fbpx

إسرائيل سدت المنافذ أمام الفصائل فولد المنفذون الأفراد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مقاومة الاحتلال والظلم والقهر، عمل مشروع ونبيل، وهو رد فعل طبيعي، لكنه يحتاج إلى استراتيجية واضحة وممكنة، كي لا تغدو المقاومة عملاً مزاجياً، وعاطفياً، وعفوياً، وتستنزف شعبها بدل أن تستنزف عدوها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ارتكبت القوات الإسرائيلية مجزرة في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين، قتلت فيها 9 من شباب المخيم، وجرحت العشرات، وجرفت حارات بأكملها، وذلك ليس حدثاً طارئاً، إنما سياسة تنتهجها إسرائيل لتكريس واقع الاحتلال والاستيطان والهيمنة، وإسكات الفلسطينيين، وهو حدث مراراً في جنين ونابلس ورام الله والقدس والخليل.

في اليوم التالي، أطلق شاب فلسطيني النار على مستوطنين إسرائيليين في كنيس في مستوطنة “النبي يعقوب” في القدس، أردى ثمانية منهم، ما فهم أنه بمثابة رد فعل على ما ارتكبته إسرائيل في مخيم جنين. لكن هذه العملية أتت في سياق إقدام الكثير من الشباب، الذين لا ينتمون إلى أي فصائل، للقيام بهجمات من هذا النوع وهو ما شهدناه طوال العام الماضي.

عمليات من هذا النوع يمكن فهمها في إطارين: الأول، بوصفها رد فعل أو حالة تمرد، ضد الاحتلال والظلم، أي أن إسرائيل بسياساتها الاستيطانية والعدوانية والتمييزية هي سبب المقاومة، ويأتي ضمن ذلك سدها الأفق أمام أي حل سياسي. والثاني، أنها أتت كنتيجة طبيعية للفراغ السياسي، وحال الإحباط من الفصائل، والافتقاد للقيادة، وغياب الرؤية السياسية والاستراتيجية الكفاحية، الواضحة والممكنة للحركة الوطنية الفلسطينية، إلى جانب جمودها وانقساماتها وترهلها. 

 وكما هو معلوم، فإن الفلسطينيين لم يتركوا طريقا إلا وسلكوه لانتزاع حقوقهم، وضمن ذلك السلاح والحرب الصاروخية والعمليات التفجيرية والانتفاضة والمفاوضة، وضمن ذلك قبول قيادتهم بإقامة دولة على جزء من أرضهم (22 في المئة من فلسطين)، إلا أن إسرائيل سدت تلك المنافذ، مستفيدة من غياب الحاضن الدولي والعربي لحقوق الفلسطينيين.

وللعلم، فمنذ بداية كانون الثاني/ يناير 2023، وحتى 26 منه، قتلت إسرائيل 31 فلسطينياً، وكانت في العام الماضي قتلت 230 منهم، بحيث اعتبر العام الذي شهد مصرع أكبر عدد من الفلسطينيين، بعد الانتفاضة الثانية (عام 2005)؛ طبعاً باستثناء فترات الحروب على غزة؛ ما يعني أن ما تقوم به إسرائيل هو سياسة ثابتة لكل حكوماتها، أي أن ما تفعله حكومة نتنياهو- بن غفير- سيمتريتش فعلته حكومات “العمل” و”الليكود” و”كاديما” (إلى الأمام) ويش عيتيد” (حزب هناك مستقبل). 

مثلاً، منذ عام 2006 تسلم محمود عباس القيادة والسلطة حتى أواخر 2022، وخلالها قتلت إسرائيل 7500 من الفلسطينيين، بالرصاص والقصف الصاروخي، في الضفة وغزة والقدس (بمعدل سنوي بلغ 470 شخصاً).

إسرائيل باتت تجد أن ثمة ما يشجعها على الاستشراس في قتل الفلسطينيين، وهدم بيوتهم، واستيطان أراضيهم، والتملص من اتفاقات التسوية معهم، وحتى اللامبالاة بظهورها على طبيعتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية.

في المقابل، وفي عمليات فلسطينية متفرقة لقي 371 إسرائيلياً مصرعهم (بمعدل سنوي بلغ 23)، ويعني ذلك تفوق إسرائيل بـ21 ضعفاً تقريباً. لكن اللافت للانتباه أن العام الماضي (2022) شهد، أيضاً، مصرع 32 إسرائيلياً، في هجمات فلسطينية، وهو رقم عالٍ بالنسبة إلى الإسرائيليين، قياساً بالأعوام السابقة، إذ قتل 21 منهم عام 2021، و3 عام 2020، و12 عام 2019″. (“يديعوت أحرونوت”، 24/11/2022).

أهمية الرقم المذكور، أنه في كل الحروب التي شنتها إسرائيل على غزة لم تخسر مثل هذا العدد باستثناء الحرب الثالثة عام 2014، حين قتل 70 إسرائيلياً لكن مقابل 2174 فلسطينياً. في الحرب الأولى عام 2008 قتل 13 إسرائيلياً، مقابل 1436 من الفلسطينيين (بنسبة 1/110)، وفي الحرب الثانية عام 2012 قتل 3 إسرائيليين مقابل 155 فلسطينياً (بنسبة 1/50)، وفي الحرب الرابعة عام 2021 قتل 12 إسرائيلياً، مقابل 243 فلسطينياً (بنسبة 1/20)، وفي الحرب الخامسة 2022 لم يقتل أحد من الإسرائيليين، لكن قتل 44 فلسطينياً. 

من ناحية ثانية، وبالقياس إلى الحرب الصاروخية، التي تنتهجها بعض الفصائل من غزة، فإن ذلك الرقم يدلل إلى أن تلك العمليات المتفرقة، لشباب أفراد، هي أكثر إيلاما لإسرائيل، لجهة الخسائر البشرية، كما أنها تحرمها، أو تحد من قدرتها على الرد، بالنظر إلى طريقة ردها على صواريخ الفصائل، إذ تجد فيها ما يسهل لها تحويل قطاع غزة إلى حقل رماية لقصفها من البر والجو، والإمعان فيه قتلاً وتدميراً. وعلى سبيل المثال، فإن العملية الأخيرة في القدس كبدت إسرائيل خسائر بشرية أكثر مما كبدتها كل الصواريخ التي أطلقت عليها سابقاً.  

إسرائيل باتت تجد أن ثمة ما يشجعها على الاستشراس في قتل الفلسطينيين، وهدم بيوتهم، واستيطان أراضيهم، والتملص من اتفاقات التسوية معهم، وحتى اللامبالاة بظهورها على طبيعتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية (وفقاً لحكومة نتنياهو وبن غفير وسيمتريتش). 

تشجع إسرائيل على سياسة الاستشراس ضد الفلسطينيين عوامل عدة، أبرزها: ضعف حال الفلسطينيين، وغياب الإطار الدولي والعربي الحاضن لهم ولحقوقهم، وشعور إسرائيل بأنها باتت في مركز قوة، عربياً لصد النفوذ الإيراني، ودولياً لتقدمها علمياً وتكنولوجياً، ما يفسر علاقتها الوثيقة بروسيا والصين والهند.

إذاً الفلسطينيون في ظرف صعب ومعقد، بمختلف الأصعدة داخلياً وخارجياً، أكثر مما مضى، فالبنى السائدة باتت تشكل عبئاً وقيداً على الشعب، وهو ما أنتج هجمات متفرقة، لشباب مستقلين، تغطي الفراغ، في حين لا توجد أشكال لمقاومة شعبية مستدامة، فالفصائل، وسلطتا الضفة وغزة، لا تسمح بتطور إمكانيات المجتمع المدني، إلى درجة يصح معها القول بأن الفلسطينيين قبل إقامة السلطة كانوا أكثر قوة ووحدة وتحرراً في مقاومة إسرائيل، منهم بعد إقامتها، بدلالة الانتفاضة الشعبية الأولى (1987ـ19993).  

على ذلك فإن ما يجب إدراكه هنا، هو أن المسألة لا تتعلق بمشروعية المقاومة، وبالتضحيات المبذولة، وإنما بطريقة المقاومة، وبتقليل أكلافها، بما يفيد التناسب بين الكلفة والمردود، كما تتعلق بالتمكن من الاستثمار في التضحيات، علماً أن المقاومة المجدية هي التي لا تمكن عدوها من استنزاف شعبها بزجه في مواجهات غير محسوبة، أو بتحميله فوق قدرته على التحمل. 

اللافت هو استمراء الفصائل، بعد كل هجمة أو مجزرة لإسرائيل، إصدار البيانات، وإطلاق الشعارات، والتهديدات، بأن العدو سيدفع الثمن، وأنها ستزلزل الأرض تحت أقدامه، وستلقنه درساً لن ينساه، وادعاء ارسائها “توازن رعب”، و”قواعد اشتباك” و”وحدة ساحات”، وهي مفاهيم يتم تدبيجها بدون صلة مع الواقع، ولم تثبت في التجربة، بالترافق مع دعوة الشعب إلى المقاومة، كأن الفصائل (وسلطتي الضفة وغزة) تركت مجالاً للشعب كي يفعل بعضاً من ذلك بطريقته، أو كأنها باتت داعية للمقاومة، وليست تلك شغلتها هي؛ كما هو مفترض!

بيد أن المشكلة الأكبر في القيادة الرسمية (قيادة المنظمة والسلطة وفتح)، التي لا تفعل شيئاً لإخراج الحركة الوطنية الفلسطينية من هذا الواقع الراكد والبائس، إذ هي، بعد مجزرة مخيم جنين، اكتفت بإعلان وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وهو أمر مشين، واستهانة بذاكرة الفلسطينيين، أولاً، لأن للسلطة، منذ قيامها، وطوال ثلاثة عقود، على تنسيق أمني مع إسرائيل، برغم أن هذه قوضت اتفاق أوسلو برمته (منذ مفاوضات كامب ديفيد 2/2000). وثانياً، لأنه سجلت سابقة في التاريخ، الذي لم يعرف شعباً ينسق أمنياً مع القوة التي تحتل أراضيه وتهيمن عليه، لحمايتها وحماية مستوطنيها! ثالثاً، لأن هذه هي المرة الثالثة التي يصدر فيها هكذا قرار دون أن تنفذه تلك القيادة (المرة الأولى في المجلس المركزي عام 2015، والمرة الثانية في الدورة 23 للمجلس الوطني عام 2018، وفي العام 2020، مثلاً). 

وبالتوازي، ثمة مشكلة كبيرة، أيضاً، في إطلاق الصواريخ من غزة، علماً أنه في كل التجارب، لم يفد في ردع إسرائيل ولم يوقف اعتداءاتها وانتهاكاتها، بل سهل ذلك إطلاق يدها في البطش بقطاع غزة، وتدمير بناها التحتية، وتعزيز الحصار على مليوني فلسطيني فيها، بدعوى أنها تدافع عن نفسها بصواريخ مقابل صواريخ، وشتان بين صواريخ فلسطينية وصواريخ إسرائيلية، علماً إن إسرائيل لم تستجب ولا مرة لما قيل إنها شروط وقف إطلاق النار.

في كل الأحوال، فإن مقاومة الاحتلال والظلم والقهر، عمل مشروع ونبيل، وهو رد فعل طبيعي، لكنه يحتاج إلى استراتيجية واضحة وممكنة، كي لا تغدو المقاومة عملاً مزاجياً، وعاطفياً، وعفوياً، وتستنزف شعبها بدل أن تستنزف عدوها، لا سيما أن الحديث يتعلق بحركة وطنية مجربة، بمسيرة طويلة، عمرها 58 عاماً، قدم فيها شعبها تضحيات باهظة، لكنها لم تتوقف قط لمراجعة تجربتها بطريقة نقدية ومسؤولة.