fbpx

رسالة من فرنسا التي يكرهها المتعصّبون

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

طالما أن هناك حشوداً قادرة على استغلال الإسلام للتهديد بسبب رسوم كاريكاتورية أو كتاب، وطالما أن هناك مسعورين يذبحون أو يقطعون الرؤوس باسم هذا الدين، فإن صورة الإسلام ستبقى رديئة وعاثرة، وسيتأثر المسلمون بذلك.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
  • ينشر هذا المقال بالتزامن مع مجلة L’EXPRESS الفرنسية

هي دائماً الصُّوَر نفسها. حشود غاضبة مسعورة يتم تصويرها في باكستان أو في دول العالم العربي وهي تحرق الأعلام. كل ذلك بسبب كتاب لم يقرأوه، رسوم لم يروها، بسبب حرية التفكير أو الإبداع التي يعجزون عن تصوّرها.

حدث ذلك عام 1989 مع رواية «آيات شيطانية» لسلمان رشدي، عندما قامت حشود حمّسها الخميني بإحراق أعلام إنكليزية. وحدث أيضاً عام 2005 ضد 12 رسماً للنبي محمد، عندما أحرقت حشود النظامَين السوري والإيراني الأعلام الدنماركية. وعام 2012 صدر فيلم “مسيء” لمحمد أنتجه مطوّر عقاري، فأحرقت حشود من المصريين والليبيين أعلاماً أميركية. في بعض الأحيان، تستحضر الرسوم أو الأفلام فكرة الإسلام من دون أن تطرح هذه الأعمال أو تستثير أي شيء. يتوقّف كل شيء على السياق والتلاعب السياسي الذي يحصل على أرض الواقع. هذا التلاعب ضروري لكي تصبح المحرمات دمويّة وسَفّاكة.

انقلبت حياة أصدقائي وزملائي في صحيفة «شارلي إيبدو» رأساً على عقب بسبب دورة العنف والوحشية الشديدة. فلنتذكّر أن “شارلي إيبدو” أصدرت الرسم على صفحتها الأولى – محمد ينتقد الأصوليين: “من الصعب أن تكون محبوباً من الحمقى” – فقط كفعلٍ تضامني مع رسّامي صحيفة «جيلاندس- بوستن» الكاريكاتورية الدنماركية، الذين هدّدتهم الحشود الغاضبة بالقتل. لم يكن هدفهم من رسم محمّد سوى كسر الرقابة الذاتية. كان رسّامو الكاريكاتور يرتعبون من فكرة إصدار رسوم عن حياة محمد، خوفاً من أن يُطعَنوا حتى الموت كما حصل مع تيو ڤان غوغ في هولندا. اليوم، وبعد 16 عاماً من اغتياله في أمستردام، يُسفَكُ دم أستاذ مدرسة في فرنسا لأنه أراد شرح منهج “شارلي إيبدو” الفكري، تضامناً مع الدنماركيين المُهدّدين والمخرج الهولندي الذي قُتِلَ مطعوناً. في الواقع، هو استهداف لأوروبا بأكملها، بكل قيمها الديموقراطية وتضامناتها.

علمانيتنا وحقّنا في التجديف يحميان الأقليات الدينية من الهيمنة. أولئك الذين يطلبون منا التوقف عن ممارسة حرياتنا لأنها مهدّدة، يعتقدون أنهم سيشترون السّلام. هذه هي الحرب التي يروّجون لها ويحثّون عليها، والتي أطلقتها مجموعات متعصبة ضد حرياتنا.

«كل ذلك من أجل هذا»

هل إيمانويل ماكرون هو الاسم التالي في القائمة؟ تُحرَقُ صور الرئيس الفرنسي في باكستان وتركيا ودول العالم العربي. لماذا؟ لأنه أكّد الحق الثابت لحرية فناني الكاريكاتور، لأنه رغب في تكريم الأستاذ المدرسي الذي قَطَعَ رأسه متطرّف شيشاني قدّمت له فرنسا اللجوء، لأن دوْر البلديّات عرضت الرسوم التي كلّفت السيد صامويل باتي حياته.

«كل ذلك من أجل هذا»، هكذا عنونت صحيفة “شارلي إيبدو” عددها الصادر بالتزامن مع بداية محاكمة شركاء الإرهابيين الذين هاجموا الصحيفة ومتجراً يهودياً عام 2015. رافق هذا العنوان 12 رسماً صغيراً، إضافة إلى الرسوم الدنماركية ورسم الغلاف الذي يُظهِرُ محمد مربكاً ومنهاراً. هو الحس السليم، البدهيّة، مهنة الصحافة. كل ذلك دفع هيئة الإذاعة البريطانية إلى إعطاء الصحيفة سمة «الاستفزازية»، وإلى رجمها بقسوة في بيان لوزير الخارجية الباكستاني، وإلى تهديد محرّريها مرة أخرى من قبل تنظيم القاعدة. بعد أسبوعين، قام شاب باكستاني متعصب بطعن شخصين أمام مبنى شارلي إبدو السابق. وبعد أيام قليلة، قطع المتعصّب الشيشاني رأس أستاذ مدرسي. وبعد أسبوع أيضاً، أقدم تونسيٌّ على ذبح ثلاثة مؤمنين كاثوليك في إحدى كنائس مدينة «نيس». كانت إحدى اللواتي قُتِلنَ طعناً بالسكين إمرأة سوداء اللون تُدعى «سيمون»، تعمل في مجال رعاية الأشخاص المسنّين، وأم لثلاثة أطفال. كانت كلماتها الأخيرة قبل رحيلها: “قولوا لأولادي أنني أحبهم”.

كل هذا من أجل ماذا؟ من أجل لا شيء، لا شيء على الإطلاق. كل هذا هو بسبب الحمقى الذين يكرهون الحرية.

هل تستطيع الحشود المتعصبة أن تفرض قوانينها على الديموقراطيات العلمانية؟ هل يمكن أن تملي علينا ما يجب أن نقرأه ونكتبه ونصوّره ونرسمه ونفكّر به؟ إذا كان الأمر كذلك، فقد انتصر الطغاة علينا. وإذا كان فرض تحريم عالمي، بغض النظر عن القوانين والثقافات، لا يتطلّب ذلك أكثر من استثارة الحشود الغاضبة، فالقوانين والحضارات تصبح عديمة الجدوى ولاغية وباطلة وبائدة جراء عدم الدفاع عنها.

في كل حالة من حالات ما يسمى «التجديف»، يتم التلاعب بالحشود الحاقدة من قبل أنظمة استبدادية لا تفهم شيئاً عن حرية التعبير، وتستغل الدين والنزاعات لدوافع سياسية شيطانية. في قضية سلمان رشدي، قام الخميني، بدوافع حسابية سياسية بحتة، بمهاجمة كاتب ناطق بالإنكليزية من أصل هندي ربما لم يطّلع حتى على روايته الجميلة. كان الهدف هو الظهور كمدافع عن الإسلام في وقت كان فيه منافسه الأكبر، أي المملكة العربية السعودية، قد فاز لتوه بالجهاد ضد السوفيات في أفغانستان.

عند اندلاع «قضية الرسوم الكاريكاتورية»، كان النظام السوري يتحكّم بالجماهير الغاضبة لإلهاء المجتمع الدولي عن دوره الواضح في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني. وكان لإيران مصلحة في المزايدة من أجل كسب الوقت بشأن الملف النّووي.

إن رياح الغضب التي تتصاعد ضد فرنسا هي على القدر نفسه من التهكّم والتبجّح.

على عكس قضية سلمان رشدي، إذ كانت هناك حاجة إلى تشريع معين لإصدار فتوى، لا يحتاج الجائرون والاستبداديون اليوم إلى أكثر من تطبيق «تويتر» لإطلاق تصريحاتهم. وبالطبع، ما إن يبدأ أحدهم، حتى يعتقد الجميع أنه تتعين عليهم المزايدة. تلقّت فرنسا الحجر الأول من وزير الخارجية الباكستاني. أما رئيس الوزراء الماليزي السابق فذهب إلى حد تهديدنا: “للمسلمين الحق في قتل ملايين الفرنسيين”. رسالة عنيفة قام مديرو التطبيق بحجبها، كما حجبوا أيضاً رسالة وزير الثقافة التركي ضد الفرنسيين. احكموا بأنفسكم على لياقة الجملة وكياستها: “أنتم أوغاد… أنتم أبناء العاهرات…”، هذه كلمات وزير الثقافة.

يُدينُ هذا الوابل من الكراهية بالكثير لتركيا. منذ شهور، يصعّد رجب طيب أردوغان ضد إيمانويل ماكرون. عندما لا يلقي خطابات عدوانية تليق بأسوأ لحظات الاستعمار العثماني، عندما لا يذبح الأكراد أو الأرمن، عندما لا ينتهك الحدود لتمرير الأسلحة والجهاديين، يختار الرئيس التركي التهديد بضم أراضٍ يونانية وبسلبنا سفننا من البحر الأبيض المتوسط. تقف فرنسا في وجهه وتتصدّى له، وهذا يثير استياءه. يود الرئيس ماكرون أن يتم تدريب المزيد من الأئمة في فرنسا وليس، كما هو الحال اليوم، في تركيا. لا يتعلق الأمر بـ«إصلاح الإسلام» ولا بإقامة دولة إسلامية كما يخيّل للبعض أحياناً. بل ببساطة تجنب التلاعبات الخارجية واستعادة القليل من الطمأنينة والسيادة بعد 40 هجوماً إسلاموياً أودت بحياة حوالى 300 شخص على أرضنا على مدى السنوات الـ8 الماضية.

قانون مناهضة «الانفصالية» لا يستهدف المسلمين

إن مشروع قانون مناهضة الانفصالية الإسلاموي، كما الحلول التي صدرت في الأيام الأخيرة، لا يستهدف «الجمعيات الإسلامية» كما نقرأ في صحفٍ مثل «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» والكثير من الصحف العربية. إذ تستهدف إجراءات الدفاع عن النفس الجمعيات الإسلامية الانفصالية، وهذه الكلمة تشير إلى الجماعات المتطرفة التي تحرض على الكراهية وتعرض الجمهورية للخطر، بل وتضع أحياناً أهدافاً محددة للقتلة الجهاديين. لعب البعض، مثل “تجمع الشيخ ياسين”، دوراً شريراً في تعريض الأستاذ مقطوع الرأس للخطر. اتهم والد أحد الطلاب الأستاذ صامويل باتي ظلماً بإظهار صورة لمحمد عارياً (أي شخص عاقل سيعرف أن هذا غير معقول…). في الواقع، لقد اكتفى باتي بشرح الخلاف الذي أدى إلى الهجوم على صحيفة “شارلي إيبدو” من خلال عرض رسوم كاريكاتورية قد تثير جدلاً. على المرء أن يكون على علمٍ بالسياق وأن يتحلّى بثقافة السخرية والتهكم وأن يدرك فكاهة “شارلي إيبدو”، لكي يفهم تلك الرسوم.

هذا ما كان السيد صامويل باتي يحاول شرحه لطلابه كجزء من برنامج التربية المدنية والأخلاقية الذي تم تعزيزه بعد هجوم “شارلي إيبدو”. هو برنامج مصمّم لإزالة الأفكار الخاطئة ومحاربة البروباغاندا القاتلة التي تفتك في عقول شبابنا. كانت هذه هي المهمة المقدسة للمدرسة العلمانية لما يقرب من قرنين من الزمن في هذا البلد: تجنب الحروب الدينية من خلال تعليم الفكر النّقدي الذي يمنعنا من أن نكون عرضةً للتلاعب.

هذه هي الروحية ذاتها التي تلهم رسوم “شارلي إيبدو”. تشكّل تلك الرسوم جزءاً من التقليد الساخر الذي مكّن فرنسا من إصدار قانون فصل الدولة عن الكنيسة عام 1905، وتحقيق السلام في وجه السيطرة القمعية للكنيسة الكاثوليكية. لم نكن، طوال فترة هيمنة الهوية الدينية على السياسة، أحراراً في التفكير أو في الكلام، وظلت الأقليات الدينية تمثّل مواطنين من الدرجة الثانية. تلك الرسومات والصحف الكاريكاتورية التي سخرت من الكهنة ومن الكنيسة ومن يسوع خلال القرن التاسع عشر، هي التي سمحت لنا بإعادة وضع الدين في مكانه، داخل جمهورية علمانية تحفظ حق المواطن بالإيمان كما بعدم الإيمان.

في كل حالة من حالات ما يسمى «التجديف»، يتم التلاعب بالحشود الحاقدة من قبل أنظمة استبدادية لا تفهم شيئاً عن حرية التعبير، وتستغل الدين والنزاعات لدوافع سياسية شيطانية. في قضية سلمان رشدي، قام الخميني، بدوافع حسابية سياسية بحتة، بمهاجمة كاتب ناطق بالإنكليزية من أصل هندي ربما لم يطّلع حتى على روايته الجميلة. كان الهدف هو الظهور كمدافع عن الإسلام في وقت كان فيه منافسه الأكبر، أي المملكة العربية السعودية، قد فاز لتوه بالجهاد ضد السوفيات في أفغانستان.

من خلال عَلمَنة المدرسة وإزالة الصلبان عن الجدران وتعليم التفكير النقدي، نجحنا في تهدئة قرون من الحرب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، وجعل المدرسة تتعامل مع جميع طلابها بمساواة وتكافؤ. إن هذا الشغف بالمساواة هو الذي وجّه رغبتنا في حماية المدارس العامة من التدخل الأصولي، وحماية الطالبات اللواتي لم يرغبن في ارتداء الحجاب، على رغم الضغوط التي كانت تتعرّض لها، من خلال حظر الرموز الدينية العلانية.

إن الأنظمة التي استغلت الدين على مدى قرون لإخماد شعوبها والتلاعب بها، لا تستطيع فهم هذا التاريخ، وبالتالي هذا النهج الفكري. عليكم أن تتخيلوا المشاعر التي اعترتنا عندما علمنا بأن مدرساً علمانياً قُطِعَ رأسه للتو بسبب محاولته تعليم التفكير النقدي وإيصاله. إلى جانب رعب تكرار تلك الهجومات، أصاب هذا الهجوم جوهر فكرتنا عن الجمهورية وماهيتها: «حرية، مساواة، أخوة».

تعصب بلا حدود

لا شك في أنه بسبب امتلاكنا هذه الذاكرة وهذا التاريخ، نقف اليوم في وجه المتعصبين وأيديولوجيتهم القاتلة، بينما تكتفي الدول الأخرى الأقل علمانية بالنظر إلى القضية على أنها مشكلة إرهاب عَرَضيّة. لا، المشكلة ليست عَرَضيّة. على مدى قرون، حافظ المستبدون على عقلية ظلامية مُنساقة، وعلى عقلية قاتلة للحريات ووحشية تنتشر اليوم على الإنترنت وتتحول في بعض الأحيان إلى هجمات. هي قرونٌ من الحريات المكتسبة ضمن هذه الديموقراطيات التي قد تموت إذا استسلمنا للتهديدات اللامحدودة وللخوف المعولَم. هل تستطيع الحشود المتعصبة أن تفرض قوانينها على الديموقراطيات العلمانية؟ هل يمكن أن تملي علينا ما يجب أن نقرأه ونكتبه ونصوّره ونرسمه ونفكّر به؟ إذا كان الأمر كذلك، فقد انتصر الطغاة علينا. وإذا كان فرض تحريم عالمي، بغض النظر عن القوانين والثقافات، لا يتطلّب ذلك أكثر من استثارة الحشود الغاضبة، فالقوانين والحضارات تصبح عديمة الجدوى ولاغية وباطلة وبائدة جراء عدم الدفاع عنها. هذا هو الخطر الذي يحدق بنا إذا استسلمنا لهؤلاء المتطرّفين المسعورين، إذا توقفنا عن رسم محمد لأنهم منعونا من ذلك، إذا تمت مواءمة القانون الفرنسي الذي يحمي حرية التعبير مع القوانين الباكستانية التي تحظر «التجديف».

باسم قانون مكافحة التجديف، تحبس باكستان أقلياتها الدينية. أُلقيت آسيا بي بي في السجن لمدة 8 سنوات بعدما قالت امرأة مسلمة إنها “لوثت ماء البئر” بعدما شربت منه، وأجابتها آسيا بحكمة: “ما كان محمد ليوافقك الرأي”. 8 سنوات في السجن بتهمة التجديف.

إن علمانيتنا وحقّنا في التجديف يحميان الأقليات الدينية من هذه الهيمنة. أولئك الذين يطلبون منا التوقف عن ممارسة حرياتنا لأنها مهدّدة، يعتقدون أنهم سيشترون السّلام. هذه هي الحرب التي يروّجون لها ويحثّون عليها، والتي أطلقتها مجموعات متعصبة ضد حرياتنا. هم في الواقع يسلحونهم من خلال إعطاء سبب لحملاتهم وجرائمهم، في كل مرة يفضلون إلقاء اللوم على رسامي الكاريكاتور بدلاً من القتلة، على الضحايا بدلاً من الجلادين. هو انعكاسٌ سافرٌ وشنيع.

هل يجب أن نتذكر أن الناس يموتون بسبب الإرهاب الإسلاموي في جميع أنحاء العالم؟ في الجزائر وتونس وباكستان والولايات المتحدة فيينا ولندن. يبقى المسلمون هم الهدف الأساسي للإسلامويين. في باريس، عندما لا يقتل الجهاديون رسامي الكاريكاتور أو المعلمين، فإنهم يطلقون النار على الأطفال اليهود والجنود والشرطة والشبان والشابات على الشّرفات والمارة الذين يأتون لمشاهدة الألعاب النارية في 14 تموز/ يوليو. يذبحون القساوسة وخُدّام الكنيسة والنساء اللاتي يأتين للصلاة، كما حدث في «نيس». يقتلوننا بسبب طريقة تفكيرنا وبسبب ما نؤمن به، ولكن قبل كل شيء، يقتلوننا لأننا ما نحن عليه.

 تشكّل تلك الرسوم جزءاً من التقليد الساخر الذي مكّن فرنسا من إصدار قانون فصل الدولة عن الكنيسة عام 1905، وتحقيق السلام في وجه السيطرة القمعية للكنيسة الكاثوليكية. لم نكن، طوال فترة هيمنة الهوية الدينية على السياسة، أحراراً في التفكير أو في الكلام، وظلت الأقليات الدينية تمثّل مواطنين من الدرجة الثانية. تلك الرسومات والصحف الكاريكاتورية التي سخرت من الكهنة ومن الكنيسة ومن يسوع خلال القرن التاسع عشر، هي التي سمحت لنا بإعادة وضع الدين في مكانه، داخل جمهورية علمانية تحفظ حق المواطن بالإيمان كما بعدم الإيمان.

لماذا فرنسا مستهدفة أكثر من غيرها؟

فرنسا مستهدفة بشكل مضاعف. أولاً، كدولة «غربية»، وثانياً، لأننا نقاوم الأصولية. يريدون قطع رؤوسنا لأننا نقف في وجههم ونتصدّى لهم. نحن من البلدان النادرة التي تنظر إلى التعصب في عينيه وتسعى إلى تعطيل البروباغاندا التي تقوم، جيل بعد جيل، بتسليح مجموعات الموت والقتل. هناك 8000 متطرف عنيف محتمل على أرضنا. لن نتمكن أبداً من رصدهم ومراقبتهم جميعاً، أو منع المتعصبين على شبكة الإنترنت من الانقضاض على أحد المارة بسكّينٍ ذابح. لكن يمكننا أن نحاول تلقيح الجيل القادم ضد هذه الكراهية السامة. للقيام بذلك، يجب علينا، قبل كل شيء، ألا نتخلّى عن قيمنا وحرياتنا. على العكس من ذلك، يجب أن ندافع عنها ونشرحها ونظهرها للعيان. حتى لو تتطلّب ذلك أن ندفع الثمن لكي تبقى حيّة وفاعلة بعدنا.

نحن لا نطلب من الدول الأخرى أن تحذو حذونا، نحن مستعدون لخوض هذه المعركة بمفردنا، ولكننا نطالب على الأقل بالتوقف عن نشر الأكاذيب حول صراعاتنا. يعتقد جزء من اليساريين والصحافيين الأميركيين أنه يجب علينا الخضوع لهذه التهديدات، والاستسلام بدلاً من الدفاع عن “شارلي إيبدو” وعن حرية التعبير والإعلام. لأن المتعصبين مستاؤون ولديهم الحق في ذلك. لكنه من الغش والتضليل أن يفرض الأميركيون قراءتهم لما يحدث في فرنسا إلى درجة إعطاء صورة مشوَّهة ومحرَّفة تماماً. وبأن يحثّوا العالم على الاعتقاد بأن الحكومة الفرنسية تهاجم المنظمات الإسلامية، بينما هي تعمل جنباً إلى جنب مع «المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية» ومع مسجد باريس (الذي يدعم بشجاعة الحق في الفن الكاريكاتوري)، ولا تستهدف إلا الأصوليين. ليس لديهم الحق في الاعتقاد بأن الكفاح من أجل العلمانية هو معركة عنصرية، بينما الذين يتبنّون الكفاح ويقودون بشغفٍ هم مثقفون ونشطاء من أصل عربي أو إيراني. يمكنني الاستشهاد بأسماء كثيرة تنير نقاشاتنا. لا يزال البعض منهم يعيش في الجزائر، بينما فَرّ البعض الآخر من الإسلامويّة طلباً للجوء في فرنسا. الجميع يريدون الحفاظ على واحة الحرية هذه التي يوفرها فصل الكنيسة عن الدولة في فرنسا.

محاربة التعصب هي محاربة العنصرية

“بدلاً من محاربة العنصرية النظامية، تريد فرنسا إصلاح الإسلام”، يقول مراسل صحيفة واشنطن بوست في باريس.

هذا خطأ. أولاً، يمكننا فعل الأمرين معاً. لماذا نضع مكافحة العنصرية في منافسة مع الإسلاموية بعد تنفيذ هجوم ما؟ ثانياً، لا يريد إيمانويل ماكرون «إصلاح الإسلام»، بل يريد محاربة الأصولية. وهو أمر لا تنافر فيه بعد هذا العدد الكبير من الهجمات الإسلاموية.

العنصرية موجودة في فرنسا وهي تتعاظم وتتصاعد بعد كل هجوم. وعلى عكس كندا ونيوزيلندا، نجحنا في إحباط هجمات اليمين المتطرف المعدودة على المساجد. الهجمات العنصرية تقلقنا. إن أفضل طريقة لإحباط هذا الغضب الذي أثارته الهجمات هو التصدي للإسلامويين ومحاربتها ومحاربة العنصرية.

انخفضت العنصرية ضد العرب قبل 11 أيلول/ سبتمبر. وفرنسا هي إحدى الدول الأوروبية – كما تظهر جميع استطلاعات «مركز بيو للأبحاث» – الأكثر انفتاحاً على قضية الإسلام أو على فكرة الزواج المختلط بين المسلمين وغير المسلمين.

لن يكون الإسلام موضع نقاش إذا كف الإرهابيون عن مهاجمتنا باسم الإسلام لمدة 20 عاماً من الآن. اليوم، الإسلاموية هي الأيديولوجية الرئيسية، إلى جانب اليمين المتطرف، للتحريض على الكراهية والعنصرية في بلدنا، وعلى اليهود (ضعف ما يتعرض له المسلمون من اعتداء أو إهانة) والمثليين والعلمانيين والنساء. وإذا كانت الإسلاموية نتاجاً للعنصرية، فلن تكون على هذه الدرجة من العنف في البلدان الإسلامية. 

إن محاربة الإسلاموية هي محاربة العنصرية، لأن الكراهية تأتي من الأصوليين. طالما أن هناك حشوداً قادرة على استغلال الإسلام للتهديد بسبب رسوم كاريكاتورية أو كتاب، وطالما أن هناك مسعورين يذبحون أو يقطعون الرؤوس باسم هذا الدين، فإن صورة الإسلام ستبقى رديئة وعاثرة، وسيتأثر المسلمون بذلك. نستطيع معاً، من خلال الاتحاد ضد هذه التلاعبات المدمّرة، حصر الكراهية وقهرها. وذلك بإدانة الذين يكرهون ويقتلون باسم الدين، وليس بإدانة الضحايا الذين يملكون شجاعة الصمود.