fbpx

طالباني يفاجئ أنقرة: الأكراد مستعدون لفيدرالية مع تركيا!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان طالباني يأمل بأن الانفتاح التركي على كرد العراق ولقاءه المسؤولين الأتراك في انقرة سيجعلان الولايات المتحدة تغير موقفها من اللقاءات مع الزعماء الكرد. كان معروفاً بين الكرد أن قسم الشرق الأوسط يفرض حظراً على لقاء المسؤولين الأميركيين معهم لعدم إغضاب تركيا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

استمرت الاتصالات بيني وبين مستشار رئيس الجمهورية التركية كايا توبيري من جهة، وبيني وبين جلال طالباني ومحسن دزه يي من جهة أخرى، لترتيب إجراءات سفرهما إلى أنقرة. أخيراً في 8 آذار/ مارس وصلا إلى أنقرة، طالباني من دمشق بجواز سفره السوري الديبلوماسي باسم محمد جلال حسام الدين، ودزه يي بجواز سفره البريطاني باسمه من لندن. بحسب دزه يي كان مكان إقامتهما دار ضيافة عسكرية لكن تشاندر في كتابه يقول إن مكان إقامتهما كان في فندق لضيوف وزارة الخارجية. لاحقاً أخبرني دزه يي بأن أول لقاء بين الطرفين بدأ في اليوم التالي، وكان الجانب التركي يمثله وكيل وزير الخارجية توغال أوزجيري ورئيس القسم المسؤول عن العراق في الوزارة جنك دوعاتبه ورئيس قسم الاستخبارات العسكرية المسؤول عن ملف العلاقات مع الكرد وآخرون. تابع دزه يي بأنه وطالباني أبلغا مضيفيهما بأن كرد العراق لا يشكلون تهديداً لمصالح تركيا بل بالعكس، هناك مصلحة مشتركة لإقامة علاقات جيدة بين الطرفين، وفي المقابل أكد الأتراك أن موقفهم إيجابي جداً لجهة إقامة علاقات مع الكرد طويلة الأمد. إلى ذلك شدد الضيفان الكرديان على أن العلاقات يجب أن تستمر حتى إذا أطيح بنظام صدام أو استُئنفت العلاقات التركية – العراقية (كانت تركيا قطعت العلاقات الديبلوماسية مع العراق إثر غزوه الكويت).

اللقاء الأول انتهى بإعلان الأتراك أنهم سينقلون كل ما قاله الضيفان الكرديان إلى الرئيس أوزال، الذي كان يشرف شخصياً على المحادثات. وفي اليوم التالي، والحديث ما يزال لدزه يي، أعلن الوفد التركي أن رد فعل أوزال على كل ما قاله الطرف الكردي كان إيجابياً جداً. وفي ما يتعلق بمستقبل الوضع الكردي في العراق، أكد المفاوضون الأتراك أن تركيا ستقبل بأي حقوق يحصّلها الكرد في إطار عراق موحد بما في ذلك الفدرالية. وشددوا على أن تركيا لا تملك أي طموحات في العراق. وبحسب دزه يي فإن موقف الطرف التركي هذا فاق كل توقعات المفاوضين الأكراد. وكما كان متوقعاً، فإن الطرف التركي أثار موضوع حزب العمال الكردستاني ومخاوف الأتراك لجهة أمن الحدود مع العراق. طالباني أشار إلى أن “الاتحاد الوطني الكردستاني” لديه علاقات مع “العمال الكردستاني”، لكنه أضاف أن حزبه لا يوافق على عبور الحدود لتنفيذ عمليات عسكرية في الأراضي التركية. أما دزه يي فأعلن أن الحزب الديموقراطي الكردستاني لم تعد له منذ سنوات علاقات مع “العمال الكردستاني”. لكن في الوقت نفسه أكد دزه يي وطالباني معاً أن المسألة الكردية يجب حلها بالوسائل السلمية والديموقراطية. عموماً انتهت المحادثات بنجاح واعتبرها الطرف الكردي اختراقاً كبيراً، خصوصاً أنها كانت المرة الأولى التي يقيم فيها الكرد علاقات مباشرة مع دولة مجاورة على أعلى مستوى سياسي وليس كما كان معتاداً أي من طريق الأجهزة الأمنية والاستخبارية لتلك الدول.

في الجزء الثالث والأخير من كتابه “أحداث عاصرتها” (كردستان 2013) أضاف دزه يي تفاصيل أخرى إلى ما قاله وطالباني في الاجتماع عن العلاقات مع “العمال الكردستاني”. يقول دزه يي: “قلت إننا (الديموقراطي الكردستاني) كنا نقيم معهم العلاقات منذ تأسيس حزبهم بل ساعدناهم كثيراً كحزب سياسي ولكنهم عندما أصبحت لديهم قوة مسلحة بدأوا بمعاداتنا رغم كل ما قدمناه لهم من المساعدات فقطعنا علاقاتنا بهم نهائيا منذ 1986. أما الأخ الطالباني فأكد انه يمكن التحدث اليهم والطلب منهم وقف اطلاق النار ومحاولة إيجاد حل سلمي للقضية”. يتابع دزه يي في كتابه: “وثم كانت النقطة المهمة التي أُثيرت من جانبنا فقال لهم السيد الطالباني بأن كردستان ستتحرر قريباً وإننا نريد أن نشكل نوعاً من الفيدرالية مع تركيا في ما إذا ساعدتنا. وكانت هذه مفاجأة بالنسبة للجانب التركي فقالوا إنهم سيعرضون ذلك على رئيس الجمهورية ورفعت الجلسة وأجلت إلى اليوم التالي”.

كان طالباني يعرف أن إريك رولو كان وقتها سفير فرنسا في أنقرة، وكان يعرفه مذ كان رولو صحافياً في صحيفة “لوموند” الفرنسية وبصفته تلك زار كردستان في أواخر الستينات حيث التقى الزعيم الراحل ملا مصططفى بارزاني. ولعله من أوائل الصحافيين الغربيين الذين كتبوا منذ الخمسينات عن أوضاع الكرد وقضيتهم. قرر طالباني أنه من المفيد لقاء رولو فهاتفه وأبلغه بأنه ودزه يي الذي كان رولو يعرفه أيضاً، موجودان في أنقرة ويودان لقاءه. رولو لم يخف استغرابه من وجود زعيمين كرديين في تركيا لكنه رحب بهما ودعاهما إلى الغداء معه في اليوم التالي. موعد الجلسة الثانية مع الأتراك كان مساء، فطلب الضيفان من المرافقين الأتراك أن يوصلوهما إلى السفارة الفرنسية. وعلى رغم أن الأتراك أبدوا عدم ارتياحهم إلى ذلك، حفاظاً على سرية وجودهما في أنقرة، لكنهم في النهاية وافقوا على إيصالهما إلى السفارة. يقول دزه يي في كتابه عن اللقاء مع رولو: “أطلعناه على تفاصيل الزيارة وكذلك الوضع في كردستان وتقدم الانتفاضة وكذلك مؤتمر المعارضة الذي سيعقد بعد يومين أو ثلاثة في بيروت. فقال هذا تطور كبير وغريب في موقف تركيا وطلب الاستمرار وتطوير هذه العلاقة وادامتها. ووجه إلي السؤال عمّا اذا كانت الزيارة بعلم بارزاني فأجبته بالايجاب وانني قمت بهذه الزيارة نيابة عنه لانشغاله في كوردستان بقيادة الانتفاضة”.

بعد نحو ثلاث سنوات، تحديداً في 20/1/1994، سافرت من لندن إلى باريس للقاء خاص مع زولو، الذي كان تقاعد من السلك الديبلوماسي وأجريت معه لقاءً لم يكن للنشر بل لمشروع بحث لم ينجز. وسأعود إلى ما قاله لي في ذلك اللقاء عن دور فرنسا في إصدار قرار مجلس الأمن الرقم 688، الذي استخدم لإقامة الملاذات الآمنة لإعادة اللاجئين الأكراد من الجبال إلى ديارهم في كردستان العراق. وأكتفي هنا بلقائه عندما كان سفيراً في أنقرة مع طالباني ودزه يي. قال رولو: “طالباني أوضح للأتراك أنه يعرفني منذ 30 عاماً ويود زيارتي في السفارة مع تأكيد أن الأمر سيتم بسرية. من جهتي حرصت على أن تكون زيارتهما سرية فعلاً، ولم أكشف لأحد في السفارة بمن فيهم سكرتيري هوية الزائرين الغامضين، مكتفياً بإعطاء تعليماتي بأنهما سيصلان في وقت محدد ويتعين مرافقتهما إلى مقري رأساً من دون طلب هويتيهما أو تسجيل اسميهما، كما هي العادة مع زوار السفارة”، أضاف رولو أن اللقاء استمر نحو أربع ساعات و”طلب طالباني مني أن أبلغ الحكومة الفرنسية بالزيارة السرية لأنقرة والمحادثات مع الحكومة التركية وهذا ما فعلته وكان رد الفعل الذي تلقيته من باريس إيجابياً جداً”.

على خط بيروت- دمشق

من أنقرة كان على طالباني ودزه يي أن يتوجها إلى بيروت لحضور مؤتمر المعارضة العراقية، الذي كان مقرراً أن يبدأ صباح 10 آذار لكن المشكلة أنه لم تكن هناك أي رحلة جوية من أنقرة أو اسطنبول إلى دمشق أو بيروت. الأتراك وجدوا الحل في أن يتوجه الضيفان إلى أضنة ومنها براً إلى سوريا وهذا ما فعلاه. من أنقرة اتصل طالباني بعبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري وقتها لترتيب سمة دخول على الحدود لدزه يي وهكذا توجها إلى سوريا ومنها إلى بيروت، حيث وصلا مساء العاشر من آذار. قبل ذلك ببضعة أيام كنتُ قد وصلتُ إلى بيروت منتدباً من “الحياة” لتغطية وقائع مؤتمر المعارضة. تأخّر وصول طالباني الذي كان يفترض أن يرأس افتتاح المؤتمر حتى اليوم التالي، فساد لغط بين المؤتمرين في فندق البريستول، مقر إقامتهم، وهم يسألون منظمي المؤتمر والمندوبين الكرد عن سبب عدم وصول طالباني في الموعد المحدد، لكنهم لم يعرفوا السبب. من جهتي التزمت الصمت. 

فجأة ساد هرج ومرج في القاعة وكانت الساعة تشير إلى نحو السادسة مساء، لأن المؤتمرين شاهدوا طالباني ودزه يي يدخلان إلى القاعة. اتجه الاثنان نحو نهاية القاعة حيث السلالم التي تقود إلى الطابق الاعلى وصعد طالباني بضع درجات كي يراه الجميع وألقى كلمة قصيرة مرحباً بالمؤتمرين ومعتذراً لتاخره “لظروف قاهرة”، مضيفاً أن الجلسة الافتتاحية ستبدأ صباح اليوم التالي. وفيما كان يتحدث كنت أقف في زاوية قريبة مع دزه يي، الذي حدثني بإيجاز عن محادثاتهما في أنقرة، وكان واضحاً مدى سروره بنتائجها. سألته إن تمت الموافقة على أن يكون لحزبيهما ممثلون في أنقرة، فردّ بأنهما طلبا ذلك والأتراك وعدوهما بدراسة الطلب. أضاف أن عضواً في الوفد التركي اقترح أن يستمر “السيد قره داغي في تمثيلهما وأن تبقى الاتصالات في الوقت الحاضر مع توبيري، لأن الموافقة على وجود ممثلين رسميين للحزبين تستدعي بعض الوقت لإكمال إجراءات ضرورية”. في ما بعد أخبرني مسؤولون أتراك أن “الإجراءات” كانت تعني التغلب على اعتراضات محتملة من قبل مؤسسات معنية، ناهيك بأن الرئيس أوزال كان يجب أن يبرر أولاً أمام المؤسسة العسكرية قراره منفرداً، إقامة علاقات مباشرة مع القيادة الكردية في العراق ودعوة وفد منها إلى أنقرة سراً. 

بعدما أنهى طالباني كلمته أشار إليّ بأن أتبعه إلى غرفته وما أن دخلنا الغرفة معاً، حتى انطلق بالحديث عن محادثات أنقرة وكان فرحه لا يوصف بنتائجها وآفاقها. كرر ما قاله لي دزه يي لكنه أضاف، بتفاؤله المعروف، أنه واثق أن أنقرة ستوافق بسرعة على افتتاح ممثليتين لحزبه ولحزب بارزاني، وكرر ما ذكره لي دزه يي في أن تستمر حتى ذلك الحين الاتصالات بين الطرفين من طريقي ومن طريق توبيري. وهكذا كان حتى صدرت موافقة أنقرة بعد نحو شهرين على ما أتذكر، فأرسل طالباني الراحل سرجل قزاز ممثلاً عن حزبه فيما أرسل بارزاني سليمان البنا ممثلاً عن حزبه. 

من الانتفاضة التي سادت في العراق بعد انسحاب القوات العراقية من الكويت

في الأثناء، كان العراق يشهد انتفاضتين في آن نشبتا وسط الفوضى التي سادت العراق بعد انسحاب القوات العراقية المهزومة من الكويت وانهيار معنويات الجيش عموماً. وكان طبيعياً أن ينصبّ اهتمام المشاركين في مؤتمر المعارضة على أخبار الانتفاضتين فكانوا خلال فترات الاستراحة يتجمعون في قاعة الفندق لمتابعتها ومحاولة الحصول على مزيد من المعلومات. فجأة برز رجل الدين جلال الدين الصغير الذي أعلن نفسه ناطقاً باسم الجماعات الإسلامية المشاركة في المؤتمر، فكان يقف في نهاية القاعة لقراءة بيانات عن عمليات “القوات الاسلامية” ضد القوات العراقية، لا في جنوب العراق فحسب، بل في كردستان أيضاً، الأمر الذي أثار غضب المشاركين الكرد وبدأوا تنبيهه إلى أن انتفاضة كردستان تقودها قوات البيشمركة لكن من دون جدوى، إذ ظل الصغير يتجاهل استخدام تسمية بيشمركة. أخيرا وبينما كان الصغير يقرأ بيانا جديدا لم يطق الشاعر الراحل شيركو بيكه س سماعه وفقد صبره فهجم عليه وامسك بياقته وهزه وهو يصرخ في وجهه: “في كردستان لا وجود لقوات إسلامية. هناك بيشمركه فقط”. بعد ذلك الحادث فقط، توقف الصغير عن تسمية القوات الإسلامية في كردستان وأخذ يستخدم تسمية بيشمركة.  

بعد انتهاء أعمال مؤتمر المعارضة سافرت إلى دمشق التي سبقني طالباني إليها، وذلك كي أتواصل معه حول نتائج محادثاته في أنقرة ودوري بصفتي “وسيطاً”، على رغم أنفي بين القيادة الكردية والرئاسة التركية. في دمشق أقمت في فندق قصر الشام وكنت ألتقي طالباني في شقته، إضافة إلى لقاءات مع شخصيات عراقية معارضة عربية وكردية وزملاء صحافيين عملنا معاً قبل أن أغادر العراق إلى بريطانيا.

أخبرت الأميركيين بلقاء واشنطن فلم يصدقوا 

كان طالباني يأمل بأن الانفتاح التركي على كرد العراق ولقاءه المسؤولين الأتراك في انقرة سيجعلان الولايات المتحدة تغير موقفها من اللقاءات مع الزعماء الكرد. كان معروفاً بين الكرد أن قسم الشرق الأوسط يفرض حظراً على لقاء المسؤولين الأميركيين معهم لعدم إغضاب تركيا. لكن ديفيد ماك النائب السابق لمساعد وزير الخارجية المسؤول عن شؤون الشرق الأوسط، نفى لي في لقاء أجريته معه في واشنطن في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر 1993 وجود حظر رسمي، مضيفاً أن السبب كان لأن القسم المسؤول عن الشؤون التركية في الوزارة كان يعترض على لقائنا مع الكرد لتجنب غضب الأتراك. في أي حال كان الكرد يعتبرون أن الرفض كان يعني عملياً وجود حظر على اللقاء مع ممثليهم. وكان ذلك من المواضيع التي كنت أبحثها مع طالباني في دمشق، ونتساءل هل ومتى ستغير واشنطن موقفها وترفع الحظر عن اللقاء مع الممثلين الكرد؟ المشكلة أن اللقاء الكردي – التركي كان سرياً، ويستبعد أن يغير ذلك شيئاً. فكرت في إجراء بعض الاتصالات، لعلني أجد إجابات على هذه التساؤلات. اتصلت بداية بالسفارة الأميركية في دمشق وتكلمت مع سكرتير القائم بالأعمال في غياب السفير، وعرفته بنفسي وطلبت لقاء مع القائم بالأعمال الذي لم أعد أتذكر اسمه، لإجراء مقابلة صحافية، من دون أن أذكر السبب الحقيقي. لكن السكرتير رد بأن لدى القائم بالأعمال جدول أعمال مكثفاً، ويُرجّح ألا يستطع لقائي فطلبت منه أن يحاول وأخبرته بمكان وجودي لكنني أدركت أن قصة جدول الأعمال المكثف كانت ذريعة لرفض استقبالي. 

كان رد فعل القائم بالأعمال على زيارة طالباني أنقرة، لا يختلف عن رد فعل ميليغان لكنه قال إنه سيبلغ واشنطن بذلك. 

في لندن وبحكم عملي الصحافي، كنت أتصل بديبلوماسيين مسؤولين عن شؤون الشرق الاوسط في سفارات غربية. من هؤلاء مسؤولة الشرق الأوسط في السفارة الأميركية ديزيريه ميليغان. عرّفتني إلى زوجها الذي كان من كبار موظفي “سيتي بانك” في لندن ونشأت علاقة عائلية، فكنا نتبادل الزيارات وطلب جيفري أن تدرّسه زوجتي أولغا اللغة الروسية، فلبت طلبه وأكملت معه صفوفاً استمرت أسابيع، قبل أن يغادر وزوجته لندن عائدين إلى واشنطن. اتصلت بميليغان وسألتها إن كانت تعرف القائم بالأعمال في دمشق وإن كانت تستطيع الاتصال به لكي يستقبلني. سألتني لماذا أريد لقاءه فأجبتها بأنه ممثل أميركا في دولة مجاورة لتركيا ويهمنا معرفة ما يحصل فيها لذا أريد أن أخبره بأن أنقرة غيرت موقفها من الكرد، واستقبلت جلال طالباني وأجرت معه محادثات هدفها إقامة علاقات علنية مع القيادة الكردية في العراق. بدا أن ميليغان لم تصدقني فسكتت لثوان قبل أن تقول بصوت مرتبك: “كامران هل تمزح معي؟”، فأجبتها بأنني لا أمزح واللقاء في أنقرة حدث بالفعل ويمكنها إن شاءت أن تبلغ مسؤوليها في واشنطن بذلك. شعرت بأنها ربما ظلت تشك في صحة المعلومة لكنها لم ترفض طلبي وقالت إنها تعرف القائم بالأعمال في دمشق جيداً، ووعدت بأن تتصل به كي يستقبلني. وبالفعل تلقيت في اليوم نفسه اتصالاً من سكرتيره القائم بالأعمال وأبلغني بأنه سيستقبلني في ساعة محددة في اليوم التالي. في اللقاء معه تحدثنا عن العلاقات الاميركية – السورية والاميركية – التركية وتداعيات الحرب على العراق في الدول الثلاث والمنطقة عموماً. وفي ما يتعلق بزيارة طالباني السرية إلى أنقرة ومحادثاته مع الحكومة التركية، أوضحت له رأيي بأن تركيا الأوزالية تبدو عازمة جدياً على تغيير موقفها من الكرد وإقامة علاقات مباشرة معهم وأنهم يأملون بأن هذا التطور سيؤدي إلى أن تغير واشنطن موقفها وتقيم بدروها علاقات معهم. كان رد فعل القائم بالأعمال على زيارة طالباني أنقرة، لا يختلف عن رد فعل ميليغان لكنه قال إنه سيبلغ واشنطن بذلك. 

أوزال يذهل الصحافيين الأتراك: طالباني جاء وغادر!

سواء أبلغت ميليغان أو القائم بالأعمال في السفارة الأميركية، واشنطن بالخبر الذي كادا لا يصدقانه، أم لم يبلغاها لكن أوزال سبقهما بإعلان زيارة طالباني عندما فجر قنبلة مدوية للصحافيين الأتراك في الطائرة الرئاسية وهم في طريقهم من أنقرة إلى موسكو. حدث ذلك عندما توجه أوزال من القسم الذي كان يجلس فيه الصحافيون في الطائرة الرئاسية إلى الجناح المخصص للرئيس. كان رئيس تحرير صحيفة “حريت” أرتوغرل أوزكوك الذي كان صحافياً يحسب له الحساب، وله صلات وثيقة مع كبار المسؤولين في المؤسسات الحاكمة نشر قبل يومين في عموده أن شائعات تدور في شأن زيارة محتملة يقوم بها طالباني إلى أنقرة. لاحقاً أعرب لي تشاندار عن رأيه بأن مصدراً في الخارجية التركية ربما سرب لأوزغوك معلومة غامضة في شكل شائعة عن دعوة محتملة إلى طالباني. وعندما كان أوزال على وشك أن يدخل إلى جناحه سأله الكاتب الصحافي البارز حسن جمال إن كان صحيحاً ما ذكرة أوزكوك في عموده عن زيارة طالباني. فرد أوزال بجملة نزلت على الصحافيين كقنبلة مدوية ترددت أصداؤها في تركيا لتصدم مجتمعها ومؤسساتها في مقدمها المؤسسة العسكرية التي فوجئت بالخبر كما فوجئ الصحافيون في الطائرة الرئاسية: “طالباني جاء وغادر. تسمون أنفسكم صحافيين ويفوتكم هذا الخبر؟!”. قال أوزال ذلك ودلف إلى جناحه وأغلق الباب خلفه. 

في الأثناء كان تشاندار اتخذ لنفسه مقعداً بعيداً من بقية الصحافيين وأغلق عينيه متمدداً محاولاً أن ينام قليلاً. فجأة جفل من غفوته عندما سمع صخباً وضجيجاً في مكان جلوس الصحافيين المصدومين. فتح عينيه ليرى رئيس تحرير صحيفته يوضح له سبب الضجة وطلب منه أن يحاول معرفة مزيد من التفاصيل من توبيري الذي كان يرافق أوزال ويجلس معه في الجناج الرئاسي. لكن تشاندار طمأن رئيس تحريره بأن لا داعي للقلق فهو، أي تشاندار، يعرف كل شيء وسيكون تقريره عن زيارة طالباني وافياً شافياً. روى لي جنكيز لاحقاً أنهم عندما وصلوا إلى الفندق الذي أقام فيه الصحافيون، هرعوا إلى غرفهم لإجراء اتصالات هاتفية مع أنقرة لعلهم يحصلون على معلومات تتعلق بزيارة طالباني. وكان يفترض أن يتوجهوا بعد استراحة في الفندق إلى الكرميلن لحضور عشاء يقيمه الرئيس ميخائيل غورباتشوف على شرف أوزال. تشاندر كتب قصته بهدوء وأرسلها إلى صحيفته وتوجه مع المرافقين السوفيات لحضور حفلة العشاء التي غاب عنها بقية الصحافيين الذين ظلوا في غرفهم يواصلون اتصالاتهم مع أنقرة، للحصول على معلومات عن زيارة طالباني وهو الخبر الذي اعتبروه أهم من لقاء أوزال وغورباتشوف!

إقرأوا أيضاً: