fbpx

تقصير أممي وانتهاكات… مدنيو السودان يدفعون ثمن الحرب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حسب اليونيسيف، فإن 1.6 مليون طفل وطفلة نازحين بحاجة إلى مساعدة، بمن فيهم من يعيشون في المناطق المتضررة من النزاع. يعاني الكثير منهم من الصدمة قبل رحلة نزوحهم وأثناءها، ما يعرض الأطفال لخطر أكبر من الإيذاء والاستغلال والعنف، علماً أنهم يشكلون حوالى 60 بالمئة من عدد النازحين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“كانت ليلة هجوم الردع السريع على حي الثورة في مدينة الجنينة صعبة ومخيفة ومربكة، قتل ورصاص من كل الاتجاهات في كل مكان، واقتحام عنيف للمنازل. كنت أحمل طفلي بين يدي وفجأة اخترقت جسده رصاصة لا أدري من أين انطلقت وكيف وصلت، كان ذلك صادماً ومروعاً. تلطختُ بدمائه وأنا لا أفهم ما الذي جرى، ومات طفلي مباشرة. بعد مضي يومين، قُتل والدي وعلى إثرها لم يتوقف الموت، قُتلت خالتي ثم جاء الدور على زوجي وستة أشخاص من أفراد أسرتي المقربة في زمن قياسي. لم أعد أعرف مَن أبكي، ولم أصدق أنني فقدت زوجي أيضاً. غامرت بالهروب إلى مخيم أدري وأنا حامل في شهري التاسع على الحدود التشادية، على أمل أن أجده، لكني تأكدت من مقتله. وجدت نفسي في ليلة وضحاها وحيدة بلا عائلة”.

بهذه الكلمات تحدثت إسلام لـ”درج” عن نجاتها من الموت على يد قوات الدعم السريع والميليشيات الحليفة لها، خلال الهجوم على مدينة الجنينة وخسارتها الكبيرة في صفوف عائلتها المقرّبة. إسلام هي واحدة من آلاف السودانيين الذين طاولتهم انتهاكات كبيرة اقترفها طرفا النزاع، بخاصة قوات الدعم السريع والميليشيات الحليفة لها. فبعد مرور أكثر من أربعة أشهر على بداية الحرب بين قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان ونائبه السابق محمد حمدان دقلو الملقب بـ”حميدتي”، قائد قوات الدعم السريع، كانت الحصيلة آلاف القتلى من المدنيين وملايين النازحين واللاجئين ودماراً هائلاً طاول الممتلكات الخاصة والمنازل والمستشفيات والأسواق والمؤسسات الرسمية.

تواصل إسلام، “عندما أيقنت موت زوجي، قررت العودة إلى السودان، لكن الأطباء بالمخيم أقنعوني بالبقاء، فقد كنت على وشك الولادة. أنجبت طفلاً وأسميته جبريل تيمناً باسم جده. والآن، أسكن مع طفلي في إحدى الخيم بمعسكر أدري، وأمنّي النفس بأن تكون والدتي التي فقدتها في الجنينة على قيد الحياة، وبأن أسمع خبراً مفرحاً عن بعض الأقارب الذين لا أعلم أكانوا أحياء أو أمواتاً ولا أين هم الآن”.

“”كان هناك هروب جماعي لحي المدارس الأقل خطراً في ذلك الحين، فأخذت أطفالي وهربت مع الجموع الفارة. أربكني الخوف فلم أنتبه في الطريق لاختفاء ابني الكبير. عندما وصلت بحثت بين الواصلين من دون جدوى.

“بقينا بجانب الجثة يوماً كاملاً”

أسماء (اسم مستعار) نجت هي الأخرى من الموت بعد رحلة مريرة مع الحرب والقتل والترويع، وبعدما فقدت الكثير من أفراد أسرتها.

تروي لـ”درج”: “في 15 أيار/ مايو، كان الهجوم على مدينة الجنينة وتحديداً في حي الجبل على أشده، وككثيرين قررنا الفرار، لكنهم اعترضوا طريقنا وقتلوا والدي بالرصاص أمام أعيننا ولم نستطع إكمال طريقنا. أخذت وشقيقاتي جثة والدي إلى الجامع، ظلت أختي إلى جانبها يوماً كاملاً، لم نستطع دفنها لأنه لم يكن معنا رجال للقيام بالمهمة حتى عثرنا مصادفة على مجموعة تجمع الجثث وتدفنها، فأخذنا والدنا وسترنا جثته. عدنا بعدها وأخذنا أطفالنا ومضينا إلى حي الداخلية”.

تؤكد تقارير الأمم المتحدة ما ذهبت إليه أسماء، إذ تم دفن ما لا يقل عن 37 جثة في 20 حزيران/ يونيو في مقبرة بعمق متر واحد تقريباً، في منطقة مكشوفة تسمى التراب الأحمر، تقع في منطقة الرانقا على بعد 2 إلى 4 كيلومترات شمال غربي المقر الرئيسي لشرطة الاحتياطي المركزي غرب الجنينة. كما تم دفن 50 جثة أخرى في الموقع نفسه في 21 حزيران. وكانت جثث سبع نساء وسبعة أطفال ضمن من تم دفنهم، والذين دفُنوا كانوا قد قُتلوا على يد قوات الدعم السريع والميليشيات الموالية لها، حسب المصدر نفسه.

تضيف أسماء: “بقينا هناك 40 يوماً لم تهدأ فيها الأوضاع أبداً، وقُتل خلالها شقيقي وأصيبت شقيقتي بطلقة طائشة، وقُتل أيضاً عدد كبير من أفراد الأسرة من الأعمام والأخوال، الرجال حصراً. وحوصرنا هنا، لم نستطع الفرار، قد نكون نجونا من الموت نعم، ولكننا كنا شهوداً على جرائم مروّعة طاولت الجميع من كل الأعمار، بمن في ذلك الأطفال وكبار السن. تخيّلوا أنني شاهدت الجنجويد يحملون أطفالاً رضعاً يرميهم أحدهم مثل الكرة في السماء فيما يتولى آخر إطلاق النار عليهم وهو يضحك”.

بعد معاناة كبيرة، استطاعت أسماء الفرار إلى مخيم أدري على الحدود التشادية، لكن حتى هذا الطريق لم يكن يسيراً، فقوات الدعم السريع كانت تضع نقاط تفتيش وتسلب كل متاع يحملها النازحون، وتقوم بجلد النساء وشتمهن وقتل الرجال وتعذيب الأطفال على حد تعبيره. واليوم، هي تعيش في مخيم أدري بعيداً عن القتل، ولكنها لن تنسى ما جرى، “لن نسامح الدعم السريع والقوات الحليفة لها على الجرائم التي ارتكبوها في الجنينة، لقد استخدموا معنا كل الأسلحة الثقيلة والخفيفة وتفننوا في التعذيب والقتل، لقد تركوا ندبات لا تسقط بالتقادم بل تبقى آثارها لأجيال كثيرة”، تقول أسماء.

الجنينة هي عاصمة غرب دارفور وتقطنها غالبية غير عربية، وشهدت جرائم مروعة ارتكبتها قوات الدعم السريع والميليشيات الحليفة. اندلعت أحداث دامية في المدية صباح الإثنين 24 نيسان/ إبريل الماضي، عندما نصبت قوات الدعم السريع كميناً لقوات الجيش كانت في طريقها الى مقر القوات المشتركة السودانية – التشادية. 

بعد فترة وجيزة من انسحاب قوات الجيش من موقع الحدث، شنت قوات الدعم السريع والميليشيات الحليفة لها هجوماً واسعاً على سكان أحياء الجبل معسكر أبو ذر أدى الى سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى. ومنذ ذلك اليوم، بدأت الهجمات تتوالى، ففي اليوم التالي اقتحمت هذه القوات السوق الكبير لمدينة الجنينة وقامت بنهبه كلياً ونقلت السلع خارج الولاية. وهو السوق الوحيد الذي يشمل محالاً تجارية ومخازن ضخمة يعتمد عليها سكان ولاية غرب دارفور وبعض مدن التشاد وغرب أفريقيا.

 نتيجة النهب والتخريب والدمار الذي طاول هذا السوق، وجد أهالي مدينة الجنينة أنفسهم بلا سلع غذائية، وأصبح هناك ما يشبه المجاعة. بعد نهب السوق، استهدفت الدعم السريع والقوات الحليفة على مدار أسابيع طويلة الأحياء السكنية حيث قتلوا المئات وارتكبوا جرائم مروعة ذات طابع عرقي، ونهبوا المنازل وأحرقوها فضلاً عن المستشفيات ومراكز الإيواء التي لم تنجُ هي الأخرى من عمليات التخريب والحرق. وجاءت أحداث الجنينة في سياق هجوم واسع شنته هذه القوات على ولايات غرب دارفور عموماً، وجميعها شهدت الانتهاكات ذاتها والخراب كما تؤكد تقارير عدد من المنظمات الدولية.

أكدت “هيومن رايتس ووتش” تعرض سبع بلدات في غرب دارفور للدمار والحرق بالكامل منذ بداية الحرب حسب صور الأقمار الصناعية عالية الدقة.

“أحرقوا منزلنا بالكامل”

أم مصعب، باحثة في علم الاجتماع كانت تعيش حياة مستقرة في حي التضامن بالجنينة، دارفور، تقوم برعاية والدها المريض بخاصة في ظل سفر زوجها، ولكن كل شيء انهار فجأة بعد بدء الأحداث الدموية في مدينة الجنينة وعاشت على وقع أحداث مروعة.

تتحدث إلى “درج”: “كانت بداية المأساة عندما دخل الجنجويد أول أيام عيد الأضحى وقتلوا 15 شخصاً من أبناء حينا، من بينهم ابن خالتي بعمر الخمس سنوات الذي أصابه قناص بطلقات على رأسه كانت كفيلة بتهشيمه. بعدها قتل شخصان أمام باب منزلنا وأثار الحادث الرعب في نفوس إخوتي الذكور فغادروا المنزل بحثاً عن مكان آمن. توجهت لأرافق والدي في المستشفى لأربعة أيام لم أستطع خلالها الأكل فيما بقيت أمي وحيدة في المنزل”.

ظلت أم مصعب تفكر في مصير والدتها وإخوتها بخاصة بعدما تفاقم الوضع بعد مقتل والي الجنينة، ثم قررت الذهاب لتفقد منزلهم ووالدتها، وهناك كانت على موعد مع وضع مروع.

تروي: “وجدت منزلنا قد أُحرق بالكامل ووالدتي تجلس في أحد أركانه المتهالكة بعدما قاموا بترويعها ومطالبتها بتقديم المال. أخذت أمي (كان صعباً إقناعها بالتخلي عن بيتها) ووالدي وذهبنا إلى حي المدارس حيث منزلي. في الطريق، انتشرت جثث النساء والرجال والأطفال، ثمانية منها كانت أمام منزلي مباشرة. كان ذلك صادماً ومخيفاً إلى أبعد حد”.

استطاعت أم مصعب وأسرتها الاختباء 15 يوماً، ثم غادروا إلى مخيم أدري على الحدود التشادية وقد تركوا كل شيء خلفهم. دفعت المبلغ الذي كان بحوزتها (12 ألف جنيه سوداني) للأشخاص الذين أقلوهم إلى المخيم. وهي الآن تعمل كمتطوعة في المخيم تقدم الدعم النفسي والاجتماعي، بخاصة للنساء اللاتي تعرضن للعنف الجنسي والجسدي.

إنهم يستهدفون الذكور

أما زينب، إحدى الناجيات أيضاً من جحيم مدينة الجنينة، فإن رحلتها لم تكن أقل شقاء، تروي لـ”درج”: “عندما بدأت أحداث الجنينة، بدأ الجحيم، ففي البداية قتلوا زوجي ولم يكن يسيراً أن نهرب في ظل الوجود الكبير لقوات الردع السريع والميليشات الحليفة واستهدافها الذكور، بمن في ذلك الأطفال”.

كانت زينب في حيرة من أمرها، فالبقاء في المنزل سيعرضها للخطر، بخاصة بعدما هاجمت قوات الدعم السريع منزلها وطالبتها بتقديم المال وتعرضت لها بالضرب والإهانة. وإن نجحت حينها في إخفاء أطفالها، فإنها لن تنجح مرة أخرى في ظل تتالي عمليات اقتحام البيوت في الجنينة واقتراف جرائم كبيرة تراوحت بين قتل الذكور واغتصاب الفتيات ونهب البيوت وحرقها على حد تعبيرها. والفرار هو الآخر خطوة قد تكون نتيجتها الموت.

تقول: “كان هناك هروب جماعي لحي المدارس الأقل خطراً في ذلك الحين، فأخذت أطفالي وهربت مع الجموع الفارة. أربكني الخوف فلم أنتبه في الطريق لاختفاء ابني الكبير. عندما وصلت بحثت بين الواصلين من دون جدوى. اضطررت للفرار الى مخيم أدري بعدما تفاقم الوضع في كل أحياء الجنينة، ومر حتى الآن أكثر من شهرين على وصولي  ولم أجده بعد ولا أعرف إن كان حياً أو ميتاً”.

في خضم هذه الانتهاكات المروعة، كانت الحصيلة ثقيلة على المدنيين، إذ بلغ عدد القتلى في الفترة الممتدة بين 24 نيسان و24 تموز/ يوليو 3900 قتيل على الأقل، حسب منظمة “أكليد” غير الحكومية، ولكن الناشطين والأطباء السودانيين يؤكدون أن الحصيلة أكبر من ذلك بكثير. وحسب اليونيسيف، فقد قتل ما لا يقل عن 435 طفلاً في النزاع، وأصيب أكثر من 2025 طفلاً.

وتسببت الحرب في نزوح أربعة ملايين شخص، بينهم أكثر من 700 ألف غادروا إلى دول الجوار كالتشاد ومصر وجنوب السودان. ويعيش اللاجئون في المخيمات  أوضاعاً صعبة في ظل نقص التغذية والرعاية الصحية والأدوية وعدم توافر خيم قادرة على حماية الفارين من الحرارة والمطر. 

تقصير أممي

تحمّل الدكتورة إيثار الخليل التي تتولى رفقة عدد من الأطباء السودانيين المتطوعين علاج اللاجئين، المنظمات الدولية والمجتمع الدولي عموماً مسؤولية نقص المساعدات للاجئين السودانيين في التشاد، واتهمتهم بالتقصير وفرض إجراءات بيروقراطية مجحفة، رغم أن الوضع الإنساني لا يحتمل هذه التعطيلات التي تراها متعمدة. 

تقول الخليل موضحة لـ”درج”: “أصبحت لا أدري كيف أقوم بعملي، فإن توافر الدواء لا يتوافر الطعام، وأجد نفسي عاجزة عن إنقاذ الكثيرين. يموت يومياً عدد من الأطفال بين يدي بسبب الجوع، بعضهم رضع لم تستطع أمهاتهم إرضاعهم لأنهن جائعات لم تأكلن منذ أسابيع. ورغم أننا نروي ما يجري ونناشد المنظمات المساعدة العاجلة، إلا أننا نواجه المماطلة. وكأن العمل الإنساني يخضع للون البشرة، أقول هذا لأنني أستحضر الاستجابة السريعة لنداءات الأوكرانيين البيض وأرى ما يحدث مع السودانيين”.

حسب اليونيسيف، فإن 1.6 مليون طفل وطفلة نازحين بحاجة إلى مساعدة، بمن فيهم من يعيشون في المناطق المتضررة من النزاع. يعاني الكثير منهم من الصدمة قبل رحلة نزوحهم وأثناءها، ما يعرض الأطفال لخطر أكبر من الإيذاء والاستغلال والعنف، علماً أنهم يشكلون حوالى 60 بالمئة من عدد النازحين.