fbpx

إلى باسكال صوما: الحياة من فوق 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أذهب إلى ملهى ليلي أو حانة تجلس أمام البار، فتاة ساحرة تجلس في الجهة المقابلة، نظرات فرفع كؤوس فاقتراب فمفاجأة. تصل إلى قربي، أنظر إليها، أحاول تخيل المشهد بيننا. فارق الطول مفزع

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قرأت مقالاً لباسكال صوما حول قصيرات القامة، ضحكتُ كثيراً وأنا أعيد المشاهد ذاتها، إنما من فوق، وكان هذا المقال. 

كنت دوماً في المقاعد الخلفية في الغرف الدراسية، كان النظّار والأساتذة ينعتونني بالشمعدان تارة أو العمود تارة أخرى. كنت آخر من يدخل الصف، وكان من الصعب الابتسام أو الضحك  في وقفة الملعب الصباحية لأنني مرئيّ من بعد. لا أذكر متى كنت قصيراً كرفاقي، أو لنقُل بطولهم. أتذكر نفسي طويلاً ودائماً أتخيّل مشهد ولادتي وأضحك. أتخيّل أن الطبيب أمضى وقتاً وهو يسحبني من رحم أمي ويقول: “ما عم يخلص”.

أمضيت عمري الدراسي على المقاعد الخلفية، حتى لا تحجب ضخامتي الرؤية عن رفاقي. ولكن للمقاعد الخلفية حسناتها فهي تحمي التلامذة من عيون الأساتذة وتعطي امتيازات خاصة: من الأكل في الصف، إلى تصفح بعض الصور الإباحية من المجلات وصولاً إلى تدبير المناورات والمشاغبات، من دون أن يتمكن المعلّم من تحديد المسبب. أيضاً المقاعد الخلفية كانت مخصصة للكسالى أو لمن يعيدون سنتهم الدراسية، وبالتالي أمضيت سنوات دراستي معهم، على رغم أن معدلاتي كانت جيدة. ناهيك بالظلم الذي كان يلحق بنا نحن سكان المقاعد الخلفية، والإشارة إلينا عند أي شغب أو حركة بسيطة تحدث في الصف، وتعرضي للطرد مراراً بسبب ما ارتكبه غيري. حتى الأساتذة كانوا يمارسون معنا نوعاً من الفصل العنصري عند اختيار الطلاب للقيام بمهمات كنا نعتبرها امتيازاً، مثل أن يرسلك المعلّم إلى صف آخر ومعك رسالة إلى زميله، أو أن يطلب منك الذهاب إلى الإدارة للحصول على الطباشير أو الأوراق، فهذه المهمات كانت دائماً من نصيب الأقربين، أي سكان المقاعد الأمامية. حتى في المسرحيات المدرسية كانت تتم الاستعانة بنا كجزء من الديكور لا أكثر، تارة شجرة، وطوراً زهرة. 

فترة المراهقة كانت فترة الرعب بالنسبة إلي، كنتُ أزداد طولاً، وقدماي تكبران بشكل هستيري، لتبدأ هنا مرحلة التنمر. “كل طويل هبيل”، جملة لطالما سمعتها من أهلي وإخوتي ورفاقي ومن المدرسين، حتى أنني أذكر أنه في تلك الفترة كنت مواظباً على الصلاة وكنت أصلي لله، “لما بقا يطولني”. فبحسب الأهل لن أجد ما يناسبني من ملبس، إضافة إلى تخويفي من رجليّ الكبيرتين، إذا ما استمرتا في النمو، إذ لن أجد حذاء مناسباً، وسأضطرُ إلى الذهاب إلى اسكافي ليفصّل لي حذاء أو سأضطر إلى انتعال “علبة الصباط”.

ولكن فجأة كل هذا تغيّر مع بروز رياضة كرة السلة واحتلالها الشاشات، فأصدقائي الذين كانو يتهربون مني عندما يلعبون الفوتبول، “لأني ما بعرف إلعب”، أصبحوا يتنافسون على من سيضمني إلى فريقه في كرة السلة، “لأنني طويل”. ومن هنا، أصبح طولي مقدّراً عند الجميع، حتى أهلي أصبحوا يقنعونني بضرورة استثمار طولي والتقدم إلى المنافسات التي تقيمها الفرق اللبنانية لضم لاعبين جدد “طوال”. “ليك فادي الخطيب وين صار” جملة سمعتها على مدار السنين، تحفيزاً لي للتدرب والبروز لعلّ أحد الفرق يضمني إلى صفوفه. ولكن في فترتها حتى طولي لم أعرف كيف أستثمره، وبقيتُ لاعباً عادياً، ولم أصبح فادي خطيب عكار.

كل هذه الهموم التي رافقتني منذ الصغر توقفت في العشرين. توقفت عن النمو عند 189.7 سنتم. طول مثالي. تنفست الصعداء لأنني لن أصبح مارداً يتجاوز المترين. الطول حلو، صرت أسمع هذه الكلمة من الجميع ولاحظت أن الفتيات يفضلن الشاب الطويل. لقد انتهت المعاناة، ولكن…

 

كنت مواظباً على الصلاة وكنت أصلي لله، “لما بقا يطولني”. فبحسب الأهل لن أجد ما يناسبني من ملبس، إضافة إلى تخويفي من رجليّ الكبيرتين، إذا ما استمرتا في النمو، إذ لن أجد حذاء مناسباً، وسأضطرُ إلى الذهاب إلى اسكافي ليفصّل لي حذاء أو سأضطر إلى انتعال “علبة الصباط”.

 

عام 2017 قررت الرحيل واخترت الفيليبين. قبل الذهاب إلى هناك قرأت مقالات ودراسات مالية عن الحياة في الفيليبين، عن سهولة الاندماج لأن اللغة الرسمية هي الإنكليزية، شعب لطيف ومضياف ويحب الحياة والمناخ الاستثماري جيّد لبدء مشروع هناك. وهكذا حصل، سافرت إلى الفيليبين، بدأت تنفيذ مشروعي وكان كل شيء يسير بحسب خطة العمل وكانت الفيليبين كما قرأت عنها في الكتب، باستثناء أمر واحد، غفلتُ عنه: الطول. متوسط طول المرأة في الفيليبين هو 153 سنتم. تفصيل صغير جعلني أترك كل شيء وأعود. عندما يسألني رفاقي عن الفيليبين أقول لهم إنها الجنة. لماذا عدت؟ “لأني طويل كتير عل الفيليبيين”. فعلاً كان هذا السبب الوحيد لعدم اندماجي، ففارق الطول مخيف. في المجمعات التجارية هناك، كنت أمشي وكأنني مارد، يمر الناس بقربي ويصل معظمهم إلى حدود معدتي. إذا اصطدمت بأحد لن تكفي كلمة اعتذار، فربما تسببت له بأذى جسدي. ناهيك بعدم قدرتي على الخروج مع فتاة فيليبينية. أذهب إلى ملهى ليلي أو حانة تجلس أمام البار، فتاة ساحرة تجلس في الجهة المقابلة، نظرات فرفع كؤوس فاقتراب فمفاجأة. تصل إلى قربي، أنظر إليها، أحاول تخيل المشهد بيننا. فارق الطول مفزع. أعتذر وأنسحب والغضب يعتريني، ما دمتُ طويلاً، علامَ ابتسمَت وأشارت إليّ بالمبادرة؟ 

هناك كان طولي يستعمل للتندر بين الأصدقاء، الذين نشروا صورهم معي على “فايسبوك”، مرفقة بعبارة “أنا والمارد”.

عدت بعدها إلى لبنان وهاجس الطول لا يفارقني، أذكر في حفلة لـ”مشروع ليلى”، كانت صديقتي القصيرة تتذمر من قصرها ولا تستطيع الرؤية وتقول “نيالك عم تحضر الحفلة من فوق”. بالفعل كنت أحضر الحفلة من فوق، لم أكن أرى وجوهاً بل رؤوساً، فقلت لها هل حدثت طفرة جينية في غيابي؟ لماذا الجميع قصار؟ أين اختفى طوال القامة؟ 

عندما تعرفتُ إلى صديقتي وطلبت مني الذهاب معها إلى بولونيا للتعرف إلى أهلها، كان أول سؤال أطرحه عليها: “شو وضع الطول هونيك؟” لم تفهم المغزى من سؤالي. فهذا سؤال لن يفهمه إلّا الطوال. في كل حال، أنا طويل وبدأ الشيب يغزو رأسي، وبحسب رفاقي عليّ أن أنظر إلى الجانب المشرق ولا ألهي نفسي بعقدتي الغبية.

قرأت مقالاً لباسكال صوما حول قصيرات القامة، ضحكتُ كثيراً وأنا أعيد المشاهد ذاتها، إنما من فوق، وكان هذا المقال. 

آه، أمرٌ أخير، لو قدر لي أن أخلق من جديد، أتمنى أن أكون طويلاً.

سلاماً على قصيرات القامة

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.