fbpx

صور من القاهرة التي كانت… 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الخديوي إسماعيل أراد مدينة أوروبية بسرعة لتكون في استقبال ضيوفه عند افتتاح قناة السويس عام 1869، لكن أنى له ذلك مع القاهرة القائمة آنذاك؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نزلت قاصداً حي المغربلين في قلب القاهرة القديمة لواجب العزاء. طبقة فوق أخرى: التاريخُ هنا حيثما وجهت نظرك. ترجلت من السيارة على بعد بضع مئات من الأمتار من مقصدي خلف مسجد ومدرسة السلطان حسن، الصرح  المملوكي العظيم الذي قارب السبعة قرون عُمراً. إلى الشمال الشرقي من السلطان حسن، عبر ممشىً واسع، مسجد الرفاعي الضخم، أو مسجد خوشيار هانم إن شئت الدقة، والدة الخديوي إسماعيل (حكم مصر 1863-1879) التي شرعت في بنائه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر  ليكون دار عبادة ومدفناً لأفراد الأسرة المالكة.

  وفي الجهة المقابلة، عبر الشارع، إلى الشرق من مسجدي السلطان حسن والرفاعي المهيبين، هناك مسجدان أصغر بكثير، أحدهما، المحمودية، وهو عثماني يعود إلى أواخر القرن السادس عشر، والآخر مملوكي، قاني باي الرمّاح،  بُني أوائل القرن نفسه وتميزه قبة مزخرفة ومئذنةٌ مزدوجة فريدة. تحتضن هذه الصروح ميدان القلعة (صلاح الدين رسمياً والرميلة تاريخياً) من جهته الشمالية.  اسم الميدان مرتبط بمؤسس القلعة الهائلة المبنية على التل المطل على الميدان والمدينة، والممتدة حتى الجنوب الشرقي منه: السلطان صلاح الدين الأيوبي.

لكن بناءً آخر  يعود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر يجثم فوق القلعة ومن ثم فوق المشهد كله، يغرز نفسه في عينك هو وصاحبه الذي يحمل اسمه: مسجد محمد علي ذو الطراز العثماني والقباب الرصاصية اللامعة. وعندما أدير ظهري للقلعة ومسجد “مؤسس مصر الحديثة” (حيث دفن أيضاً)، نزولاً نحو المغربلين، فأنا سالكٌ حتماً الطريق الذي يحمل اسمه: شارع محمد علي. اسم الضابط العثماني  الألباني-الأصل تاجر التبغ، يحاصرك، بل إن  لون أفعاله يسمي الأرض تحت قدميك: باب العزب هو اسم بوابة القلعة الضخمة المواجهة لمسجدي الرفاعي والسلطان حسن. هنا ارتكب “مؤسس مصر الحديثة” بدمٍ بارد “مجزرته التأسيسية”، ففي مشهدٍ شهير، في آذار/ مارس 1811، حشر الوالي العثماني (تولى الحكم 1805) في ممر خلف هذا الباب، أعيان المماليك وأمطرهم بوابلٍ من الرصاص، حتى أبادهم. تقول الأسطورة إن شلال الدم النازل صبغ لونه الأحمر القاني التربة حتى عُرفت المنطقة بالدرب الأحمر، الاسم الذي تحمله إلى اليوم. إرث محمد علي، الضابط الأمي (يقال أنه لم يتعلم القراءة والكتابة إلا بعد قدومه مصر) معقد متناقض، ومن هنا انطلق منه الكثير.

إلى الجنوب من مسجد السلطان حسن مكعبات خرسانية دميمة : مبانٍ مما يعرف ب”المساكن الشعبية”. هذا النوع من البيوت قدمته في أماكن كثيرة سلطة يوليو 1952 كمنازل للفقراء، رخيص سهل البناء كما ينم اسمه، لكنه آية في القبح، صفة يبرزها هنا التناقض الصارخ مع مسجد السلطان حسن خصوصاً ومع بقية البهاء المحيط بميدان القلعة عموماً، وكأنما “الشعبي” و”القبح” صنوان. طغيان الخط المستقيم الذي شَكَل المساكن الشعبية وساد بعض مدارس العمارة الحديثة كان وراء شارع محمد علي الذي كان مبدأه بين المسجدين الضخمين: السلطان حسن والرفاعي (اليوم هذا الجزء من الشارع ضمن حرم الأثرين الضخمين على جانبيه وهو مخصص للمشاة فقط)، ومنتهاه في ميدان العتبة عند القاهرة الحديثة التي بناها حفيد محمد علي: الخديوي إسماعيل غرب المدينة القديمة.

شق  هذا الطريق قلب القاهرة  الفاطمية مطلع سبعينيات القرن التاسع عشر. وقتها انشغلت النخبة الحاكمة التي تعلمت في بعثاتٍ أرسلها محمد علي لفرنسا، كان من طلابها الخديوي إسماعيل نفسه، ببناء مدينة “حديثة”، وهذه حُكماً، من وجهة نظرهم، عدا طابع مبانيها الأوروبي، شوارعها مستقيمة. لكن الخط المستقيم الذي رسم شارع محمد علي غريب عن المدينة التي خَطها الفاطميون في القرن العاشر الميلادي وتزينها إلى اليوم إنجازات المماليك المعمارية المبهرة.

يتحسر الأكاديمي الفرنسي أندريه ريمون  (ت 2011)، أهم من أرّخ للقاهرة في العقود الأخيرة، على ما سببته استقامة شارع محمد علي من اعوجاجٍ لا شفاء منه. عدا 700 منزل هُدمت، دُمِر مسجد الأمير قوصون الذي يبدو أنه كان صرحاً هائلاً (بُني في القرن الرابع عشر الميلادي) فلم يبق منه إلا بعضه. ريمون، وغيره (تيموثي ميتشيل في كتابه المُعنون Colonising Egypt “استعمار مصر”، وجانيت أبو اللغد في كتابها عن القاهرة) ينقلون قصصاً عن بيوتٍ شُقت في  منتصفها فبقيت أحشاؤها جثةً حزينة عارية . يقرأ تيموثي ميتشيل في الهوس بالخط المستقيم رغبةً تذهب أبعد من المنظر “الصحيح” المختلف، إذ كان الهدف منظومة كاملة يتحرك ويعيش فيها الناس بصورة خالية من الازدحام والفوضى اللذين من وجهة نظر هؤلاء “المُحّدِثين” وصما القاهرة التاريخية (ناهيك بأن الخط المستقيم المفتوح يعني حكماً مدينة التحكم فيها أسهل من أخرى تسودها الأزقة والشوارع الضيقة الملتوية). 

مصر- الخديوي 

على النقيض من جده لأبيه الأمي الذي لم يعرف مصر إلا في العقد الرابع من عمره، تلقى الخديوي إسماعيل التعليم في فرنسا، فيما كان رجاله المعروفون كعلي باشا مبارك، أو كرفاعة الطهطاوي، مصريين أقحاح. لكن الظاهر أن العمى عن قيمة تاريخ القاهرة ومبانيها، كان تراثاً اشترك فيه إسماعيل مع جده محمد علي (لم تنُشأ لجنة حفظ الآثار العربية التي كُلفت مهمة الحفاظ على التراث المعماري الإسلامي إلا عام 1881، بعد خروج إسماعيل من السلطة بعامين).

يبدو مسجد محمد علي الضخم الجاثم فوق القلعة، المبنية فوق تل يطل على المدينة من شرقها، مهيباً من بعيد، وبحكم الارتفاع (من ثم التسمية بقلعة الجبل) يُرى المسجدُ من مساحاتٍ واسعة في قلب العاصمة المصرية، بخاصة في المنطقة الممتدة من القلعة شرقاً حتى نهر النيل غرباً. نجح محمد علي  في ترك علامته بصرياً، إلا أن المحتوى وما أُسست عليه هذه العلامة الطاغية أمر آخر. هذا المسجد، و مبانٍ اخرى شيدها “الباشا” في القلعة، أهمها قصر الجوهرة ، قام على أنقاض دُررٍ معمارية مملوكية. يجمع المؤرخون على أن محمد علي، ليشيد “مشهده” هذا، هدم ما كان باقياً فوق الأرض من قصور مملوكية منيفة، أهمها القصر الأبلق الذي أنشأه الناصر قلاوون في النصف الأول من القرن الرابع عشر، ومع هؤلاء أزال محمد علي أيضاً ما كان باقياً من الإيوان الكبير، أو دار العدل، كما يخبرنا مؤرخ القاهرة المملوكي الأهم المقريزي (ت 1442)، كان يجلس السلطان للنظر في المظالم مع كبار قضاة المذاهب السنية الأربعة ومع كبار رجال دولته في ترتيب محكمٍ معروف. 

على النقيض من مشهدية  مسجد “باني مصر الحديثة”، وجثومه فوق خط الرؤية في مساحات واسعة من القاهرة، لا قيمة معمارية  تذكر للمبنى. يخبرنا أندريه ريمون أن محمد علي عين لمشروع المسجد أولاً معمارياً فرنسياً كان يعمل في خدمته باسم “باسكال كوست”. شرع كوست، الذي كان مهتماً بإرث القاهرة التاريخي ووثق الكثير منه، في تصميمٍ يستلهم العمارة المملوكية التي تسود المدينة أسفل القلعة لكن الرجل غادر مصر عام 1830، ما حال بينه وبين إتمام مشروعه. استبدل الباشا كوست بمعماري أرمني لا نجد لاسمه ذكراً، وفي ذلك ربما بعض العدل فالبناء الذي نراه اليوم نسخة باهتة من مسجد السلطان أحمد في إسطنبول  بألوانٍ فاقعة و كم هائل من رخامٍ لا ذوق فيه، لا مقارنة بينه وبين، مثلاً لا حصراً، مسجد السلطان حسن تحت القلعة، أو ضريح وبيمارستان السلطان المنصور قلاوون بشارع المعز (القصبة الكبرى) أو مسجد قجماس الاسحاقي (أبو حريبة) بالدرب الأحمر  أو حتى مسجد ابن طولون المهيب الذي يسبق بناء القاهرة ويقع اليوم في نطاقها، وما ذكرنا من إرث المدينة المعماري إلا غيضاً من فيض. فمن أجل هذا البناء (أي مسجد محمد علي)، دُمر تراثٌ معماريٌ كامل.

 بل و من الطريف أن هناك من يرى (تحديداً الدكتور إبراهيم طرخان الذي حقق كتاب ابن تغري بردي النجوم الزاهرة، أحد أهم ما بين أيدينا عن تاريخ المماليك)، أنه، عدا موقع مسجد محمد علي فوق أنقاض القصر الأبلق، فإن موقع دار العدل المملوكية حيث كان السلطان و كبار قضاة المذاهب الأربعة ينظرون في المظالم هو نفسه مكان سجن القلعة سيء السمعة  الذي أنشئ في عهد الخديوي إسماعيل وكان مقر التعذيب المفضل لمعارضي عسكري آخر حكم مصر قدم نفسه نقيضاً لأسرة محمد علي: جمال عبد الناصر (وهنا أيضاً سجُن معارضون للسادات، علماً أن السجن قُلب متحفاً تحت حكم مبارك).

الخديوي إسماعيل أراد مدينة أوروبية بسرعة لتكون في استقبال ضيوفه عند افتتاح قناة السويس عام 1869، لكن أنى له ذلك مع القاهرة القائمة آنذاك؟ ركز حفيد محمد علي جل اهتمامه في بناء مدينة “حديثة” إلى الغرب من القديمة، بينها وبين الضفة الشرقية للنيل، من ثم القاهرة الخديوية، أو ما يُعرف اليوم بوسط القاهرة. وعلى الضفة الغربية من النيل شيد الخديوي قصر الجزيرة (فندق الماريوت اليوم) لاستقبال الامبراطورة الفرنسية أوجيني في ما يعرف اليوم بجزيرة (أوحي) الزمالك. يرى أندريه ريمون أن القاهرة الجديدة التي بناها إسماعيل “ألصقت” على المدينة القديمة لتسمح له بالجملة الشهيرة المنسوبة إليه، إذ يُشاع أنه قال، محادثاً ضيوفه الأوروبيين في حفل افتتاح قناة السويس: “لقد أصبحت مصر قطعةً من أوروبا.”

شارع محمد علي جسد صدق رؤية أندريه ريمون وتهافت ما ينسب لإسماعيل. امتد الشارع لكيلومترين، وبعد هدم مئات المباني القديمة شُيدت أخرى أوروبية الطابع على جانبيه بأقواس على مستوى الشارع توفر ظلاً للمتسوقين في المحال التي بنيت أسفل هذه المباني. أضيء الشارع بالغاز (وبعد ذلك سار فيه خط ترام كهربائي) وكان يكنس ثلاث مرات في اليوم. غير بعيد عن الشارع شيد الخديوي إسماعيل قصر عابدين الهائل وامتدت مبان أخرى حكومية وغير حكومية. لكن خلف الواجهة الأوروبية هذه للشارع المسمى على اسم مؤسس الأسرة العلوية تُركت المدينة القديمة للإهمال والتداعي، ولو حتى نسبياً مقارنة بما لاقاه شارع محمد علي من اهتمام.

لكن الصورة ليست بلون واحد. كما يعلم كل من يعرف تاريخ مصر، حُكم الخديوي إسماعيل خلّف وضعاً كارثياً. مشروعاته الهائلة في القاهرة وغيرها، وبذخه الشديد، اقترنا بالغرق المتزايد في الديون حتى استولت القوى الأجنبية على إدارة مالية البلاد لسداد ديونها المستحقة لهم. ثم، بعد الإطاحة باسماعيل نفسه تحت ضغط أوروبي على السلطان العثماني (الذي كانت مصر مازالت من أملاكه)، احتلت بريطانيا مصر عسكرياً في عهد ابنه الخديوي توفيق. لكن ذلك لا ينفي جوانب إيجابية عما قدمه إسماعيل. بينما يدين مؤرخنا الأهم، أندريه ريمون (ويوافقه في هذا آخرون منهم تيموثي ميتشيل الذي ذكرنا) انقسام القاهرة إلى مدينة تاريخية فقيرة مهملة وأخرى حديثة يسكنها الأجانب والمصريون الأغنياء، إلا أنه يوثق أيضاً لتطورات إيجابيةٍ هائلة وُضعت أسسها في عهد إسماعيل، منها شبكات المياه والكهرباء، إضافة إلى بدء زمن الترام الكهربائي الذي بلغ عدد خطوطه عام 1917 ثلاثين خطاً تنقل 75 مليون راكباً سنوياً عبر 65 كيلومتراً من السكك الحديدية وصلَت قلب المدينة بأطرافها.

 إلى الحد الذي انخفض فيه زمن أي رحلة بين وسط المدينة وأبعد ضواحيها إلى ساعةٍ كحدٍ أقصى (علماً أن سكان القاهرة وقتها كانوا حوالي مليون نسمة). ومن جملة ما أسس له إسماعيل حدائق عامة ضخمة مفتوحة للجمهور، ربما من أهمها حديقة الأزبكية (حيث كانت بركة مشهورة بنفس الاسم رُدمت ليقام عليها المتنزه الجديد) والتي، كما كان ديدن الخديوي، أتى لها بمصمم فرنسي ترك حديقة مبهرة وثقتها عشرات الصور الموجودة إلى اليوم في الفضاء الإلكتروني  (الحديقة اليوم لم يبق منها إلا القليل).

سمعة القاهرة التي شكلها إسماعيل وطورها من أتى بعده في عهد أسرته شهدت لها مجلة “الإيكونوميست” البريطانية في مقال نشر في 26 شباط/ فبراير 2022 عن مشكلات المواصلات العامة التي تعاني منها القاهرة اليوم حيث تحدثت عن شبكة مواصلات عامة امتلكتها القاهرة في خمسينات القرن الماضي كانت “تحسدُ عليها”. لكن عدا سهولة في الانتقال وتخطيطٍ أفضل كثيراً مما نرى اليوم، حتى مع التسليم أن المدينة عانت عبر تاريخها من تفرقة طبقية حادة لم تغب أبداً، يبدوا أن القاهرة التي اختط أساسها إسماعيل تميزت بالكثير.

 لدينا شهادة من مصدرٍ لا يعرفه مصريون كثر : السيد محسن الأمين ( 1867 – 1952) أحد مراجع الشيعة الاثنا عشرية  واسعي الشهرة الذي ولد بما أصبح لبنان وتنقل بين هذا البلد والعراق حيث درس وسوريا حيث عاش لسنين طويلة. أتى الرجل مصر مرتين وهو في طريقه للحج وسجل ذلك في كتاب رحلاته. الأولى كانت سنة 1904 وكان هذا مما سجله: “القاهرة مدينة عظيمة رخيصة الأسعار، والأشياء فيها موفورة وأمورها الدنيوية منتظمة … وجميع أصناف الناس فيها في راحة بسبب عدل الحكومة وتنظيم جميع الأمور، ولم تترك الحكومة شيئاً كبيراً ولا حقيراً إلا وجعلت له حداً لا يمكن لأحد تجاوزه وكتبت ذلك في الشوارع.

حتى أنهم كتبوا في بعض الأمكنة التي تقف فيه الحمير المعدة للأجرة إلى الأمكنة القريبة التي لا يصلها الترامواي ولا العربات (هذاموقف خمس حمير) مثلاً فلا يجسر أحدٌ على أيقاف أكثر، ومن فعل يُغرّم… وأجرة العربات (التي تجرها الجياد) مرسومة امام الراكب … حتى انهم كتبوا في بعض المواضع … “لا ينبغي سير العربات هنا بسرعة.” والسكك الحديدية … تصل إلى كل بلدانها (أي مصر) وقراها ومحطة السكك الحديدية فيها عظيمة فخمة، وليلها كالنهار من الأنوار الكهربائية … وفي شوارعها تسير العربات … التي تجرها الخيل بدون حديد أيضاً شبيهة بعربات الترامواي تسمى (سوارس) باسم صاحب تلك الشركة وترامواي كهربائي يسير في شوراعها وضواحيها وأمكنتها القريبة والبعيدة بأجرة رخيصة.”  عدا ذلك كال الأمين المديح لمزارات القاهرة وما حولها كحديقة الحيوان والأهرامات وحدائق القناطر الخيرية التي أسهب في وصف جمالها. 

عاد الأمين إلى مصر عام 1923 ولم يسجل إختلافاً يُذكر في مشاهداته التي لا تبدوا بعيدة عما سمعته أنا في عائلتي عما كان ولم يعد موجوداً. أسلاف لي من الناحيتين عاشوا في القاهرة الفاطمية إلى النصف الثاني من القرن الماضي. عاش أهل والدي في منطقة سوق السلاح خلف مسجد الرفاعي، وكانت هذه منطقة مما صنفها أندريه ريمون في تأريخه للقاهرة بالمهملة .

لكن شهاداتهم تغاير حكم المؤرخ الفرنسي. الشوارع هنا كانت تُكنس وتُغسل يومياً وأعمد الإنارة بالغاز كانت تضاء كل مساء وتُطفأ ويتم تلميعها كل صباح، استمر هذا المستوى من العناية وحسن الإدارة حتى منتصف الخمسينيات. أعمدة الإنارة هذه رأيت أنا بقاياها في تسعينات القرن الماضي، فضية يميزها الشعار الملكي. بيت أسلافي لوالدتي أطل على ميدان القلعة من أقصى جنوبه ، سمعت منهم عن تقلص مساحة الخضرة في المنطقة باطراد عبر عقود وعن تدهور الحال عموماً. خط الترام الذي كان يربط هذه المنطقة بميدان العتبة عبر شارع محمد علي، والذي اختفى منذ عقود، ركبته طفلاً مع أسرتنا وأذكر بوضوح لونه الأصفر.

دمار تراث القاهرة

يُحمّل مؤرخون انبهار النخبة الحاكمة بالنموذج الغربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ثم الاحتلال الأوروبي المباشر  المسؤولية عن تدمير بعضٍ من تراث القاهرة المدينة المعماري  وتقسيمٍ طبقيٍ حادٍ للمدينة. لكن لا تأثير سلبي منع تحسناً مطرداً في كثير من نواحي الحياة في المدينة الآخذة في النمو. صحيح، نفهم مما كتبه أندريه ريمون أنه منذ النصف الأخير من ثلاثينات القرن الماضي بدأ نمو المدينة المتسارع، من حيث السكان والمساحة ولم يكن إيقاف ذلك ممكناًـ إلا أن أخطاء الماضي كانت إما قيد التلافي أو العلاج وأن دروساً قد استوعبت،  فمنطق الخط المستقيم الذي شق شارع محمد علي كان آخذاً في الاستدارة  والمنطق الذي صمم المسجد المسمى على اسمه بدا أنه في طريقه للاختفاء.

 إلى الشرق من القاهرة نشأ حي مصر الجديدة، مشروع المستثمر البلجيكي البارون امبان. عدا تميز الحي بمساحاتٍ خضراء ومناطق ترفيه، ارتبط الحيُ منذ منشئه بالترام الكهربائي بوسط المدينة، ومع تمدد الحي ازداد عدد خطوط الترام. جمالياً، شرع مهندسوا البارون امبان في استلهام عمارة القاهرة المملوكية في مبانيهم، تأثيرٌ باقٍ معنا إلى اليوم في قلب هذه المنطقة من العاصمة المصرية. هذه المحاولة للعودة للتراث المعماري  التي أطلت برأسها قبل مطلع القرن العشرين موجودة أيضاً في أماكن اخرى في المدينة  (ربما من أشهرها مبنى بنك مصر بوسط القاهرة ومبنى الجامعة الأميركية بميدان التحرير الذي كان في الأصل قصراً خاصاً). 

ما بدأه اسماعيل حفيد محمد علي هوساً بمظهر أوروبي انتهى مدينة تدار بمقدار من الكفاءة وشبكة مواصلات ممتازة ومساحات خضراء كبيرة. كما هو معروف حكم أحفاد محمد علي انتهى فعلياً عام 1952 (اسمياً بعد ذلك بعام). اليوم شارع محمد علي لم يبقَ فيه من مبانيه التي فرضها اسماعيل على جانبيه إلا القليل، ما استبدلها أكثر قبحاً وارتفاعاً بما لا يقاس، خط الترام الذي ركبته طفلاً اختفى منذ عشرات السنين، أما الشارع الذي كان يُكنس ثلاث مرات يومياً كما يخبرنا أندريه ريمون، فقد تركه هذا المستوى من النظافة مع مناطق اخرى كثيرة في المدينة، قريب من هنا وبعيد، منذ عقود. ولدت انا أول السبعينات، بعد عقدٍ ونصف  مما يتحدث عنه أسلافي من بدء التدهور في إدارة قلب القاهرة القديمة حيث كانوا يسكنون، لكن بعض مما رأوا عشته انا أيضاً. “المترو” (الترام السطحي) الذي ولد مع نشأة مصر الجديدة كان وسيلة ذهابي للمدرسة كل يوم حتى نهاية الثمانينات، وكان شبكته تربط كل مصر الجديدة ومدينة نصر (التي ولدت في ستينيات القرن الماضي) وأحياء أخرى وصولاً إلى ميدان التحرير في قلب العاصمة ومنطقة الدرّاسة على طرف المدينة القديمة الشرقي (قرب خان الخليلي والجامع الأزهر). 

لم أكن لأصف مدينة نصر حيث سكنا بالجمال لكنها لم تخل من الأشجار والمسطحات الخضراء، أما مصر الجديدة فكانت أكثر خضرة وجمالاً (وفي رأيي أفضل تخطيطاً). شبكة مترو مصر الجديدة لم يعد لها وجود، عملية إلغاء تمت عام 2014 برغم معارضةٍ من سكان مصر الجديدة (لم يغنِ عن هذا الغياب ، حتى الآن على الأقل، مترو الأنفاق الذي بدء العمل في ثمانينات القرن الماضي، والذي يخدم مساحاتٍ كبيرة من العاصمة). اما من يسكن قلب القاهرة القديمة فلا يتحسر على غياب خطوط الترام فقط (الذي غاب من كل القاهرة)، بل حتى على تضاؤل عدد الحافلات (الاتوبيسات) العامة مقارنة بالماضي غير البعيد. هل حلت الطرق الإضافية أزمات مرور المدينة؟ شارع الأزهر طريق آخر شق المدينة القديمة. في الثمانينات بني فوقه جسران  (فوق بعضهما) للتعامل مع ازدحامه المستمر ، ثم شق نفق تحته. بغض النظر عن قبح الجسر وتناقضه مع المنطقة حوله، لم تنته أزمة المرور في هذا الشارع إلى الآن فالحل الجذري مثّله خط الترام (الذي كان يشق شارع الازهر يوماً): مواصلات أفضل تغني عن السيارات. 

  والخضرة؟ كما لو أن هناك عداء للشجر والمساحات الخضراء، إن لم يكن للجمال، عبر العقود الماضية، فكثير من هذه تركت للإهمال أو أبيدت. مقارنة بين الوضع الحالي والمساحات الخضراء وعدد الأشجار في قلب المدينة قبل ستين أو سبعين عاماً، أو حتى قبل عقدين أو ثلاثة، سترينا المشهد بوضوح. معمارياً، على عكس ما كانته المدينة يوماً ما، تسود القاهرة اليوم فوضى بصرية مرعبة، عبر عشرات السنين من غياب التطبيق الصارم للمعايير الجيدة ترى بعينك ما حل بالمدينة من تدهور وقبح، يمتدان إلى قلب القاهرة الفاطمية، ناهيك عن المكعبات الخرسانية التي بنتها السلطات القائمة.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.