fbpx

الجيوش ورهاب الثورات(2):الفرعون والجنرال وفن الحفاظ على السلطة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تستطيع الأنظمة غير الديموقراطية أن تصمد في مواجهة أعاصير كثيرة، ما دامت جيوشها وأجهزتها الأمنية موالية، وتصير آيلة إلى السقوط بمجرّد أن تتأزّم العلاقات المدنية – العسكرية، وتتحرّك شهيّة الجنرالات والعقداء للسلطة. الجيوش ضمانة النخب الحاكمة ورعبها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أعادت الاحتجاجات الجزائرية الاعتبار للتفكير بأدوار الجيوش في دول الثورات في كبح الاحتجاجات وسحقها كما هي الحال في سوريا ومصر أو في اتاحة المجال للثورات لصناعة التغيير كما هي الحال في تونس..

درج ينشر ثلاث تحقيقات بحثية للأكاديمي هشام بوناصيف حول الأدوار التي لعبتها  الجيوش في كل من سوريا ومصر وتونس..

تخسر النخب الأوتوقراطية الحروب ولا تخسر السلطة. تفشل في معارك التنمية الاقتصادية، وتبددّ الثروات الوطنية، وتفجّر الصراعات الطائفية، وتظلّ في مواقعها. الحرب الأهلية في سوريا أعادت البلاد إلى الوراء عقوداً، ولكنّ بشّار الأسد ما زال إلى اليوم حاكماً. مصر خسرت سيناء عام 1967 ولكنّ جمال عبد الناصر لم يخسر منصبه. ولا اهتزّ حكم القذّافي يوم غرق جيشه في رمال تشاد، أو تراخت قبضتا صدّام والخميني يوم قادا العراق وايران إلى 8 سنوات من الحرب المرعبة. تستطيع الأنظمة غير الديموقراطية أن تصمد في مواجهة أعاصير كثيرة، ما دامت جيوشها وأجهزتها الأمنية موالية، وتصير آيلة إلى السقوط بمجرّد أن تتأزّم العلاقات المدنية – العسكرية، وتتحرّك شهيّة الجنرالات والعقداء للسلطة. الجيوش ضمانة النخب الحاكمة ورعبها. جيش النظام، في آن واحد، أداته المثلى في مواجهة معارضيه، وأداة المعارضين المثلى أيضاً للتخلّص من النظام. لهذا يصحّ القول بالطغاة إنّهم مخيفون خائفون. يخيفون شعوبهم ويخافون ضبّاطهم. فكيف يحافظون على ولائهم؟ في ما يلي محاولة للاجابة عن هذا السؤال في مصر حسني مبارك.

أسقط انقلاب عسكري الملكية في مصر عام 1952. ووأد انقلاب عسكري آخر التجربة الديموقراطية الوليدة عام 2013. انقلابا جمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسي هما الأبعد أثراً في تاريخ مصر المعاصر ولكنهما ليسا الوحيدين. بين عامي 1952 و2013 توالت على مصر مشاريع انقلابية لم يكتب لها النجاح، من أشهرها محاولات ضبّاط المدفعية، ثمّ ضباط المدرّعات، قلب النظام الناصري في سنواته الاولى، وسعي مراكز القوى الناصرية عام 1970، ثم ضبّاط كبار في المخابرات العسكرية عام 1972، إلى قلب نظام السادات، ثمّ محاولة ضبّاط صغار ومتوسطي الرتب بقيادة الرائد هشام أحمد سليم الانقلاب على حسني مبارك عام 1993. أضف إلى ذلك محاولات اغتيال حاكها عسكريون ضدّ رؤساء مصر أبرزها بطبيعة الحال قيام الملازم أوّل خالد الاسلامبولي ورفاقه عام 1980 بقتل أنور السادات في حادث المنصّة الشهير. أضف أيضاً الأزمات المتتابعة في العلاقات المدنية – العسكرية، كصراع جمال عبد الناصر مع قائد جيشه عبد الحكيم عامر في الستينات، وأنور السادات مع رئيس أركان جيشه سعد الدين الشاذلي في السبعينات، وحسني مبارك مع وزير دفاعه عبد الحليم أبوغزالة في الثمانينات، ومحمد مرسي مع قائد الجيش عبد الفتاح السياسي الذي لم يبق وزيراً للدفاع “بنكهة الثورة” طويلاً. كلّ هذه أمثلة من لائحة تطول. كان عبد الناصر يردّد أنّه تآمر ضدّ فاروق لسنوات طويلة، حتّى صار يرى المؤامرات في كلّ مكان بعد استلامه السلطة. وحتّى وفاته عام 1970 كان يقول إنّه يخشى أن يجد الأميركيون “سوهارتو” مصرياً في الجيش، أي أن يقعوا على ضابط يكّرر في مصر سيناريو سقوط “سوكارنو” في اندونيسيا. كان السادات يخشى الجيش أيضاً. نهاية الحرب مع إسرائيل بعد 1973 أفقدت القوّات المسلّحة السبب المعلن لمحوريتها في مصر وموازنة الدفاع التي كانت لها حصّة معتبرة قبل هزيمة 1967، وخصوصاً بعدها، كان لا بدّ لها أن تتقلّص. ثمّ اصطدم السادات بضبّاط كبار كانت لهم قواعد مؤيّدة في الجيش كوزير الدفاع محمد صادق، ورئيس الأركان سعد الدين الشاذلي، ما خلّف ارتدادات سلبية تجاه الرئيس في القوى المسلّحة. من علامات توتّر العلاقات المدنية – العسكرية مع السادات التغيير السريع على مستوى وزراء الدفاع، إذ توالى محمد فوزي ومحمد صادق وأحمد اسماعيل وعبد الغني الجمسي وكمال حسن علي وأحمد بدوي وعبد الحليم أبو غزالة على قيادة الجيش، فيكون السادات بذلك عيّن 6 وزارء دفاع (محمد فوزي عيّنه ناصر قبل وفاته) خلال عشر سنوات أمضاها في الحكم بين 1970 و1981. في المقابل، عيّن ناصر 3 وزراء دفاع فقط بين 1952 و1970 هم عبد الحكيم عامر، وفهمي هويدي ومحمد فوزي. وعمل حسني مبارك مع ثلاثة وزراء دفاع أيضا بين 1981 و2011 هم يوسف صبري أبو طالب ومحمد حسين طنطاوي، إضافة إى عبد الحليم أبو غزالة الذي ورثه عن السادات.

لا يعني كلّ ما سبق أن الجيش المصري ما والى رئيساً يوماً وما سند نظاماً. عندما قبض الضبّاط الأحرار على السلطة عام 1952 ما كان أحد خارج الجيش يعرفهم. وكان في مصر يومها قوى سياسية ذات شرعية شعبية أكيدة أبرزها الوفد والاخوان المسلمون – إضافة إلى منظّمات يسارية كالحركة الديموقراطية للتحرّر الوطني (حدتو)، ونقابات فاعلة، وصحافة لم تكن بالضرورة محبّذة لحكم العسكر. الحال أن أيّاً من القوى المصريّة الحيّة لم يكن كذلك. وكان لا بدّ لناصر، كي يستقرّ حكمه، من خنق كلّ هذه القوى تدريجياً، اضافة إلى إزاحة منافسين كرشاد مهنّا، الضابط ذي الشعبية في صفوف الجيش، ومحمد نجيب، أوّل رئيس لمصر بعد الثورة، ناهيك عن إسكات أصوات خالد محيي الدين ويوسف صديق وسائر الضبّاط اليساريين المطالبين بتسليم الحكم إلى المدنيين وعودة العسكر إلى الثكنات. انتصر ناصر في هذه المعارك، لأن الكتلة الحرجة من ضبّاط الجيش، وخصوصاً ضبّاط المخابرات، كانت إلى جانبه. السادات أيضا مدين للجيش باستمراريته: صحيح أن محمد فوزي، وزير دفاعه الاوّل، انحاز إلى سامي شرف وعلي صبري وشعرواي جمعة ضدّه، أي إلى مراكز القوى الناصرية، ولكنّ الصحيح أيضاً أن محمد صادق رئيس الأركان، والليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري، بقيا في الصفوف الساداتية ومعهما معظم ضبّاط الجيش. أضف طبعاً أن الجيش المصري أنقذ نظام السادات من انهيار مؤكد أثناء انتفاضة الخبز– السادات سمّاها انتفاضة الحرامية – يوم نزل ملايينالمصريين إلى الساحات والشوارع العامّة، احتجاجاً على رفع الدعم عن السلع الأساسية عام 1977. الجيش، مجدداً، أنقذ نظام حسني مبارك عام 1986 يوم تمرّد مجندو قوّات الأمن المركزي، بعدما سرت اشاعات عن تمديد خدمتهم العسكرية، قبل أن يسحقهم جنود أبو غزالة. يعني ذلك أن الحفاظ على ولاء الجيش  المصري كان ضرورياً لاستمرار الأنظمة المتعاقبة في مصر. والحال أن هذه المسألة بالتحديد كانت قضيّة حياة أو موت بالنسبة إلى حكّام مصر المعاصرين، من فاروق، الملك المخلوع، إلى محمد نجيب، وكلّ الرؤساء الذين تعاقبوا بعده.

ويعني ذلك، أيضاً، أن طول مدّة رئاسة حسني مبارك (1981-2011) دليل أن الرجل أجاد فنّ الحفاظ على السلطة، أي فنّ ابقاء الجيش تحت السيطرة. يحلو لمعارضي مبارك طبعاً اتهامه بالغباء السياسي، خصوصاً إذا ما قورن بسلفيه ناصر والسادات. وكثيراً ما كان يتمّ تشبيه مبارك بالبقرة الضاحكة، “لا فاش كي ري”، وهي نوع من الجبنة الفرنسية التي يحبّها المصريون، للتهكّم على غبائه المفترض. مع ذلك، لا بدّ من الإقرار بأنّ هناك حدّاً أدنى من الذكاء السياسي، وربّما ما هو أكثر منه، قد توفّر لمبارك، حتّى استطاع الحفاظ على الموقع الأوّل في النظام طوال ثلاثة عقود. ليس الأمر قدراً لا في مصر ولا في سواها ومجرّد القبض على السلطة لا يعني بالضرورة التمكّن منها طويلاً. محمد نجيب، على سبيل المثال، لم يجد تعزيز قواعده بين الضبّاط، وراهن على شعبيته في الشارع المصري للبقاء في السلطة، فخسرها بسرعة. محمد مرسي أيضاً لم يتمكّن من بناء قاعدة موالية له بين الضبّاط، وما كان يمكن له ذلك وهم فطروا على كره الاخوان. مبارك، في المقابل، استمرّ في السلطة لأطول فترة منذ محمد علي. ما كان ذلك ممكناً لولا أجاد مبارك ممالأة جنرالات مصر الأقوياء. أزعم في هذه العجالة أن كرم مبارك الشديد تجاه الضباط الكبار سبب أساسي لولائهم لحكمه، على رغم انزعاجهم من صعود نفوذ الداخلية في العقد الأخير من عهده، ومشروع التوريث، أي تسليم مصر لجمال حسني مبارك، بعد اعتزال أبيه. وسأركّز في ما يلي على نقطتين أساسيتين ساهمتا في استقرار العلاقة بين مبارك وجنرالاته هي التعيينات المكثّفة في مراكز مرموقة بالادارة العامّة، وبناء قاعدة اقتصادية مستقلّة للجيش يديرها ضبّاطه، ويستفيدون منها.

عسكر وإدارة: مصر جمهورية جنرالات

يتقاعد الضباط المصريون في سنّ مبكرة عموماً، في أواخر الأربعينات من أعمارهم أو أوائل الخمسينات. 40 في المئة من كلّ المحافظين الذين عيّنهم مبارك هم من الضبّاط المتقاعدين كما تظهر الأرقام أدناه:

يتصرف المحافظ المصري كأنه ممثّل الرئيس الشخصي في محافظته ما يعطيه سلطات واسعة فيها. وتضمن شبكة المحافظين، ورؤساء المناطق والاحياء، مصدراً مباشراً للمعلومات يصبّ من مختلف المناطق المصرية في مكتب الرئاسة، وعند الأجهزة الامنية. أي أن هذه الشبكة شكل من أشكال التأمين الأمني على الرئاسة والنظام. والخدمة هنا متبادلة بين الرئيس واللواءات المحظيين لأن منصب المحافظ مرموق بطبيعة الحال. وأبعد من الوجاهة الاجتماعية التي يؤمّنها اللواءات المتقاعدين تعيينهم محافظين، تفتح هذه المناصب لأصحابها طريق الثراء السريع بوسائل مختلفة. أخبار الفساد والتربّح غير المشروع أحاطت بمحافظ مطروح السابق اللواء المتقاعد سعد خليل، ومحافظ الأقصر السابق، اللواء المتقاعد سمير فرج، ومحافظ السويس السابق اللواء المتقاعد سيف الدين جلال، ومحافظ الاسماعيلية السابق، اللواء المتقاعد عبد الجليل الفخراني، وغيرهم على سبيل المثال لا الحصر. واحدة من الطرائق السهلة لجمع الثروة هي بيع الأملاك العامّة لمستثمرين من القطاع الخاص بأسعار أقلّ بكثير من قيمتها الحقيقية مقابل عمولات سخيّة. وقد سهّلت توجهات مبارك النيوليبرالية، وسياسات الخصخصة المحمومة، هذا النوع من الفساد تحديداً. تلقي الجداول التي تلي المزيد من الضوء على مناصب اللواءات المتقاعدين في الحكم المحلّي، وفي الأسلاك الديبلوماسية والإدارية المختلفة.

حصل قادة الأسلحة الأخرى، كالجيشين الميداني الأوّل والثاني، وقادة سلاحي البحرية والدفاع الجوّي – والأخير مستقلّ عن سلاح الجوّ في مصر – على تعيينات رفيعة مشابهة وقد فصّلتها في دراستي المذكورة أعلاه. وبطبيعة الحال، لم تقتصر تعيينات ما بعد التقاعد على قادة الأسلحة، أي الجنرالات الكبار، بل على عدد كبير من اللواءات المحظيين الذين منحوا مناصب مختلفة في بيروقراطية الدولة، والإدارة المحلية. تشير الدراسات إلى أنّه يوجد على الاقلّ ألفا ضابط يحتلّون مناصب مدنية حسّاسة، عيّنوا فيها بعد تقاعدهم من القوّات المسلّحة.

 عسكر و”بيزنس”: الجنرالات… رجال أعمال

تعود جذور الامبراطورية الاقتصادية للجيش المصري إلى عهد السادات. كما ذكرنا سابقاً، عنى السلام مع إسرائيل في ما عناه أن موازنة الدفاع تقلّصت تدريجياً بعد حرب اكتوبر عام 1973. ثمّ السادات كان راغباً بإعطاء نظامه طابعاً مدنياً. تالياً، خففّ السادات نسبيّاً من سطوة الجنرالات شبه المطلقة على المناصب الوزارية والتعيينات الإدارية التي درجوا عليها في الحقبة الناصرية. ولكن السادات ما كان راغباً بخسارة ولاء ضباطه فعوّض عليهم، عبر إطلاق أيديهم في المجال الاقتصادي. وكان المشير عبد الحليم أبو غزالة، آخر وزير للدفاع في ظلّ السادات، صانع هذا التوجّه العسكري صوب الأعمال التجارية وعقله المدبّر. برّر أبو غزالة، ووزراء الدفاع الآخرون من بعده، انشغال الضبّاط بالأعمال التجارية بسبب معلن هو تحقيق الجيش الكفاية الذاتية، وتالياً تخفيف العبء المالي عن ميزانية الدولة. السبب الآخر المعلن أيضاً هو أن انضباط الجيش وكفاءته يجعلانه أكثر قدرة على تنفيذ المشاريع لمصلحة القطاع العام – مدّ الجسور والطرقات مثلاً – من متعهدي القطاع الخاص. وحتّى لو حكّمنا حسن النيّة وقبلنا بهذه الحجج لبناء الجيش حيّزاً اقتصاديّاً خاصّاً به، يبقى أن هناك معطيات أخرى لا بدّ من أخذها في الاعتبار كي تكتمل الصورة. من هذه المعطيات، أوّلاً، أنّ نشاط الجيش الاقتصادي توسّع بشكل مطرد منذ انطلق أيّام السادات/أبو غزالة، وصار يمتدّ حالياً إلى قطاعات مربحة كالتطوير العقاري، وصناعة الأغذية والملبوسات، وإدارة المنشآت السياحية، وتركيب السيارات، وتحسين وصيانة شبكات المترو، الخ. زعم البعض أن الجيش يسيطر على 40 في المئة من الاقتصاد المصري هو على الأرجح مبالغ به كثيراً. غالب الظنّ أنّ حصّة الجيش تترواح بين 5 و10 في المئة من الاقتصاد في الحدّ الأقصى، وهذا يشمل مليارات الدولارات. ومن الصعوبة بمكان احتساب هذه الحصّة لأن الأرقام المالية المتعلّقة بالجيش محجوبة عن التداول العام باعتبارها مسألة “أمن قومي”.  ثمّ أن هناك مسألة الضبّاط المتقاعدين وما إذا كان ينبغي احتساب الأعمال التي حصلوا عليها لصلتهم بالجيش كجزء من اقتصاده العام. المعطى الثاني، هو المنافسة غير العادلة التي يطرحها هذا النشاط في مواجهة القطاع الخاص، إذ يتمتّع بإعفاءات ضريبية محصورة به، كما يستفيد من آلاف مجندي الخدمة الإلزامية الذين يحوّلهم إلى يد عاملة رخيصة شبه مجّانية. المعطى الثالث، هو أن الحيّز الاقتصادي للجيش المصري يفكّك القطاع العام إلى واحد مدني، خاضع لأجهزة الرقابة، وآخر عسكري، مستقلّ ذاتياً، ما يجعل التخطيط الاقتصادي وترشيد الانفاق العام أكثر صعوبة. أمّا المعطى الرابع، والأخير، فهو أن مئات الضبّاط يتمّ توظيفهم في هذا القطاع، فيتحكّمون به من دون تدخّل من أجهزة الرقابة، ما يفتح الباب واسعاً لهم أمام التربّح غير المشروع.

هناك خطأ شائع ساد في بعض الأوساط المهتمّة بالشؤون المصرية مفاده أن جمال مبارك مثّل، مع طبقة رجال الأعمال المتحالفين معه وظهيرهم في وزارة الداخلية، الطبقة النفعية المتحمسة لمزيد من الخصخصة والتوجّه النيوليبرالي، ومثّل الجيش في المقابل رأس المال “الوطني” المتحفظ على النيوليبرالية باسم الدفاع عن فقراء مصر وقطاعها العام. والحال أن هذا التوصيف للجيش قد لا يكون دقيقاً تماماً. صحيح أن العقد الأخير من حكم مبارك شهد صعوداً سريعاً لنفوذ ابنه جمال، ترافق مع تعزيز الاتجاه النيوليبرالي العام للاقتصاد المصري. ولكن ما هو صحيح أيضاً أن الجيش اقتحم الاقتصاد المعولم واستفاد بدوره من الفرص المتاحة في المشهد الاقتصادي الجديد. لا مجال في هذه العجالة لتفنيد الشراكات الكثيرة بين المؤسسات التابعة للجيش المصري ورأس مال أجنبي. تكفي الإشارة إلى تعاون الجيش مع شركات عملاقة كـ”ميتسوبيشي”، و”كرايسلر”، و”هيونداي”، و”رانغلر”، و”شيروكي”، و”تويوتا”، و”سيماغ”، و”مجموعة الخرافي” الكويتية، ومؤسسات صينية عدّة، وكلّ هذا على سبيل المثال لا الحصر. ومنذ عام 2004، توسّع النشاط الاقتصادي للجيش حتّى صار الجنرالات/ رجال الأعمال منخرطين في قطاعات عملاقة كتركيب السيّارات في مصنع النصر، وقد اشتروه من القطاع العام المدني عام 2010، وإدارة مرفأ أسوان الذي يلعب دوراً أساسياً بالتجارة بين مصر والسودان، وإدارة مشروع أبو زعبل الصناعي الضخم، الذي يملكه الجيش أيضاً، ناهيك بمصنع العريش للاسمنت، الذي أطلقه الجيش عام 2010 أيضاً بالتعاون مع شركة صينية. يتردّد بشكل متزايد أن رواتب الضبّاط المسؤولين عن هذه الدورة الاقتصادية خيالية بأي معيار. ولكنّ دعم نظام مبارك (ثمّ نظام السيسي) الضبّاط، لقاء ولائهم، حماهم من أي جهاز رقابي وأبقاهم، على حدّ تعبير يزيد الصايغ، الباحث في مؤسسة كارنيغي، “فوق الدولة”.  

خلاصة

تراجعت الانقلابات العسكرية في مصر والعالم العربي تدريجياً منذ السبعينات ولكن خطرها ظلّ ماثلاً أمام الحكّام. عمد جمال عبد الناصر، لربط ضبّاط الجيش بنظامه، إلى تعيينهم في مواقع بيروقراطية مرموقة، وهو تقليد تراجع بدرجة معيّنة مع السادات، قبل أن يعود بقوّة مع مبارك. ووجّه السادات ضبّاطه تدريجياً بعد حرب أكتوبر وسياسة الانفتاح الاقتصادي التي عرف بها عهده صوب الانخراط بالتجارة والاعمال، وهو ما زاد بقوّة تحت حكم مبارك، خصوصاً في العقد الأخير منه. سمحت حماية نظام مبارك للجنرالات بتكوين طبقة من الضباط المحظيين انفصلت مصالحها، وطرائق عيشها، لا عن عموم المصريين وحسب، بل أيضاً عن الضبّاط الصغار ومتوسطي الرتب. دع عنك ضبّاط الصفّ والجنود والمجندين، الذين يعانون كما يعاني مواطنوهم من الأوضاع الاقتصادية الضاغطة. بهذا لم يكن مفاجئاً أن ينحاز الضبّاط الصغار ومتوسطو الرتب إلى ثورة عام 2011، فيما ظلّ الجنرالات الكبار، وخصوصاً المشير طنطاوي وضبّاط المجلس الاعلى، على ولائهم لمبارك حتّى الرمق الأخير. وعلى رغم عمق التحوّلات السياسية التي حصلت في مصر عام 2011، وما بعدها، ظلّ موقع الضبّاط الكبار محفوظاً في الإدارة العامّة للدولة، والحكم المحلّي، والحيّز الاقتصادي المستقلّ للجيش. نظام الرئيس مرسي لم يحاول، دع عنك أن يتمكّن، من إعادة النظر بامتيازات طبقة الضبّاط. أمّا نظام السيسي فقد عزّزها. قبل عقود، وضع البحّاثة أنور عبد الملك كتاباً مرجعيّاً عن الجيش المصري بعنوان “مصر، مجتمع عسكري”. لا يزال العنوان صالحاً حتى الساعة مع الاعتراف طبعاً بالتغيرات التي طرأت في مصر من يوم وضع عبد الملك كتابه. ويشكّل الضبّاط المصريون الراغبون بالحفاظ على اميتازاتهم عقبة، كأداء أمام احتمالات التطوّر الديموقراطي في مصر. يشكّل الاخوان المسلمون العقبة الكبيرة الأخرى. ولكنّ هذا لبحث آخر.

الجيوش ورهاب الثورات(١):الانقلابات العسكرية والمسألة الطائفية في الجيش السوري

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.