fbpx

كيف تفكّك إسرائيل الحيّز الحميمي للفلسطينيين؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تؤطر إسرائيل عمليات المداهمة واقتحام المنازل قانونياً، تحت مظلة “قوانين النزاع والحروب”. بمعنى آخر، الذرائع/الوساوس الأمنية، هي المحرك الأبرز لتعاملات المنظومة كافة، الأمنية والعسكرية والقانونية. ما يرمي إليه المشروع الاستعماري- الاستيطاني في الأراضي المحتلة، هو قتل هذا الحيز الأليف والحافظ للذاكرة المسمى “منزل”، وفي سبيل ذلك يُمارس الجيش الإسرائيليّ عنفاً ينطوي على نية إبادة، أو ما صيغ تحت مصطلح “إبادة المنزل-Domicide”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“البيتُ قتيلاً هو أيضاً قتلٌ جماعيّ حتى لو خلا من سُكَّانه”، يدلّل محمود درويش في عبارته آنفة الذكر، على مكانة البيت ومركزيته وحميميته في سياق المقتلة التي يعيشها الفلسطينيون منذ مائة عام ونيف. تنبع خصوصية البيت فلسطينياً باعتباره ساحة معركة ومقياساً لـ”ذاكرة الأشياء”، وتشكّل جدرانه وما يعلّق عليها دليلاً على هوية ساكنيه.

مما يرويه الفلسطينيون المقيمون في الضفة الغربية عن الاقتحامات الإسرائيلية لمنازلهم، يقول أحدهم لطاقم منظمة “يش دين” (يوجد قانون): “لقد دمّروا بالكامل الشعور الذي ينتاب كلّ شخص بأن البيت هو أكثر الأماكن هدوءاً وأماناً”، نستعيد هنا وصف الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلر في كتابه جماليات المكان، أن “للبيت ثلاث وظائف: الحماية والألفة والذاكرة”.

 بحسب التقرير الصادر عن المنظمة، يُعتبر “إثبات الحضور” الدافع الأبرز لعمليات اقتحام منازل الفلسطينيين، وبهذا يتحكم الجيش الإسرائيلي بالمسار اليومي للفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

تؤطر إسرائيل عمليات المداهمة واقتحام المنازل قانونياً، تحت مظلة “قوانين النزاع والحروب”. بمعنى آخر ، الذرائع/الوساوس الأمنية هي المحرك الأبرز لتعاملات المنظومة كافة، الأمنية والعسكرية والقانونية.    

 الاستعمار المرئي وغزة

لم تتوقّف إسرائيل عن اقتحام البيوت وتحطيمها وهدمها، وإعدام رجالها والتحرّش بنسائها وقتلهن، منذ عام 1967، بعد إتمام احتلال ما لم يتم احتلاله عام 48. إلا أن الانتفاضات والهبات الفلسطينية كانت تشهد عُنفاً بوتيرة أعلى تتفاقم طردياً مع ضراوة المواجهة.

الصدمة التي تسبّبت بها هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ولّدت توحّش الانتقام والرغبة في “إبادة” الفلسطينيين ونزع الإنسانية عنهم بوصفهم “حيوانات بشرية”،  ومطالبة “الجميع” بإدانة حماس بشكل أعمى، بنية حشد المزيد من الدعم والمناصرة لشن “حرب الإبادة”، التي تمثلت بالقصف العنيف المتواصل حتى كتابة هذه السطور. 

يقول غسان كنفاني في رواية “عائد إلى حيفا” على لسان سعيد، حين عاد وزوجته صفية إلى البيت الذي -لم يعد لهما-، قال: “هذا بيتنا! هل تتصوّرين ذلك؟ إنه يُنكرنا”. ويشير بذلك إلى غياب عروبية/فلسطينية بيتهم، بعدما أُضفي عليه ما لا يشبههم من ملامح أوروبية، أنكروه وأَنكرهم. 

ما يرمي إليه المشروع الاستعماري- الاستيطاني في الأراضي المحتلة، هو قتل هذا الحيّز الحامي الأليف والحافظ للذاكرة المسمى “منزل”،  وفي سبيل ذلك يمارس عنفاً ينطوي على نية إبادة، أو ما صيغ تحت مصطلح “إبادة المنزل-Domicide” الذي اقترحه الصحافي البريطاني باتريك وينتور، لوصف كمية الدمار الهائلة التي لحقت بقطاع غزّة إثر الحرب الإسرائيليّة، ويعرّف المفهوم بوصفه “التدمير الواسع للمنازل والبيوت لجعل منطقة ما غير صالحة للحياة”. 

يشير وينتور إلى أن “إبادة المنازل” لا تُعتبر  جريمة  ضد الإنسانيّة في القانون الدولي، لكنها متداولة في الأكاديميات، واتبعها نظام الأسد في سوريا، وروسيا في حربها على أوكرانيا، ولا بد من إعادة النظر في القانون الدولي لسدّ هذه الفجوة القانونيّة.

أشار أستاذ علم الاجتماع ساري حنفي، سابقاً في مقالته المعنونة space – side – إبادة المكان (الفضاء)، أن السياسات الاستعمارية في فلسطين تستهدف المكان المتمثل بالأرض والبيت، ويتساءل مبرهناً ذلك: “لماذا كان الجنود يحطمون شاشات الكمبيوتر ويمزّقون الأثاث؟ في الحرب على غزة التي بدأت في كانون الأول/ ديسمبر 2008”.

“السيد” وإثبات الحضور

تحوِّل السياسات الإسرائيلية الاستعمارية البيت إلى نطاق لإثبات سطوة “السيد المُستعمر” على “العبد المُستعمر”، ويجنح ليمارسها في الأوقات التي تمثل للمستعمر/العبد أكثرها سكوناً وهدوءاً: الليل. 

ومع الاجتياح البري للقطاع، بدأ الجنود الإسرائيليون مداهمة البيوت وإعدام الموجودين فيها، واعتقالهم بعد تعريتهم، ونشر صورهم، لتكشف هذه الحرب عن جيش لا يأبه لا بمجتمع ولا قانون دولي. 

تقول الكاتبة نسرين مالك، أن الحرب الحالية في غزة هي “حرب على النساء“، وذلك في مقالٍ لها في صحيفة الغارديان البريطانية، نُشر في 5 شباط/ فبراير. وتحيل مالك عدم اكتراث المنظومة النسوية الغربية بما تعانيه المرأة الفلسطينية في غزة من “ظروف لا إنسانية”، إلى كونها لا تشبه المرأة الغربية. 

اللافت في الحرب الحالية “علانية الجريمة“، مع توثيق جنود الاحتلال ونشرهم صوراً لهم من داخل غرف نوم الفلسطينيين في غزة، وهم يرتدون ملابس نوم للنساء، بعد تَرحيلِهِن للاستيلاء على بيوتهن، والإمعان في انتهاك حميمية المنزل ومكوناته الشخصية الأشد التصاقاً بالفرد.

مقاومة الاستعمار المرئي… التوثيق والنشر

يقول درويش، “كل هذه الأشياء ذاكرةُ الناس التي أُفْرِغَتْ من الأشياء، وذاكرة الأشياء التي أُفْرِغَتْ من الناس”. مؤكداً أن “البيوت تُقتل كما يُقتل سكانها. وتقتل ذاكرةُ الأشياء”. 

استعان الفلسطينيون في غزة بوسائل التواصل الاجتماعي وتنامي قوة تأثيرها، فبعَدسة هواتفهم وثقوا وأرّخوا الحقبة الزمنية التي تعرضوا فيها للقتل من الجيش الإسرائيلي، الذي استمر في هدم بيوتهم وتحويلها إلى كومة حجارة، وفكك حرمتها واستباح حيز الزوجية “غرف النوم”، التي تحولت إلى مساحة لـ”استعراض الانتصار” الذي تدّعي إسرائيل تحقيقه،  الانتصار الذي  ما زال الجيش الإسرائيلي  يبحث عن “صورة” تمثله، لكن، لا صور  تبث سوى لانتهاكات ترتقي إلى جرائم حرب.

لجأ الفلسطينيون إلى السلاح المسلط عليهم ذاته، الهاتف ومواقع التواصل الاجتماعي، أعادوا نشر ما ينشره الجنود الإسرائيليون، ووضعوه في سياقه القانوني باعتبارها جريمة يستحق القائمون عليها العقاب، وطالبوا وما زالوا، بمحاسبة الجيش الإسرائيلي على جرائمه العلنية، باعتبار علنيتها دليلاً صارخاً على اكتمال أركانها. 

التقنية السابقة يوظّفها الصحافي ياسين طيراوي على موقع “إكس”، علّها تتحقق فرضية الروائي عزت القمحاوي المبنية على تتبّع تاريخي للاستعمار ما قبل الكاميرا وما بعده، “الاحتلالان الاستيطانيان اللذان رافقا اختراع الكاميرا وسهولة الاتصال زالا: خرج الفرنسيون من الجزائر وتفكّكت العنصرية في جنوب إفريقيا”.

وثّق الغزيون ما حل في بيوتهم من دمار، مستعينين بالذكريات داخل بيوتهم قبل موتها/قصفها/هدمها، ونشروا محتوى مرئياً استعرضوا فيه حياة بيوتهم وحالة موتها، وهم يبكون شوقاً إليها، إذ لم يستطيعوا إزاحتها من مِخيالهم الجَمعي على رغم أن الموت طاول كل شيء ليس فقط البيوت. يبكي الغزيون بيوتهم بحرقة، لا يبكون حجارةً بل ذكريات وألفة وحضناً دافئاً ومشواراً طويلاً ورحلة بناء مليئة بالبؤس لشحّ الموارد.   

تعكس المقاطع والمحتوى الذي يستعرض رحلة حياة بيوت الفلسطينيين في غزة قبل موتها، حباً للحياة وعشقاً للجمال والفن، بينما تقلب بأصابعك بين مقاطع الفيديو للبيوت تجدها تتنافس جمالاً وترتيباً، بهذا توأد سردية “حَيونتهم”، بل وتحيل إلى “حيونة المستعمر”، باعتباره قاتلاً للجمال والفن والعمارة المشيّدة بأبسط الموارد المتاحة.

الجيش الإسرائيلي لا يدمّر جسد الفلسطيني فقط، بل يطاول بترسانَته العسكرية وعنجهية الحيز المكاني (البيت)،موظفاً الحيز الزماني (الليل)، ومنتهكاً الحيز الحميمي (غرف النوم)، منوعاً بذلك الموت ومُكَثّفاً الحَسرات، باثّاً ذلك علانيةً غير آبه بما يخلّفه ذلك.

كريم شفيق - صحفي مصري | 26.04.2024

حملة “نور”: حرب “آيات الله” الجديدة على أجساد النساء

تتزامن الحرب على أجساد النساء مع إخفاقات سياسية عدة، محلية وإقليمية، لـ"آيات الله"، بداية من تأثيرات المعارضة السياسية على الانتخابات البرلمانية، والتي شهدت انحساراً شديداً، وتراجعاً لافتاً في مستوى إقبال الناخبين وتدنّي نسب المشاركة. فضلاً عن الهجوم المحدود والاستعراضي للرد الإيراني على اعتداءات إسرائيل على القنصلية، والهجوم الذي طاول قياداتها بين سوريا ولبنان.