fbpx

“لا بد أنهم جاؤوا من أجلي”:
عن سارينة الشرطة والخوف المتعاظم في مصر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اعتدت أن أتجنب النظر إليهم، إذا ما قابلتهم صدفة أو في كمين، أخافهم فعلا، إذ بإمكان أي ضابط إذا أوقفك في الشارع ثم طلب بطاقة هويتك الشخصية أن يحول ذلك الفعل العادي إلى اتهام معلق في الهواء، يحكمه مزاج متقلب قد يكون متعكرا أو متصيدا أو في لحظة نشوة زائفة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر، الثانية بعد منتصف الليل، طفلاي نائمان في غرفتيهما، وكذلك زوجتي في الغرفة المجاورة، أعمل في مكتبي مستغلاً ساعات الهدوء، أنتظر من تلك الساعات الانغماس في الكتابة، أي أن أغوص بكليتي داخل حلم. تدوي سارينة شرطة أسفل المنزل، يتبدد السكون، يفر منها كطريد للعدالة. أسمع صوت توقف السيارة، وصوت باب يغلق، خطوات وهمهمة.

تسري رعشة في جسدي.

الشارع بجانبي هادئ، منعزل كأنه انعطافة عن التيار اليومي للأحداث، محاط بأشجار ترفرف مع الريح كرايات حياد خضراء. أمام المنزل هضبة رملية تعتليها كلاب وحيدة تقلد الذئاب في الليل. في النهار يمكن أن تراها بشكل أوضح عبر النافذة، تشبه عصبة مطاريد فوق جبل، أحياناً تعميها الخيلاء فتتخذ في جلستها الواثقة المسيطرة سيماء الملوك، برغم أنها ليست أكثر من أشباح معزولة فوق هضبة تطل على منازل محاطة برايات حياد.

ليس من المنطقي إذاً أن تتوقف هنا عربة شرطة في تلك الساعة، لغرض غير مقصود. تشاركني الكلاب الرأي، تعوي بوحشية أكبر كعادتها عند مرور غرباء.

تسيطر على عقلي فكرة واحدة تتضخم، تبتلع كياني وتأسرني داخل فقاعة يمر فيها الزمن ببطء:

عربة الشرطة هنا من أجلي.

أحملق في شاشة اللابتوب، أتجمد في مكاني، كأن عالمي سينهار ويتبدل إن غادرت المقعد، بل إن حولت مرمى البصر قيد أنملة، سأجدهم ورائي في الغرفة. أتخيلهم كأمناء شرطة ومخبرين أقوياء البنية، ذوي سحنة غليظة، تعكس أرواحاً صُبت من إسمنت، بنظرات أعين مرعبة، تحديداً لأنها نظرات عدمية، خالية من المشاعر أو الإيمان بشيء سوى أنهم يؤدون عملاً اعتيادياً، نظرات تسقط حصانتي ككائن بشري، وتحولني إلى “أكل عيش”. يقودهم ضابط بملابس مدنية، يملك ذلك الشارب الذي يميز أغلب الضباط، كثيف، مقوس إلى أسفل، حوافه قصيرة، يميل إلى صفرة داكنة، يلتهم الشفة العليا، فهكذا يخرج الكلام من فمه، كطلقة حاسمة لا تتردد، لا تعود إلى الخلف ولا تتوقع أن تعصى.

تسيطر على عقلي فكرة واحدة تتضخم، تبتلع كياني وتأسرني داخل فقاعة يمر فيها الزمن ببطء:

اعتدت أن أتجنب النظر إليهم، إذا ما قابلتهم صدفة أو في كمين، أخافهم فعلا، إذ بإمكان أي ضابط إذا أوقفك في الشارع ثم طلب بطاقة هويتك الشخصية أن يحول ذلك الفعل العادي إلى اتهام معلق في الهواء، يحكمه مزاج متقلب قد يكون متعكرا أو متصيدا أو في لحظة نشوة زائفة، حيث كل نظرة تنتقل في المسافة بين الوجه وبطاقة الهوية، هي لحظة تحديد مصير. كما أنني أستحضر قصص كل اللذين ابتلعتهم غياهب سجون بلا محاكمات أو قضايا، أو حصلوا على أحكام بتهم عمومية تصلح للجميع، بينهم أصدقاء من الدوائر القريبة، تلك القصص شائعة في مصر، كنزلات البرد، كجائحة. تؤمن ذاكرتي بحيلة طفل، إن أنكرت وجودهم عبر إغماض العين أو إشاحة النظر سيختفون كأنهم لم يوجدوا قط، على الأقل في حياتي. هكذا لا تصمد ملامحهم في ذاكرتي، تتبخر سريعا.

لماذا إذاً تسيطر صورة ذلك الشارب على مخيلتي؟

ربما لأنه استنسخ نفسه في وجوه المواطنين بالشارع فصار يحدق بك في كل مكان، مصوب إليك كفوهة سلاح، لقد انتشر كموضة، بسبب مسلسل كلبش الذي أدى فيه الممثل أمير كرارة دور ضابط، وعرف بين الناس باسم باشا مصر، بدأ ذلك المسلسل موجة مسلسلات لا يمكن أن يدان فيها الضابط أو يضعف أو يخطئ، بل هو إله، يحمينا، يمرض ابنه ولا يتوقف عن تلبية نداء الوطن، تموت زوجته بمرض خطير (سرطان المخ في كل مرة)، ولا يتوقف عن تلبية نداء الوطن، حياته في مهب الريح من أجل حماية المواطنين، لذا فحياته على عكسنا، حياة مقدسة لا يمكن أن نمسها، ولها أن تفعل بنا ما تشاء. 

رغم تلك المهابة الجافة التي لا تغفر أو تتفهم والتي يعكسها ذلك الشارب أفكر دائما في أن له غرابة شارب مستعار، غرضه هو أن يتشرب الخطايا التي علقت به في اليوم السابق، يخلعه صاحبه قبل أن يرتمي فوق فراشه، ثم يستبدله بشارب آخر عندما يستيقظ، جديد تماماً، نظيف وبلا شائبة.

لابد أنهم جاؤوا من أجلي. العمارة تتكون من أربعة طوابق، أغلبها أجانب، لقد انتقلت إلى هنا حديثا، لذا لم أتعرف على جيراني بعد، عدا مهندس، يذكرني بجار سيمبسون في الكارتون الشهير، أنيق، متسق وتافه، صاغ آراؤه من الاستماع إلى برامج أحمد موسى ونشأت الديهي ومسلسل الاختيار.

يملك المهندس شقتين في الطبقة الأولى متصلتين ببعضهما البعض، وأخرى في الدور الأرضي، وقد ربط بينهما بسلم، في رأيه تكفي تلك الملكية ليبرر وصايته على العمارة وسكانها. استولى على الحديقة أمام الدور الأرضي وضمها إلى ملكيته عبر إحاطتها بسياج، لا يظن أنها خدعة محتال، بل مهارة، برغم حرصه في كلامه على ذكر القانون، الفروق الدقيقة بين الخطأ والصواب، لا يقول صباح الخير إلا ليقذف عليك لوم أو نصيحة، غالباً ما يكون على حق، ليس لأنه كذلك، لكن لأنك بمجرد الجدال معه، تشعر بأنك تغوص في وحل، لذا ستتركه لينتصر.

لا يستغرق الحديث معه في كل مرة أكثر من بضع دقائق، لكن لديه تلك القدرة المذهلة على إزعاجي بتدخله السافر الذي يتجاوز شؤون العمارة إلى حياتي.

فكرت مرات عدة في بعض السيناريوهات للسخرية منه، أصير فيها أقوى من تفاهته، عبر محافظتي على روح المرح، ومن كوني لا آخذه على محمل الجد. أسحبه من حيث لا يدري إلى إهانة ذكية لا يستطيع التقاطها إلا متأخراً، بعد أن أتبخر من أمام وجهه الواثق، متطهراً بالضحك من كل مرة جرني فيها إلى وحل الجدال معه، والذي عندما أتذكر أثره السيئ الذي يتركه في يتملكني الغضب، وأؤمن أن المرح ليس عقابا عادلا بما يكفي، فتتحول سيناريوهات الانتقام المرحة في خيالي إلى إهانات صريحة استمتعت بها كلها أمام المرآة، واكتفي بها مدركا أني لا أستطيع تحمل كلفتها الحقيقية.

بالتأكيد لم يأتوا من أجله، هذا رجل يحبهم ويحبونه، إيمانه بهم يصعد من عظامه، لا ينقص الحديقة التي احتلها سوى علم الوطن. تلك السارينة دوت في الليل لغرض واحد، أن تخترق قلبي فيرتجف.

أنا الذي لم أفعل شيئاً، لم أشارك في نشاط سياسي، لم أدع لثورة، لا أرغب في واحدة، تقتصر آمالي على أن يمر اليوم بسلام، أن أربي أبنائي، أن أمكنهم من خيار الرحيل خارج دائرة الخوف، إذا ما أرادوا، أقصى ما يرتفع إليه سقف آمالي: أن أكتب نصاً، بضعة سطور لن تضر أحداً، الأدب لا يُقرأ لذا فهو لا يُزعج أحداً، إنه فعل مجانين يكتفون بالغضب أمام المرآة.

أدون بضع تعليقات ساخرة على “فيسبوك” و”تويتر”، لا يقرأها سوى عدد قليل من الأشخاص، أغلبها للتنفيس ولمعادلة وضع قاتم بشيء من الضحك، يعيد إلى نفسي الاتزان، لأتنفس، لا أرغب من ورائها في أكثر من انتظام الشهيق والزفير، خدعة لا أكثر ولا أقل. 

حذرتني زوجتي وأصدقائي، لكنني لا أؤمن أن النكتة مازالت تعمل وفق الحدود التاريخية الواضحة التي أرستها أمثولة الطفل والملك العاري: للسلطة الجد، ولنا الهزل منها. لم يتبق لنا، سوى كآبة الجدية، وخطر تحول الهزل إلى طقوس فارغة من المعنى، بعدما صار الملك يعلم مسبقاً أنه يفعلها عارياً من كل زينة وكل رداء.

نكتتنا إذاً لا تخبره أن كابوسه لا يرعبنا. نحن فقط نهمس لأنفسنا: لعل يد الغدر، لم تصل إلى كل مكان بعد. كلماتنا ليست إلا صدى الغرفة المعزولة، أنين يائس، عواء كلاب تقلد الذئاب في الليل والملوك في النهار.

أفتش في قلبي عن ذنب يستحق، لا أجده، أغمض عيني، أتمتم: مهما فعلت، أنا لا أحد ليأتوا من أجله، لا أستحق ذلك العناء.

غادرت العربة سريعا، كل هذا الذعر حدث في ثوان معدودات مرت بطيئة وطويلة كتحديقة يائس في وضع تافه.

أغلقت اللابتوب. عاد الهدوء، لكن السكون لم يعد، رأسي مثقلة، احتلتها سارينة لا تتوقف عن الدوي، أفتح الهاتف، أتصفح بضع فيديوهات مسلية، أكتب تعليقا هزليا كي تهدأ روحي قليلا.

بعد ساعة، أدخل إلى غرفة النوم، أضع رأسي على الوسادة، وأفكر في علاء عبد الفتاح الذي أعلن إضرابا عن الماء، المهدد بالموت. وأعلم أخيراً ما هو الذنب الذي جعل من مجرد سارينة شرطة عابرة شيئاً ضخماً ومرعباً. ما زلت لا أريد شيئاً، لا ثورة أو حرية، لكني أريد لعلاء أن يعيش، أن يفرج عنه، أريد ذلك من كل قلبي. لن أتمكن من تجاوز ذلك الأمر، تلك المرة لن تفلح حيلة الطفل في إشاحة النظر. قلبي تسكنه للمرة الأولى منذ سنوات رغبة حقيقية في شيء. 

أنام بصعوبة، كمن يسرق لذة مسمومة.

في الصباح. تخبرني زوجتي أنها استيقظت على صوت سارينة الشرطة، وأنها مرت بالشعور عينه، لكن بينما تجمدت أنا في مقعدي حتى تأكدت أن السارينة لم تقصدني أنا بالذات، بل قصدت إيقاظ الرعب بشكل عشوائي في أي قلب تصادفه، تسللت زوجتي إلى الشرفة كي لا تقلقني، لم تتمكن من رؤيتهم، كأنهم وهم جماعي، أشباح في مخيلتنا، لكنها ظلت تقرأ القرآن، وتدعو الله حتى رحلوا.

تخبرني عما رأته في الشارع بصحبة زينب ابنتي ذات الخمس سنوات، عصر اليوم السابق في الطريق إلى الحضانة، مسافة ليست بعيدة من البيت، الشارع كله منزو عن الشارع الرئيسي، هناك عربتا شرطة تسدان الطريق، ضابط يوقف شاباً ما، أهانه بشدة، الدوريات في كل مكان، تحسباً لزوبعة في فنجان تدعى 11 نوفمبر، دعوة لم يلبها أحد، ونشعر جميعاً بأنها مشبوهة. مم يخافون؟ لا أحد فينا يملك الرغبة أو القدرة على تكرار تجربة الثورة.

لماذا أشعر بالإهانة، وينفتح في صدري عار ينهشني من الداخل وصغيرتي تسأل ببراءة عن السبب الذي استحل به إنسان كرامة إنسان آخر؟ أجيب، أنه شيء لا يصح، كنت أكذب وأقول الصدق في الآن عينه، أن ما حدث ليس القاعدة، بل الاستثناء وأنها على صواب باستنكاره. الكذبة هي أن ذلك يحدث كل يوم، وكلنا معرضون له، الحقيقة التي يكمن فيها الأمل كله هي أن أمراً كهذا يجب ألا يتعرض له أحد، وعليها أن تستنكره أيضاً عندما تكبر.

يشغلني ألا تدرك في ذلك السن أنها تعيش في دولة لا يأمن فيها المرء على نفسه، يأكله الذعر عند سماعه سارينة شرطة تحت منزله، فقط لأن رغبة واحدة استقرت بقلبه واعتنقها بكل جوارحه: أن يفرج عن شخص ما، وألا يُترك لموت محتم.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.