fbpx

كيف نتحدّث عن بلد من دون أن نذكر اسمه؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

التضييق الذي يمارسه السياسيون الغربيون والخوارزميات، على البلد الذي لا يريدون أن نقول اسمه، يدفعنا الى التساؤل: هل يريدوننا أن نتحدث عن بلد غير موجود، عن آلام الناس من دون أن نقول من هم، وعن القتل المتعمد لشعب كامل من دون أن يحرك أحد ساكناً ومن دون أن نقول من هو القاتل.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الصباح، حين سأل مديري في العمل عن آخر إحصاء حول أعداد ضحايا مجزرة مستشفى المعمداني (الأهلي)، قلت له: “قرأت آخر شي 1250”. بعد دقائق، تساءلت: أين قرأت هذا الرقم؟ لم أقرأه في أي مكان، لقد كان جزءاً من كابوس فظيع راودني ليلاً، استيقظت منه من دون أي ردة فعل وتابعت حياتي الواقعية، كأنَّ الكابوس جزءٌ من الواقع، فهل نستيقظ من كوابيسنا أم عليها؟

كيف يمكن أن نتحدث عن بلد من دون ذكر اسمه خوفاً من رقابة الخوارزميات؟ 

بلد يُحرم الناس من مساندته أو التعبير عن التعاطف تجاه سكانه، وفي عالم رقمي يحجب منشوراتنا على وسائل التواصل الإجتماعي لو دعمناه، ويطرد موظفون من مؤسسات كبرى للسبب ذاته، ويهدد آخرون بسحب الجنسيات منهم.

هو بلد نشعر بالانتماء إليه وبأنه جزء من ذاكرتنا، ذلك البلد هو جرحنا، رمزه الكوفية، يريدون ألّا نذكر اسمه

 أين نذهب بوجعنا وحسرتنا على الضحايا؟

التضييق الذي يمارسه السياسيون الغربيون والخوارزميات، على البلد الذي لا يريدون أن نقول اسمه، يدفعنا الى التساؤل: هل يريدوننا أن نتحدث عن بلد غير موجود، عن آلام الناس من دون أن نقول من هم، وعن القتل المتعمد لشعب كامل من دون أن يحرك أحد ساكناً ومن دون أن نقول من هو القاتل. في النهاية، وجدتُ أنه من الممكن الحديث عن بلد من دون أن نقول اسمه، يمكن بالفعل الحديث عنه وسيعرفه الجميع كما عرفوه دوماً.

هو بلد نشعر بالانتماء إليه وبأنه جزء من ذاكرتنا، ذلك البلد هو جرحنا، رمزه الكوفية، يريدون ألّا نذكر اسمه، ولا المجازر والقتل والاستهداف الإسرائيلي للأطفال والأبرياء، وأن الأطفال يكتبون أسماءهم على أيديهم، فإذا ماتوا تحت القصف عرف الأحياء هوياتهم، مع هذا كله يريدوننا أن ننسى ذلك البلد ونتصرف كأن شيئاً لم يحصل، وعلينا أن نكمل حياتنا كما لو أن الضرر الجانبي “لإسرائيل” هو بضعة آلاف من الأرواح، لكنهم لا يدركون أن هذا العطب والضرر يصيبنا جميعاً وأننا نستيقظ كأننا مهجّرون وخائفون ومحاصرون، فإسرائيل لا تحاصر الأبرياء في غزة وحسب بل تحاصرنا جميعاً على هذا الكوكب.

إننا نعيش بالفعل كابوساً كبيراً، فيما العالم يتجاهل ألم الغزاويين ولا يلتفت الى أطفال القطاع، هم في نظر ميديا الاستقطابات السياسية أقل قيمة إنسانية من غيرهم. نعم إننا نرى ذلك، صراخ أطفالنا لا يصلهم والقهر لا يعنيهم، ولا سبب لذلك سوى أننا أقل إنسانية من “الستاندر الغربي”، وهذا هو الكابوس الذي نعيشه، كابوس كذبة الديمقراطية والحرية التي كنا نأمل بها. نحن من خرجنا من بلاد دمرتها حروب الديكتاتور، كنا نأمل بإيجاد الحرية في مكان آخر، وإذ بنا نصطدم بواقع أن الآخر الغربي، وتحديداً السياسات الغربية، لا يسمعنا ولا يرانا أصلاً.

وبعدما طُبِعَتْ مشاهد الأطفال الخائفين والمصدومين في ذاكرتنا جميعاً، أتساءل: ماذا لو انتشر فيديو لطفل مرتجف بسبب القصف، في البلد التي يريدون أن ننسى اسمها، على أنه لطفل في بلد آخر؟ هل ستصبح عيناه حقيقيتين؟ هل كان سيخرج قادة العالم للتنديد بما يحدث وإيقافه؟ إذاً، تحتاج عيون الأطفال الى أن تنتمي الى بلد آخر حتى يصدق العالم معاناتهم.

البلد الذي  طُرد سكانه منه وجاء آخرون من أصقاع الأرض لاحتلاله، واحتجّ أهله ورفضوا تسليم منازلهم فقتلهم الغرباء، نستطيع الحديث طويلاً عنه من دون ذكر اسمه وسيعرفه الجميع. لكن المضحك المبكي أننا لو روينا قصة ومعاناة هذا البلد من دون ذكر اسمه، ستكون قصة مأساوية وسيعتبرها الغرب أمراً غير إنساني، أما أن نذكر اسمه، فستصبح القصة فوراً أقل مأساوية ولها سياق مختلف، ستصبح بالتأكيد قصة عادية.

هل يجب أن نخاف من إنسانيتنا؟

 هل يجب أن نفكر مرتين قبل أن نتضامن مع المظلومين، لأن معايير الإنسانية متغيرة بطريقة نعجز عن مجاراتها نحن الذين خرجنا من بلاد داست فيها الأنظمة على الديمقراطية والحرية، رغم ذلك ما زلنا نؤمن بالحرية، فمن حُرم منها طويلاً يستدل عليها بسهولة.

في معركة الحرية، لم تكن شروط اللعبة عادلة يوماً، فحتى الإعلام والخوارزميات لم يكونا نزيهين تجاه البلد الذي لا نستطيع ذكر اسمه. واللافت في معركة الخوارزميات، أن الخوارزميات الحالية لا تمتلك الفهم الإنساني للسياقات الثقافية والفروق الدقيقة والمعاني الكامنة وراء أنماط الكلمات أو ارتباطاتها، ما يعني أنها غير قادرة تماماً على فهم صورة شعرية تتحدث عن البلد الذي لا يريدوننا أن نذكر اسمه. ورغم هذه التحديات التقنية، قامت شركتا “ميتا” و”يوتيوب” خلال هذا العام، بعمليات تسريح واسعة النطاق للعاملين في مجال تحديد الانتهاكات والتحريض على العنف، واعتمدت بشكل أكبر على الأساليب الخوارزمية. وبحسب تحقيق نُشر بعنوان “الفضاء المغلق” في برنامج “ما خفي أعظم”، أكد مدير سياسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “فيسبوك” سابقاً، أشرف زيتون، أن إسرائيل استطاعت أن تخلق منظومة قوية جداً للضغط والتأثير على إدارة “ميتا”، وأن السياسة الإسرائيلية حاولت أن تؤثر حتى على القواعد التي تحكم عمل الخوارزميات. إذاً، المطلوب في هذه الحرب هو حجب الإنسان وإنسانيته ووضع الخوارزميات مكانه، الخوارزميات التي لا تشعر ولا تتعاطف ولا تتضامن. إلا أنه غاب عن بالهم أن الخوارزميات ليست بشراً ولا تمتلك لغة تتلاعب بها، لتروي قصة الاحتلال كما يحلو لها من دون ذكر اسم البلد المحتلّ أصلاً.

لا تعلم الخوارزميات أن سكان ذلك البلد يكتبون منشورات قبل يوم من موتهم، يتحدثون فيها عن البلد والخوف والظلم، ينتظرون موتهم وحسب، ينظرون في عيون الأطفال، يخطر لهم أن ينقلوا ألمهم عبر منشور على “فيسبوك”، فتأتي إسرائيل وتقتلهم بقصفها. “فيسبوك” اليوم هو مقبرة لآلاف الحسابات التي رحل أصحابها في ذلك البلد، والذين نعيد نشر ما كتبوه قبل رحيلهم بأيام كدليل على الظلم، هذا كله تجهله الخوارزميات التي كما حكومات الغرب تتجاهل الإنسان.

لقد فشل الغرب في التعامل مع أزمة إنسانية، وسقط في الامتحان من دون أن يعترف، فالحكومات الداعمة لقصف القطاع، لديها من العنجهية والاستعلاء، إنسانياً وسياسياً، ما يجعلها تصدق أن الأطفال الذين يموتون هناك هم “إرهابيون”، وأن الموت والقصف سيؤديان إلى السلام!

ظاهرياً، يبدو العالم الغربي أنه نجح في قطع شوط كبير في القضاء على العنصرية ضد السود وتحريرهم من العبودية، لكنه في الحقيقة لم يقضِ على العنصرية كفكرة، فهي ما زالت موجودة وبقوة، ويستخدمها اليوم ضد فلسطين التي لا يريد أن نذكر اسمها، أو حتى أن تمتلك اسماً في الأصل. ذلك كله هو جزء من خطة لنزع الإنسانية عن شعبها، وفي المحصلة لن يتعاطف الناس مع بلد لا يحمل اسماً أو مع مدنيين مجهولين… هكذا إذاً، تُستَعبد الإنسانية في القرن الواحد والعشرين.