أغرب ما في فايروس “كورونا” هو أنه ليس بوسعنا مساعدة بعضنا بعضاً خلال المرض. ولا يمكننا التربيت بأيدينا على أحد للتخفيف عنه، كل ما يمكننا فعله بها هو غسلها. بل في الواقع قيل لنا صراحةً إن الطريقة التي يمكننا تقديم المساعدة بها هي البقاء بعيدين من الآخرين. ربما يكون هذا منطقياً من الناحية الوبائية، لكنه أيضاً يجعلنا مجانين إلى حد ما: إذ تتنافى الإجراءات المتمثلة في التباعد الاجتماعي والحجر الصحي والانعزال بشدة مع غريزة التجمع التي تميزنا.
دائماً ما نتكاتف في كل مرة نواجه فيها كارثة طبيعية، وهذا هو الطبيعي، ويكاد يكون الاستجابة البشرية الحتمية لأي أزمة. أكدت ريبيكا سولنت صواب تلك النقطة من خلال أمثلة عدة في كتابها شديد التفاؤل المنشور عام 2009 “جنة مبنية داخل الجحيم” (A Paradise Built in Hell)، بدايةً من زلزال سان فرانسيسكو والحرائق التي تبعته عام 1906، وصولاً إلى إعصار كاترينا عام 2005، تآزر الناس بطرائق في غاية الاستثنائية. وفي لويزيانا، توافد أصحاب القوارب وواصلوا شق طريقهم عبر المياه الموحلة والخطيرة لإنقاذ العالقين فوق أسطح منازلهم المغمورة بالمياه. وأنقذت مجموعة “قوات الكاجون البحرية” (كاجون نافي- Cajun Navy)، التي تتكون من متطوعين من أصحاب القوارب، أرواح العشرات كما هو معروف، ولم يكونوا استثناءً.
كتب سولنت أنه، “في أعقاب أيّ زلزالٍ أو انفجار أو عاصفة هوجاء، يتحلى معظم الأشخاص بالإيثار، وينخرطون على وجه السرعة في رعاية أنفسهم ومن حولهم، من الغرباء والجيران إضافة إلى الأصدقاء والأحباء”. ونادراً ما تجد لصوصاً أو ناهبين، وفي بعض الأحيان تكون ما تسمى بأعمال السلب والنهب عبارة عن مجرد أشخاص يحاولون الحصول على الدواء أو الطعام للآخرين. وتضيف سولنت أن “صورة الإنسان الأناني أو المذعور أو الغوغائي المتخلف في أوقات الكوارث تكاد تكون خيالية. وقد أثبتت الأبحاث الاجتماعية الدقيقة حول السلوك الإنساني في الكوارث التي أجريت على مدار عشرات السنين، صحة ذلك، بداية من القصف خلال الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى الفيضانات والأعاصير والزلازل والعواصف في مختلف أنحاء القارة وحول العالم”.
شهدت ذلك بنفسي عشرات المرات، فعندما دمر إعصار آيرين ولايتي فيرمونت عام 2011، أتى الناس في غضون ساعات، وأحضروا معهم جميع الأدوات الممكنة بداية من الجرافات وحتى المكانس. ونظفوا الأقبية وأعادوا شق الممرات، وواصلوا القدوم على مدار أسابيع، إلى أن أنجزوا المهمة بالكامل. وقد فعلوا ذلك لأشخاص غرباء عنهم في معظم الحالات، وإن لم يبقوا غرباء لفترة طويلة.
لكن في حالة فايروس “كورونا”، لم يعد ذلك ممكناً. إذ لا وسيلة لتقديم العون، باستثناء الانعزال داخل منزلك حتى لا تتسبب في إصابة الآخرين. بل في الواقع حتى الأماكن التي نجتمع فيها للعزاء أصبحت محظورة بشكل متزايد. فقد أُغلقت الكنائس في إيطاليا وكوريا الجنوبية (حيث يتمركز الوباء المستشري في مستشفى واحد وجماعة دينية معينة). أما المدارس، حيث يتعرف الناس إلى مجتمعهم خلال أول عقدين من حياتهم، فأصبحت تغلق أبوابها على نحوٍ مطرد أو تتحول إلى نظام “التعليم من بعد”.
حتى الأشياء التي تشغلنا خلال الأزمات في طريقها إلى الإغلاق، فخلال جميع الكوارث التي أذكرها بما في ذلك الفظائع التي لا دخل للطبيعة بها مثل هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، كان استئناف الرياضات الاحترافية بعد بضعة أيام من الكارثة وسيلة لتخفيف مشاعر الألم والخوف والغضب. أما حالياً فباتت سباقات التزلج في النرويج تقام في حلبات فارغة، وألغت إيطاليا مباريات دوري كرة القدم، وثمة حديث عن ضرورة تأجيل دورة الألعاب الأولمبية الصيفية المقرر عقدها في طوكيو.
بالطبع هذه الإجراءات تتسم بالحكمة، فالدليل واضح منذ الإنفلونزا الإسبانية التي تعود لعام 1918، على أن الحد من الاحتشاد يمكن أن يقلل من انتشار الفايروس وبالتالي تسطيح منحنى العدوى في نهاية المطاف. (سوف يعلق تقليل ترامب من أهمية مخاطر تفشي الفايروس بالأذهان بسبب الحماقة الكلاسيكية ذاتها، إذ لا يمكنك التلاعب عندما يتعلق الأمر بميكروب). لكن تكلفة العزلة حقيقية وباهظة. فقد تبين أن الوحدة تشكل عاملاً كبيراً في زيادة أرواح البشر المهدورة. إذ إن الأمراض التي تمكننا ملاحظتها، بدايةً من استجابة الجهاز المناعي مروراً بظهور الخرف ووصولاً إلى قصور الشريان التاجي، تزداد سوءاً لدى الأشخاص الذي يمتلكون عدد أقل من الأصدقاء، غالباً بصورة هائلة.
لكن إذا ما تغاضينا عن المخاطر المادية، فإن التكلفة الاجتماعية هي ما علينا استيعابه، حتى يمكننا تذكرها بعد انقضاء هذه الأيام. يجب أن نستغل هدوء هذه الأيام التي أصبحت فجأة غير مزدحمة للتفكير قليلاً في مدى ازدياد العزلة الاجتماعية في مجتمعنا، حتى من دون ذريعة المرض. فقد شهد عدد المراهقين الذين يمضون وقتهم بصحبة أصدقائهم انخفاضاً حاداً عام 2012، مقابل ارتفاع عدد حاملي الهواتف الجوالة، ومنهم أطفال ومراهقون. (وهو السبب الذي تم ربطه بارتفاع معدلات الاكتئاب).
وإذا ما أولينا اهتماماً يمكننا أن نقدر اللحظة التي يتم إطلاق سراحنا فيها من حبسنا بشكل أوفى، بل ويمكننا نتيجة لذلك إحداث بعض التغييرات في حياتنا. فقبل كل شيء، سنشعر بالارتياح عندما يُسمح لنا بالعودة إلى الاعتناء ببعضنا بعضاً، وهو الأمر الذي يجيده الإنسان.
هذا المقال مترجم عن newyorker.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط هنا