fbpx

تغيّر المناخ عنوان “سكسي” يكتسح العراق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا تعود أسباب تصحّر أجزاء واسعة من الأراضي الزراعية، حصراً إلى آثار تغيّر المناخ بعكس ما يحاول مسؤولون عراقيون الترويج له في المنتديات الدولية، بل تعود أيضاً الى النشاط البشري الهائل، النشاط العمراني تحديداً، والذي يتوسع على حساب النظم البيئية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في حديث بيني وبين باحثة أوروبية عن أوضاع العراق، طلبت إلي أن أزوّد المركز الذي تعمل فيه بمواد عن تغير المناخ في البلد. اقترحت عليها موضوعاً يتعلق بالتكاثر السكاني السريع وأثره المباشر في بيئة العراق وموارده الطبيعية. لم تتردد الباحثة بالقول إن الإنجاب والتكاثر، ينطويان ضمن الحريات الشخصية، مفضِّلة أن أركز على تغير المناخ تحديداً. ساهم مثل هذا الشرط السائد في الوكالات الدولية، في نشر أحاديث وكتابات وتصريحات هائلة عن آثار تغيّر المناخ في العراق، وجعل تسمية “التغير المناخي” في وادي الرافدين عنواناً مثيراً ليس في الصحافة العربية فحسب، بل حتى في الصحافة الدولية وتقارير المنظمات الدولية، وكأن البلد بهوائه وتربته ومياهه جزيرة معزولة عن محيطه المناخي والبيئي، ليصبح “خامس دولة هشة” أمام آثار تغير المناخ في العالم.

 تالياً وللسبب ذاته، هناك إفراط كبير في استخدام تغيّر المناخ، تساهم فيه جهات دولية وحكومية محلية والصحافة ومنظمات المجتمع المدني، من دون التمييز بين ما هو مناخي وما هو بيئي- بشري، ما يؤدي إلى تراكم المعلومات الخاطئة، ناهيك بالتحايل على الأسباب المدفوعة بالتدهور الحاصل في بيئة العراق. ولكن، لماذا هذا الإفراط في نشر المعلومات الخاطئة، أين يكمن الخلل وكيف يمكن فهم ما يحصل وما هي سبل معالجته؟ من هي الجهات والأشخاص والمؤسسات المسؤولة عن تصدير صورة محمضة في مختبرات التجاهل- والجهل بطبيعة الحال- بأحوال البلاد المناخية من دون ربطها بالمناخ الإقليمي والعالمي، هل هي الصحافة، الحكومة العراقية أم المنظمات ومراكز الدراسات والمؤسسات الدولية، بما فيها منظمات الأمم المتحدة العاملة في البلد؟ 

لا تتجلى الصورة من دون إعادة تحميضها ووضعها في سياقها الصحيح ليس من الناحية المناخية فحسب، بل من الناحية البيئية والاقتصادية والسياسية والمجتمعية أيضاً. للوهلة الأولى، يقتضي الأمر فصل الآثار الناجمة عن التدهور البيئي عن آثار تغيّر المناخ، ذلك أن العراق هو جزء من مناخ إقليمي في المنطقة ولا يختلف تأثره بالمتغيرات عن تأثر البلدان الأخرى مثل السعودية، الأردن، سوريا، لبنان وإيران. وقد يكون هناك تفاوت قليل بين ارتفاع درجات الحرارة ونسبة هطول الأمطار، إنما يعود سبب ذلك الى السياسة البيئية والصناعة النفطية وآثار الحروب المتعاقبة. وبالتالي، يمكن القول إن أزمة العراق بيئية بالدرجة الأولى، أي أنها ناجمة عن النشاط البشري. 

لا تملك وسائل الإعلام غالباً محرراً متخصصاً لأخبار البيئة والمناخ، وهو ما يساهم في الخلط بين ما هو مناخي وما هو بيئي- بشري.

لا تعود أسباب تصحّر أجزاء واسعة من الأراضي الزراعية، حصراً إلى آثار تغيّر المناخ بعكس ما يحاول مسؤولون عراقيون الترويج له في المنتديات الدولية، بل تعود أيضاً الى النشاط البشري الهائل، النشاط العمراني تحديداً، والذي يتوسع على حساب النظم البيئية.  نظرة سريعة على التوسع العمراني “العشوائي” في العاصمة بغداد والبصرة والمدن الأخرى وعلى أراض خصبة كانت تغطيها أشجار النخيل في الماضي، كفيلة بتوضيح الصورة وأسباب التدهور الحاصل. يجدر الذكر أن النمو السكاني السريع في العراق بزيادة مليون إنسان سنوياً، مدفوع بإزالة المزيد من الأراضي والتربة الصالحتين للزراعة وإنتاج الغذاء لمصلحة العمران العشوائي. 

من ناحية أخرى، تعد المياه الثقيلة غير المعالجة التحدّي البيئي الأكبر أمام العراق. ففي ظل التوسع العمراني والاكتظاظ السكاني، تعاني جميع المدن العراقية من بنى تحتية قديمة ومتهالكة غير قادرة على استيعاب المخلفات البشرية، ما يدفع البلديات الى التخلّص من المياه الثقيلة عبر تفريغها في الأنهار والأحواض المائية العذبة. نعم، في مدن العراق المحكومة بالوساخة والقذارة الناجمتين عن الإدارة السيئة، يتم تفريغ مياه الصرف الصحي والمخلفات البشرية في الأنهار، لا سيما في أنهار ديالى قرب العاصمة بغداد أو شط الديوانية، أو شط العرب في البصرة.

كثيراً ما نسمع عن عاصمة إقليم كُردستان، مدينة أربيل، كمثال يحتذى به من ناحية التطور العمراني والأعمال، إنما لا يفكر أحد بتفريغ جوف المدينة من المياه! لقد تطورت المدينة بصرياً، إنما تخلفت مائياً، ذلك أن “الازدهار” كلّف المياه الجوفية الكثير. وكان حفر البئر بعمق 150 الى 200 متر، كفيلاً بالوصول إلى المياه قبل عام 2003، إنما الآن فيبلغ العمق 700 متر، ما يعرّض المدينة لمزيد من العطش والحرارة في السنوات المقبلة. يضاف إلى ذلك، بناء قرى وفلل عصرية على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والنظم الطبيعية في أطراف المدن في الإقليم. وقد حوّل هذا النشاط العمراني العشوائي المنطقة الى كتل كونكريتية ساخنة لا تُبرّدها الأرض ولا السماء.

عند الحديث عن القضايا البيئية في العراق، يترك الصحافيون هذه الأزمات كلها ويركضون نحو الأهوار الجنوبية أو قرية نائية للكتابة عن تغير المناخ. تكمن المشكلة هنا: ترك المدن بمخلفاتها وآثارها في التربة والمياه والهواء، وإظهار صورة فلاح بسيط لا يعرف ما يحصل حوله سوى تجاهل الحكومات له وللأوضاع التي يعيش فيها. وما هو مهم في هذا السياق، أن يعرف ويفهم الصحافيون أن مخلفات المدينة، إضافة إلى آثارها المباشرة في مصادر المياه وتلوّث الهواء، تطلق كميات هائلة من غاز الميثان الى الجو، إذ لا تقل خطورته عن خطورة غاز ثاني أوكسيد الكربون من ناحية الاحتباس الحراري، ناهيك بتركة بيئية ثقيلة على صحة المجتمعات العامة.   

لا يُقصَد بذلك، التقليل من حجم آثار الجفاف الناجم عن تغير المناخ على سكان الأرياف وسبل عيشهم، إنما تُظهر لنا الأرقام أن عدد سكان الأرياف في العراق يبلغ 11 مليوناً من مجموع 41 مليون إنسان يعيشون في ظروف بيئية سيئة من ناحية تلوث الهواء والمخلفات والاكتظاظ. ولا يمكن حصر الأزمات بالعامل المناخي فقط، فهناك عوامل بشرية وإدارة سيئة للموارد الطبيعية تساهم بدرجة كبيرة في وضع العراق في مقدمة الدول الهشة أمام تغير المناخ. 

خلاصة القول، يطغي تغير المناخ على عناوين غالبية القصص والتحقيقات الصحافية إن لم نقل جميعها، إنما يكتشف المرء أثناء القراءة أو المشاهدة، أن الأسباب تعود الى التدهور البيئي الناتج من النشاط البشري والصناعي، ناهيك بالإهمال الحكومي وعدم الاكتراث بما يحصل في النظم البيئية. ويلجأ الصحافيون غالباً الى قصة مزارع أو مزارعة في إحدى القرى العراقية، مكتفين بسرد مقتضب واقتباس ما يمكن اقتباسه من تقارير المؤسسات الدولية عن الموضوع، بينما يمكن التغطية الكاملة للقصة وإظهار الظروف المحيطة بأشخاصها، منها العوامل البشرية، كالصيد الجائر وغياب الخدمات وآثار الصناعة النفطية ومقايضة المياه بالقضايا الأمنية من جارتي العراق: تركيا وإيران. 

لا يريد هذا المقال إلقاء اللوم على الصحافيين، ذلك أن الصحافة البيئية حديثة الولادة نسبياً في عموم العالم العربي، ولا تحتل القضايا المتعلقة بالبيئة صدارة العناوين إلا في أوقات الشدة. ولا تملك وسائل الإعلام غالباً محرراً متخصصاً لأخبار البيئة والمناخ، وهو ما يساهم في الخلط بين ما هو مناخي وما هو بيئي- بشري. ولا يقتصر الأمر هنا على الصحافة فقط، بل يمتد إلى الجهات الحكومية المختصة التي تقع في الأخطاء ذاتها، إذ تساهم في نشر صورة سائدة، ونمطية نوعاً ما، عن “المتغيرات المناخية”.