fbpx

“سيرة القاهرة”: محاولات توثيق الأثر في مواجهة التطوّر العمراني

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“بدلا من رسم خطوط معينة لزيارة الأهرامات وقلعة صلاح الدين، وجامع السلطان حسن وغيرها من الأماكن الشهيرة، لا بد من تفعيل الاندماج مع الناس والاقتراب منهم بوصفه ذا أثر أقوى”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يتجوّل زيزو عبده في طرق المدينة للبحث عن أسرارها، يرى فيها “روشتة” لعلاجه من الاكتئاب والتغيرات المزاجية، تجدِّد تلك المشاهد ذكريات طفولته التي أمضاها في أحد الأحياء التراثية في باب الشعرية، تحديداً في منطقة باب البحر التي كانت معروفة بالتصميمات المعمارية المميزة.

زيزو عبده هو أحد مؤسسي مبادرة “سيرة القاهرة”، التي تعمل على توثيق المناطق الأثرية في العاصمة، التي تصطدم بما يسمى محاولات التطوير التي تجريها أجهزة الدولة، ما يؤدي إلى تغير ملامح مناطق أثرية أو إزالتها أو إدخال تعديلات عليها.

أسس عبده المبادرة عام 2020، يقول واصفاً تلك اللحظة: “كان في خيط جوه دماغي طول الوقت منذ الطفولة باكتشاف المناطق الأثرية، وفكرت في المبادرة من أكتر من 5 سنين، كان عندي شغف إنه الآثار المهملة ليه متتنضفش ويبقى شكلها أفضل”.

الحس المديني بحسب تعبير عبده هو ما حفزه ومجموعة من الأصدقاء على إطلاق المبادرة، التي تم البدء من خلالها بتنظيف المناطق الأثرية وإزاحة الأتربة عنها، وصولاً إلى التوثيق، لكن هذا الحس اصطدم بسياسات التطوير العمراني الرسميّة. 

تبنّت الحكومة بين عامي 2005 و2010، سياسة للتنمية العمرانية في مصر بصورة أجندة عمرانية جديدة، تحت مسمى “المخطط الاستراتيجي لإقليم القاهرة الكبرى 2050″، ويُشار إليه بمخطط القاهرة 2050. 

هدفت رؤية المخطط ومشروعاته المتعددة إلى تحويل القاهرة الكبرى إلى عاصمة سياحية وتجارية، وفي عام 2014، أصدرت الحكومة استراتيجية مصر للتنمية المستدامة 2030، وتضمنت محاورها العمرانية تنفيذ مخطط القاهرة 2050 بتصوراته المُصممة قبل قرابة الـ 10 سنوات.

ضمن هذه الخطط التي تُغير ملامح المدينة، تظهر أهمية التوثيق، إذ يرى زيزو أن العمل على توثيق سيرة القاهرة، يجب أن يتم عبر  أسلوب عصري، فإذا كان المؤرخون القدامى قد وثقوا المدينة على مدار عصورها المختلفة كتابةً، فالمبادرة الآن تعمل على التوثيق عبر مقالات أو أبحاث تكتب على الصفحة الخاصة بالمبادرة، إلى جانب رصد التراث الشعبي في المناطق المتعددة والتقاط الصور، وتنظيم ندوات للنقاش ونشر التوعية.

 “المدينة عريقة، تترك بصمات عند كل الزائرين، هي مدينة يجب الافتخار بها بين كل العواصم”

يتم التوثيق أيضاً وفقاً لزيزو من خلال المسير و”التنزه” وسط القاهرة، ويخبرنا عن نشاط المجموعة قائلاً: “بننزل نتكلم مع الناس ونشرح لهم، وبنوثق المنطقة بأكبر كم من الصور ممكن توصل لـ60 أو 70 صورة، ودي أهميتها للفترة الجاية، لأننا نستعين بصور فوتوغرافية للمدينة من 100 سنة فاتوا، أو لوحات من أكثر من 200، فبالتالي اللي بنعمله دلوقتي ممكن يكون بعد 50 أو 100 سنة صور توثيقية لموقع محدد، يستعين بيها الباحثين أو الناس اللي عاوزة تتعرف على المدينة في التوقيت ده شكلها كان عامل إزاي”.

الصور التي يلتقطها فريق المبادرة، تشارك أيضاً في معارض فنية، لتوثيق المنطقة قبل أن تختفي هويتها، ليعرف الجمهور شكل المنطقة الأصلي، بعيداً من الشكل الذي وصلت إليه بعد التطوير العمراني، الذي لا يغير الشكل فقط، بل التعامل مع المناطق أيضاً وتركيبتها السكانيّة وطبيعة النشاطات فيها، فأثر رأس المال لا يكتفي بتغيير “الاسمنت”، بل يزحزح البشر ويعيد تكوين طباعهم.

نيل سميث، الأنثروبولوجي الذي عمل بجامعة سيتي في نيويورك، قال في كتاباته إن الإحلال الطبقي العمراني ظاهرةٌ ارتبطت دائماً وأبداً بفكرة إعادة استغلال الأراضي، وإعادة هندسة المدينة وتشكيلها كمصدر للدخل ولصنع المكسب ورأس المال، وتسليعُ الأراضي، بخاصة الموجودة في المدينة، التي تُستخدمُ بشكل مباشر لصالح الطبقات الحاكمة، والتي تقع في مواقع الأقوياء في العالم أجمع. 

صرّح خالد صديق، رئيس صندوق تطوير العشوائيات في مصر، في شباط/فبراير 2012، قائلاً إن عمليات تطوير القاهرة القديمة دخلت حيز التنفيذ بهدف تحويل العاصمة الى متحف مفتوح، لكن خبراء في الآثار والتخطيط العمراني أعربوا عن مخاوفهم من بعض عمليات التطوير الحالية بسبب قربها من مواقع أثرية مهمة، كما أثارت عمليات إزالة أشجار معمرة قلق باحثين في الشؤون البيئية.

احتج باحثون عام 2019 على ما وصفوه بالاعتداء على مقابر المماليك، المدرجة في مخطط حدود القاهرة التاريخية، إذ هُددت بالإزالة لإنشاء محور الفردوس، ورغم أن مجلس الوزراء حينها أصدر بياناً لنفي هدم أي مواقع أثرية، إلا أن الباحثين أكدوا أن الجرافات أزالت مقابر لأعيان من المماليك بالمنطقة، وحطمت واجهات القبور.

يشير زيزو إلى أن التوثيق يجب أن يكون في الوعي، حتى تظل تلك المناطق في الأذهان، شاهدةً على تراث وعلاقة ممتدة بين المكان والناس أو البشر والحجر، ويضيف أن محاولات التوثيق هذه هي التي ستحافظ على التراث حتى عند تغير شكل المدينة الخارجي، إذ يقول “القاهرة مرت بتغيرات كثيرة جداً على مدار تاريخها، منذ نشأتها في العصر الفاطمي أكثر من 1050، هنلاقي إن القاهرة أصبحت قاهرات متعددة، يعني عندي القاهرة الفاطمية، ومع دخول صلاح الدين الأيوبي بدأت القاهرة تفقد الرونق الخاص بها من قصور ومتسعات وفراغات عمرانية، ومساحات زراعية كبيرة جداً، ثم في عصر الدولة الأيوبية بدأت تتكدس بعض المنشآت التي صممت بشكل مرتجل وغير منظم، وزاد الأمر مع عصر المماليك، فتغيرت أول طبقة من وجهها لطبقة أخرى ووصولاً للعثمانيين بقت زحمة أكتر ومرتجلة بشكل أكبر ودخلت في طور العشوائية، فدايماً بنلاقي القاهرة حظها من سيئ لأسوأ”.

يرى زيزو أن المشكلة الأكبر ليست في التطوير العمراني، بل في كيفية فهم التراث والتعامل معه، إذ يجب بداية الحفاظ على تراث المدينة الحالي والدروب القديمة، والاحتفاظ بالآثار وعدم تغيير أسماء اللافتات القديمة، وما يتحدث عنه زيزو من الممكن أيضاً أن يخلق عائداً اقتصاديا من دون تغيير معالم المدينة، عبر تفعيل سياحة التنزّه المنتشرة في مناطق عدة، يشرح ذلك قائلاً “بدلا من رسم خطوط معينة لزيارة الأهرامات وقلعة صلاح الدين، وجامع السلطان حسن وغيرها من الأماكن الشهيرة، لا بد من تفعيل الاندماج مع الناس والاقتراب منهم بوصفه ذا أثر أقوى”.

أمينة خليل، الباحثة في الأنثروبولوجيا بشؤون العمران، ترى أن الاقتصاد النيوليبرالي لم يعد ينحصر فقط في قطاع التشييد، بل شمل إعادة توجيه المال العام إلى “صندوق مصر السيادي”، والذي تأسس في عام 2018، حيث تم تحويل معظم المال العام من مبانٍ وأراضٍ إلى ملكية الصندوق، ما يمكنه من بيع الأراضي  وخصخصتها، كما لا يشمل تسليعُ الأراضي في القاهرة إعادة هندسة المدينة لصالح الطبقات الحاكمة فقط، بل يشمل أيضاً التحكم في الموارد الاقتصادية، وإعادة استغلال الأراضي طبقاً لاستثمارات تعود بالنفع على شريحة صغيرة من الطبقات الاجتماعية، هي تلك المتحكمة في الدخول والأموال”.

يؤكد زيزو أن التغيرات ستستمر، وفي مواجهتها ستستمر المبادرة في التوثيق، الجزء الأساسي في دورها للحفاظ على “الصورة الأصلية” ، لأن الوقوف بوجه “التطوير” صعب في الوقت الحالي بحسب وصفه، ولكن هناك ما وصفه بـ”روشتة علاج”، وفي مقدمها العمل على إدخال بعض المنشآت ضمن تصنيف “آثار” لحمايتها، وهذا برأيه، الأمر الوحيد الذي سيحافظ عليها ويحول دون هدمها. وهنا نذكر أن اليونسكو تحاول إدراج مدينة القاهرة كمدينة تاريخية منذ عام 2002، وفي 2014 رُسمت حدود للقاهرة بواسطة خبراء من اليونسكو.

لا يملك زيزو والمبادرة الخاصة به آليات لمواجهة التوسع العمراني، سوى التوثيق، والذي يرى أنه الحافظ الوحيد للمدينة، التي شهدت في عصور سابقة، إزالة مبان أو وكالات أثرية، لكن صور ما أزيل بقيت في الكتب والمراجع، يمكن العودة إليها والاستعانة بها.

يختم زيزو حديثه مع درج قائلاً: “المدينة عريقة، تترك بصمات عند كل الزائرين، هي مدينة يجب الافتخار بها بين كل العواصم، ولن ينسى مواطنوها التراث، وحتى مع تغيير الشكل الخارجي سيظل للمكان تاريخه، في مقابل مكان جديد لا بصمات له ولا سيرة”.