمر الذي نفاه أحد مصادر الوكالة المتابعين لمجريات مقابلة أيار/مايو 2019 قائلاً إنّ المقابلة المقصودة تطرّقت حصراً إلى فضائح التحرّش الجنسي ضدّ الأطفال داخل مؤسّسات دينيّة ودور رعاية تابعة للكنيسة الكاثوليكيّة.

محطّات بابويّة مهّدت للتصريح الأخير

توضيحات المستشارَين غير المُستغرِبة لتصريح البابا يمكن أن تفسّرها لمحةٌ سريعة على أبرز محطّات مسيرته التي مهّدت إلى إطلاقه هذا الموقف خلال عهده كبابا لأكثر من 1.3 مليار كاثوليكي في العالم. 

افتتح البابا فرنسنيس الأوّل بابويّتَه عام 2013 بالدعوة إلى مقارباتٍ جريئة للإشكاليّات الحديثة. اهتمّ بشؤون الفئات الشابّة وهواجسها والأسئلة التي تتصارع معها. وإن دلّ ذلك على شيء، فهو على أنّه، بالحدّ الأدنى، أبدى استعداداً للمخاطرة عبر خرقه ولو بعضاً من الخطوط الحمراء التي فرضها أسلافه، بخاصّة جوزيف راتزينغر وكارول فويتيلا، وذلك لفتح كوّةٍ في الجدار المتنامي بين الكنيسة والشعب الذي رأى فرنسيس أنّه يعظّم المسافة بين الناس و”أمّهم”، أي الكنيسة.

“إذا كان هناك شخص مثلي الجنس، يسعى إلى الله، ويتحلّى بالإرادة الخيّرة، فمَن أنا كي أحكم عليه؟”، قالها عام 2013. 

عام 2014، أفاد للمرّة الأولى بعد تعيينه على رأس الكنيسة إلى الصحيفة الإيطاليّة “كورييري ديلا سيرا” بأنّ الزواج يبقى بين رجل وامرأة (…) لكن الدول العلمانيّة تعتمد الاتّحادات المدنيّة لإيجاد تسويات لأشكالٍ مختلفة من المساكنة، تدفعها حاجات مثل وجوب تنظيم المسائل الماديّة بين الناس وتأمين الرعاية الصحيّة لهم”. 

عام 2017، وبعد سلسلة مقابلات أجراها على مدى عامٍ كامل مع عالم الاجتماع الفرنسي دومينيك ولتون نُشرت في كتاب “الطريق إلى التغيير”، وثّق ولتون في الكتاب ردّاً منسجماً مع ردود فرنسيس –فلنقل البراغماتيّة الهوى- إذ عاد وقال: “الزواج هو بين رجل وامرأة. هذا هو التعبير الدقيق. الزواج كلمة تاريخيّة. لقد عرفته الإنسانيّة منذ الأزل، وليس فقط في الكنيسة، إنّه بين رجل وامرأة. لا يمكننا تغييره بهذه الطريقة”.

وختم فرنسيس الأوّل، “دعونا نسمّي الاتّحاد بين شخصَين من الجنس نفسه اتّحاداً مدنيّاً”.