fbpx

الذاكرة الجمعية للنساء في الحرب: “أعيش حرب تموز مصغرة كل يوم”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نكتب في ملف “الذاكرة الجمعية للنساء في الحرب” كل ما لا يُتوقع في الحروب، أشياء النساء والفتيات التي تبدو هامشية، وتجارب المقاومة والاستمرار والانتصار الشخصي، التجارب الشخصية مع الموت والخوف والنجاة والحياة والحب، المشاعر بعد النجاة، نكتب كل ما كان علينا قولها في لحظة ما، لكن لم تسنح الفرصة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في 12 تموز 2006، استيقظت أنا وشقيقتي الساعة السادسة صباحاً نصرخ خوفاً من أصوات قصف عنيفة ضربت مطار بيروت. كنا في المنزل برفق أمي وشقيقيّ، أمّا والدي فكان مسافراً في السعودية للعمل. 

كانت شقيقتي حينها في الـ12 من عمرها، بينما كانت أمي في الـ35 من عمرها، وجدتي في أوائل الستينات. أمّا أنا، فكنت في العاشرة من عمري، وهناك تكونت ذاكرتي، أذكر حرب تموز بتفاصيلها، وأحياناً لا أتذكر حياتي قبل حرب تموز. 

كنّا نعيش في منطقة برج البراجنة، وتحديداَ في بناية سمّيت ببناية “الحزب” لاحتوائها على مكتب عام لحزب الله. اضطررنا أن نخلي البناية بعد ساعات قليلة، بعدما صادفنا رجلاً في مدخل البناية قال لنا: “البناية كم يوم وبتدمر”. لجأنا إلى منزل جدتي الذي يبعد شارعاً واحداً عن المنزل، ومن بعدها بقينا في الضاحية الجنوبية طوال الحرب.

من الصعب رواية كل ما رأيت وشهدت في حرب تموز، أستطيع تأليف كتابٍ كاملٍ، فكنت أنا وأشقائي في المنزل برفقة خالاتي الاثنتين وجدتي وأمي، لكن أين كان الرجال؟، أبي كان مسافراً يعيش قلقا كبيرا دخل بسببه في إكتئاب حاد؛ بسبب المشاهد التي رآها على التلفاز، عاش جدّي والد أبي وسط حارة حريك مع ثلاثٍ من أولاده وجدتي المريضة، ونسي أن يكلمنا قبل أن يهرب إلى بعلبك؛ ومن ثم إلى سوريا، وبقينا نحن 4 نساء و4 أطفال وسط الضاحية الجنوبية في بيروت. 

أمّي ريماز

توفيت أمّي منذ 4 أشهر تقريباً، ورغم أنّ موتها لا يترك أفكاري مهما كتبت أو فعلت، فأنا لا أذكره لهذا السبب أبداً، بل أذكره لأنّ أمي توفيت بذبحة قلبية، غالباً ما نحلل أسبابها، ونربطها بفكرة الخوف من الحرب والقلق المستمر على أهل غزة، وأذكر هذا لأنّنا كأفراد، نحاول تفكيك شخصيات الأشخاص حين يموتون، ونرسمهم وكأنّنا نكتب مسلسلاً أو مسرحية عنهم. 

يقول من كان قريبا من أمّي قبل وفاتها، أنّ أمّي كانت تخاف من صوت الطيران بعد 7 أوكتوبر، وكانت قلقة من الحرب، وتقول جدتي أنّه “فقع قلبها على أطفال غزة”، ويقول والدي أنّ أمّي كانت “تقف أمام الصوفا التي أعطانا إياها عصام عبدالله، وتبكي وتقول: مستحيل إتخلى عن هالصوفا، هيدي ذكرى من شهيد وتبكي وتبكي”. أمّا، أنا، حينما توفيت أمي، ربط موتها بالأحداث حيث شعرت أنّ لموتها معنى ما، وأنّ بعد موتها سنواجه حرب كبرى ستدمرنا ولن نر يوماً جميلاً، وستمحينا إبادة هي نجت منها؛ لأنّ ربّها يحبها.

أحبت أمّي الضاحية كثيراً، وكان أكبر مخاوفها أن تترك منزلها في الضاحية أو أن تجبر على تركه. كانت أمّي شخصاً يحب الـ Comfort zone، ووجدت مساحة الأمان في منزلها في الضاحية، وكل ما هو بالضاحية. 

في كل هذا القلق، لم تظهر أمّي قلقها أمامنا من الحرب، أو من فكرة التهجير، لكن إن أردتُ أن أتحدث عن أمي، المرأة التي عشت معها حرب تموز حينما كانت في الـ35 من عمرها مع 4 أطفال، يمكن القول أنّ أمي كانت شخصاً شجاعاً، لم تلجأ لمساعدة أحد في الحرب، اكتفت باسترجاع روتينها التقليدي في الاجتياح، وهو الإختباء في الكوريدور أو تحت الدرج.

 كانت أمّي تشاهد الأخبار، وتحلّل كيف يسقط الصاروخ على المباني، ويدمرها من تحت لفوق لا العكس، حتى اكتشفت في منتصف الحرب أنّ ربما الإختباء على السطح أفضل من غرفة الدرج. 

كانت مشاعر أمّي في الحرب بسيطة، أتذكر أن يوماً فتح متجر الفروج بعد أيام، اشترت فروجين وأكلنا جميعاً، وأطعمنا قطط الحي. هذا ما أفرحها، أفرحها حينما قصف نصرالله البارجة، أفرحها نصرالله، فقد أحبته كثيراً، لأنّها وجدت به المنقذ الذي تبحث عنه في هذه الحرب المفاجأة. كانت أمي تتسلل لمنزلها في بناية الحزب وتشطفه؛ لأنّها ستعود له. 

كانت أمّي تجد ما يضحكها، لا أتذكرها قلقة أو باكية، كانت تضحك على ردات فعل جدتي وخالتي، كانت تحاول أن تستكشف من كان يسرق الكهرباء في الحي، كانت تضحك لأنّ جدّي نسانا في الحرب، ولانّ عمّتي اضطرت أن تزيل صورة كبيرة لنصرالله علّقها عمّي، على المبنى، فكيف لعمتي الكفيفة أن تزيل هذه الصورة بدقائق من خوفها أول الحرب؟ كانت تضحك لأنّني أحببت النوم، وانتظرت العطلة الصيفية لأنام، فأبقاني القصف من دون نوم.

 كانت تضحك؛ لأنّ صرصوراً مشى على شقيقتي “الخوّيفة” حينما نامت على أرض الكوريدور. بقيت أمّي مصرة أنّ إسرائيل ليست أقوى منّا، وهذا ما أكدته لنا في نهاية الحرب حينما شعرت بالنصر وأنقذها نصرالله. 

بعد حرب تموز، اشتقت لحرب تموز. ربما مشاعر أمّي التي خبأتها هي ما جعلتني أشعر بالفرح رغم القلق. لربما كانت أمّي ماهرة في الكبت والضحك على المشاكل وماهرة في أن تجد التفاصيل مضحكة لتغطي على قلقها. 

مهما حللنا اليوم، لا يمكن أن نعلم ماذا خبأت في قلبها حتى رحلت بسبب ذبحة قلبية. لكن أعلم، أنّني لا أملك ذكريات طفولة قبل حرب تموز. لربما اليوم أضطر أن أسترجعها بعد وفاة أمّي. لكن لربما مواقف أمّي في الحرب هي ما كونت شخصيتي اليوم. فأنا مثلها أضحك رغم المصيبة، وحتى في موتها تمكنت من أن أجد النكتة رغم كل شيء، ورغم أنّني كنت في العاشرة من عمري، أضحكني ما أضحكها وبدلاً من أن آخذ صدمة نفسية من الحرب، أخذت الكثير من الضحك. 

ربما عليّ أن أعترف أنّني محظوظة؛ لأنّني عشت تجارب سيئة مع أمّ تجد ما يضحك في المصيبة، وأمّ تكبت القلق كي لا نشعر به. ولربما لم أكن محظوظة، لأنّ قلب أمّي المكسور هو من خطفها منّي. لا أعلم، لكن أمّي جعلت حرب تموز مسليّة. وأنا أروي هذه التحاليل ليس لأنّني كنت ذكية جداً في العاشرة من عمري، بل لأنّ أمّي هي من حللت كل هذا وهي من جعلتنا أنتبه لكل ما يجري. 

جدتي نورا 

مثل أمّي، أحبت جدتي نورا منزلها. في حرب تموز، بقيت معلقة بمنزلها حتى أنّها طوال الحرب رفضت الخروج من المنزل والسبب هو أنّها في 2006 كانت الوحيدة التي حافظت على الغسالة العادية، ولم تشترِ غسالة اوتوماتيك، وكان شرطها للخروج من منزلها هو أن تذهب إلى منزل فيه غسالة عادية، لا غسالة أوتوماتيك. 

وهذا الشرط ليس له أي معنى؛ لأنّ الكهرباء انقطعت بالحرب، ولا يوجد أي جدوى للغسالة أصلاً، أو تعلقها بالمنزل، لم تظهر جدتي أي خوف من إسرائيل، وخبأت هذا الخوف بغسالة. كانت جدتي ترفض الاحتلال. وكانت تقصد أن تنام على الشرفة لتوجه رسالة لإم كامل “الأم-كي” أنّها لن تغادر منزلها، وحينما كانت تسمع القصف، كانت تركض إلى البناية المجاورة حيث كانت تختبئ في الاجتياح في الثمانينات، وتدق باب الناطور الذي كان يضع أغاني عبد الحليم كي لا يسمع شيئاً. 

لم يفتح الناطور الباب لجدتي، وكانت تعود بعد ليلة قضتها تحاول أن يفتح لها الناطور باب منزلها لغرفة الدرج تحديداً. تعلم جدتي أنّ الملاجئ لن تنفع، وأنّنا لم نعد في الثمانينيات، وأنّ القصف سيقتلنا، مع هذا أصرت أن تظهر شجاعتها، ولو علمنا أنّه مبالغ بها، هي شجاعة حقيقية، لربما أكثر شجاعة حقيقية عرفتها.

 جدتي التي تبلغ من العمر اليوم حوالى 83 عاماً شهدت حروباً كثيرة، وشهدت موت ابنتها الصغرى. مع هذا حتى اليوم، ما زالت مصرة أن تحمل شجاعتها، فحين أبكي، تحاول أن تضحكني وتخبرني نكتة كي أضحك، مثل ابنتها، تجد جدتي النكتة في كل شيء، وتجد القضية في كل شيء. لا تحب المغادرة، تحب العائلة وأن نبقى سوياً. تسمي جدتي أمّي “شهيدة غزة”، وحينما نسألها لماذا تقول، ماتت أثناء موت الشهداء، واختارها الله في نفس الوقت الذي اختارهم به. هذا يريح جدتي، أن تجد سبباً للموت، وحتى لو كان سببا غريبا غير منطقي، فهو يريحها مثلما أراحتها الغسالة العادية.

 لربما هكذا تتعامل مع مشاعرها، لكن لا يوجد أفضل من هذا التعامل. غادرنا مع جدتي قبل أن تنتهي الحرب بخمسة أيام، حين رمت إسرائيل مناشير في حين. وحتى وقتها، كان شرط جدتي أن تقفل جميع الأبواب بأقفال كبيرة من الداخل والخارج، وتبقي باباً واحداً مقفلاً من الخارج فقط. عادت جدتي قبل إعلان انتهاء الحرب بساعات، قبل أن تقصف إسرائيل آخر شارع في الضاحية حيث استشهد أطفال يلعبون. كان هذا آخر شارع، وكان شارع مجاوراً لمنزل جدتي يقع قرب مقبرة أمّي اليوم. عادت جدّتي للغسالة العادية، وبكت على الأطفال الذين كانوا يلعبون وفرحت بالنصر العظيم.

خالتي سمر 

عكس أمّي، كرهت خالتي سمر نصرالله. يوم العزاء، صرخت سمر من قهرها “ما بقا فيني سبّ نصرالله كرمالك يا إختي”. بعد وفاة أمّي اضطرت سمر أن تحب نصرالله كي لا تحزن شقيقتها المفضلة. خالتي سمر تعاني من شلل. لا يمكن أن أصف ما هي الحرب للمشلولين، فكانت سمر تعبّر عن مشاعر الخوف بغسل الملابس الداخلية يدوياً بسبب انقطاع الكهرباء. 

كنا نستيقظ ليلاً على صوت قصف و”غسل الكيلوتات”. كانت سمر غير سعيدة بالحرب وغير سعيدة بالنصر ولا بالبارجة، وكانت دائماً تقول “الليلة الضاحية بتصير لندن”، والمعنى هو أنّ الضاحية ستمسح لتعود لندن. كانت وما زالت سمر تعاني من الوسواس القهري، ولهذا كان الموت أسهل عليها من أن تنزح وتعيش مع أشخاص كثر، وتنام في غرف غير نظيفة. ولهذا لم تهتم بالمغادرة أو الخروج من الضاحية، ولم تكترث لهوس جدتي بالغسالة العادية، ولم تكترث للقصف أو أي شيء، وجدت سمر بغسيل الملابس الداخلية ملجأً. 

خالتي سناء 

كانت سناء خالتي في 2006 امرأة في أواخر الأربعين تعيش في فرن الشباك في الويكند، وفي الضاحية مع أمّها في منتصف الأسبوع. كانت غير متزوجة، ومن دون أطفال، لكن كان لها حبيب نعلم أنّها تعيش معه من دون زواج. هربنا إلى منزلها في الأخير ولربما كرهت جدتي غسالة سناء الأوتوماتيكية لأنّها كرهت شريكها؛ لأنّها عاشت معه من دون زواج.

 لم ترد أن تتواجد جدتي في منزل ابنتها الذي لم ترض عنه لكن سناء، شخصية عظيمة حتى اليوم، تمثل الشخص القوي الذي أخيراً أتى ليخرجنا من الضاحية. إنّها الشخصية ذاتها التي وقفت حينما ماتت أمّي لتتولى مهمة إخبار الجميع بموتها، وتصنع القهوة في العزاء، وتهتم بمنزلها وتسأل عن أولادها، والشخصية ذاتها التي تحملت ألم موت حبيبها فجأة، ولم تتمكن من حضور عزائه، إنّها الشخص نفسه الذي لم يتمكن من البكاء على شقيقتها سوى بعد العزاء. 

اهتمت سناء بلوجيستيات الحرب، بجلب الأغراض والأكل والهروب من الضاحية. خالتي سناء حتى اليوم نشطة، تشغل نفسها باللوجستيات، حساسةً جداً، وتبكِ سريعاً وتهرب من مشاعرها من خلال الانشغال باللوجيستيات. حاولت سناء وسط الحرب أن تنقل غسالة جدتي العادية إلى فرن الشباك، ولا أتذكر إن نجحت. 

نجحت سناء بأن تجد حلاً لوضع الأقفال على أبواب جدتي. فأرسلت شريكها الذي لم يعجب جدتي يوماً لعدم زواجه من خالتي بسبب اختلاف الأديان، وبحسب جدتي حرم خالتي من نعمة الانجاب. وضع وقتها الأقفال، ومع هذا، حرصت جدتي أن تشكره بلؤم من دون ابتسامة، واعتبرت أنّه “يكفّر عن ذنوبه” بالأقفال التي وضعها وهو أقل ما يمكن أن يفعله. ما زالت هذه الأقفال موجودة حتى اليوم. لربما هي أقفال تحفظ منزل جدتي من أي إنزال إسرائيلي، ولربما هي أقفال برهنت رجولة شريك خالتي الذي كان الرجل الوحيد المتاح يومها، ولربما هي حجة فاشلة لعدم الهروب.

أنا

أروي معظم ذكرياتي من حرب تموز. أنا كنت في العاشرة من عمري ألعب أغلب الأوقات، وأستمع لتعليقات أمّي، وآخذ الكثير من مشاعرها. وأرسم مع شقيقتي آية قصص كثيرة، ونضحك سوياً ونخاف سوياً، ونراقب نساء المنزل، ونأخذ الكثير منهنّ. ونطمئنَ أنّنا سنموت جميعاً، ولن يحزن أحد أكثر من الثاني.

 لا شيء مثير للاهتمام أو الجدل عن طفلة تعايشت مع صوت القصف، وانتظرت أن تقع البناية عليها وأن تقتلها إسرائيل، وكان أكبر حزن لها وشقيقتها أنّ “بناية الحزب” ستدمر وسيتدمر الكومبيوتر الذي احتوى على ألعاب كثيرة، وسنضطر أن نشتري غيره ونشتري “سي-ديات” كثيرة ونعيد لعبة طرزان من الأول. لا شيء يُذكر عن الحرب سوى أنّها كانت حرب نسوية بامتياز لنا.

أكتب هذا المقال بعد أن طُلب منّي أن أكتب شيئاً عن ذاكرة النساء في الحرب. ذاكرتي في الحرب ارتبطت بأربع نساء، أتذكرهنّ كثيراً، وحتى اليوم هنّ النساء الأقرب منّي. عاشت أمّي وجدتي وخالتي وشقيقيَ وشقيقتي حرب تموز معي، وعاشوا معي عزاء أمّي، ولا يمكن سوى أن أقول أنّي أعيش حرب تموز مصغرة فيها ضحك، وخوف ولخبطة مشاعر وبكاء واختلاف خيارات واختلاف آراء ونسوية، والكثير من الطاقة التي لا تغادر حتى مع الموت. تبقى طاقة أمّي هنا تكمل المشهد؛ لأنّ الحياة لا تكمل من دونها ولأنّني لا يمكن أن أروي من دونها أو أن أجد النكتة أو أن أجد حتى سبب للبكاء.

جلبير الأشقر - كاتب وأكاديمي لبناني | 06.05.2024

بحجة “اللاساميّة” تترافق إبادة شعب فلسطين مع محاولة إبادة قضيّته 

ظهور حركة جماهيرية متعاطفة مع القضية الفلسطينية في الغرب، لا سيما في عقر دار القوة العظمى التي لولاها لما كانت الدولة الصهيونية قادرة على خوض حرب الإبادة الراهنة، يشكّل تطوراً مقلقاً للغاية في نظر اللوبي المؤيد لإسرائيل.