fbpx

مصر : نعم نحن المستقلات “الهاربات” من دوائر السلطة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كدت أنسى اسمي وأنا أمضي في شوارع القاهرة بلا هوية وبلا ماض، فقط أختبر البنوة الجديدة مع الحياة، كانت ساحات الاعتصام وكراسي المقاهي الشعبية مأوى للمبيت، حتى وجدت عملي الأول …

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صورة المراهقة فرح وهي بين أحضان والديها بعدما اعتقلتها الشرطة وأعادتها إلى عائلتها بعد أن هربت للنجاة من معاملة قاسية كما قالت، أعادت عنوةً مشاهد من تاريخ شخصي عشته على مدار 7 سنوات من الاستقلالية. صورة المراهقة وقد أعيدت قسراً الى عائلتها أيقظت لدي ولدى كل فتاة تسعى للاستقلالية في مصر مشاعر لا تُنسى. إنه مسار كامل حاولت كثيرات من خلاله زحزحة جدار العائلة وقدسيتها المفترضة في ثقافتنا، لتترك كل واحدة منا وراءها وجهاً قديماً تملأه الندوب، شاهداً على العنف والقمع.

ذاكرة لا تنسى

في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر 2012 كنت أتابع أمام شاشات التلفزيون الخطاب التحريضي الواضح آنذاك على أقباط مصر في وسائل الإعلام، وبعدها سحقت دبابات الجيش أجساد متظاهرين أقباط أمام مبنى ماسبيرو، على مرأى الجميع ومسمعهم. كنت أنتحب نحيباً لم أستطع كتمان نشيجه، وقررت الخروج من الصعيد النائي حيث كنت أعيش بلا عودة، بعدما التحمت قصتي بقصص شهادات ماسبيرو على نحو غير مدبر. 

هم كانوا “أقلية” تسحقها الدولة بلا رأفة، وأنا لطالما شعرت بأنني أقلية لن تتوانى دوائر السلطة التي أعيش في بنيتها عن دهسي في كل فرصة ممكنة.

عند السابعة صباحاً من 10 تشرين الأول، خرجت من قريتي أرتدي ملابسَ سوداء، خرجت باستغناء كامل عن كل شيء، لم أحمل معي حقيبة سفر ولا أموالاً، سوى ما تبقى من راتبي. توجهت إلى المستشفى القبطي في رمسيس، كانت دماء ضحايا ماسبيرو تجري مختلطة بالمياه على الأرض، كان المشهد مروعاً. سلبتني توابيتهم وعليها أعلام مصر، خوفي من التغيير والاستقلالية، ورأيت الثمن الباهظ للتغيير عندما لمست تابوت الناشط القبطي مينا دانيال، كنت أجفف الدموع بأطراف الحجاب وأعطيته وعداً في السر “يا مينا أنت تغير حياتي إلى الأبد، أعدك بأن أكون مندفعة وجسورة ومستقلة وشوكة في حلق دوائر السلطة التي تلتهمنا”.

كدت أنسى اسمي وأنا أمضي في شوارع القاهرة بلا هوية وبلا ماض، فقط أختبر البنوة الجديدة مع الحياة، كانت ساحات الاعتصام وكراسي المقاهي الشعبية مأوى للمبيت، حتى وجدت عملي الأول – وأنا باحثة ماجستير -، بائعة متجولة للمنتجات الرخيصة. كنت أعلم أنها مرحلة موقتة، لكن العمل كان شاقاً ومهيناً، كنت أنفق كل الشحم المخزون في جسدي كأول ضريبة للاستقلالية، كنت أفقد وزناً هائلاً يوماً بعد آخر. وعلى رغم ذلك كنت متخففة. تخففت من نظرات الناس وأحكامهم حتى صُدمت في أحد النهارات المارة في شوارع شبرا الخيمة، بعدما مشيت بالبضائع لمسافات طويلة وكنت بحاجة إلى حمام ولم أعثر على مكان. تعبت، وقررت فعل أفعال الدراويش، إطلاق “كسمية” واقعية تماماً تشبه كسميات نجيب سرور وتبولت على نفسي في الشارع. مضيت بين الناس بلا أدنى حرج، كفتاة مستقلة فقيرة متبولة على نفسها في مجتمع يعج بالجلادين.

لم أكن وقتها قارئة للتنظيرات حول العائلة وسلطتها ووجوب الفرار للنجاة، كل التنظيرات التي قرأتها في الفترة الأخيرة، كانت قناعات مبكرة تكتسبها كل مستقلة عبر التجربة. لم يدهشني التاريخ الذي كتبه فريدريك إنغلز في كتابه “أصل العائلة”، عن أن العائلة كمصطلح في الأصل مبني على السلطوية والتحكم وأحياناً الحق الكامل لرب الأسرة في ممارسة القتل على أفراد أسرته. يقول إنغلز، “كلمة العائلة أو family المعروفة الآن مشتقة من كلمة famulus عند الرومان وتعني مجموعة العبيد المملوكة لفرد معين، وحتى في أيام المشرع جايوس كانت كلمة familia تعني الميراث، الذي ينتقل بوصية، وفي ظل السلطة الأبوية عند الرومان كان لرب الأسرة سلطة الحياة والموت على جميع من تحت إمرته”.


فرح أو “فتاة الاسكندرية” عند عودتها الى عائلتها


بلا  صوت

حينما احتضن والديّ فرح ابنتهما التي أعادتها ا لشرطة اليهما، لم ترفع الابنة المستقلة حديثاً يديها لاحتضانهما. كانت ذراعاها مسدولتين بلا إرادة كعروس قطنية، تترك نفسها بالكامل للدور الذي حاولت الفرار منه ولم تنجح، بلا حركة أو مشاعر وإرادة، وبلا صوت، ومرحلة “البلا صوت” هذه، مرحلة مشتركة بين اللواتي حاولن الاستقلال في مصر. تتحول الواحدة منا بعد أن تدرك أن مراحل النقاش والشجار والبكاء الهستيري ستنقلها حتماً إلى مرحلة البكم الإرادي، مرحلة الهزيمة المخاتلة والمخادعة، الصمت شهوراً، و الانشغال بتفاصيل يدوية أو فكرية في مرحلة الانسحاب الطوعية التي ترتبط عادة بقلة الأكل والنحافة. ويظن الأهل وقتها أن ابنتهم صارت عجينة طيعة حتى يأتي الانفجار الكبير على أسباب تبدو شكلية تافهة.

 أذكر رواية صديقتي عن مرحلة الصمت الطوعي وانشغالها بالعناية بست قطط في غرفتها المغلقة في منزل أهلها لشهور، لا تحكي ولا تنطق، بعدما تعرضت لكل صنوف التنكيل من أهلها المتشددين دينياً، حتى قرروا قطع آخر شعرة باختطاف قططها وإلقاءها في الخرابات البعيدة. تقول صديقتي: “لا أحكي لغيرك أنني تركت المنزل وبدأت مرحلة استقلاليتي بعدما انتزعوا قططي الست، ليس هذا سبباً تافهاً كي أهرب إلى الأبد، لم يكن السبب أصلاً، لكنهم لم يتركوا لي حتى مساحة للهروب داخل غرفتي بالصمت والعناية بكائنات ألطف من البشر، بعدما نكلوا بي بالضرب والحبس والسباب المتوالي، فهربت بلا أدنى إحساس بالذنب أو التذكر، وقتها بدأت ولادتي الجديدة بالاستقلالية”.

كنت أعلم أنها مرحلة موقتة، لكن العمل كان شاقاً ومهيناً، كنت أنفق كل الشحم المخزون في جسدي كأول ضريبة للاستقلالية، كنت أفقد وزناً هائلاً يوماً بعد آخر. وعلى رغم ذلك كنت متخففة.

أتقاسم مع صديقاتي المستقلات في مصر المشاهد المشتركة والمتطابقة أحياناً، ولا يأتي تطابقها أو ترتيبها من باب المصادفة. حينما نجتمع لمشاركة التجارب والقصص نضحك من درجة التشابه في رواياتنا، التهديدات بالقتل، توقيت انتزاع الحجاب، تأجيل نزعه في بدايات الاستقلالية. هناك نساء اضطررن إلى ملازمة ارتدائه بعد استقلالهن، بسبب قيام الأهل  بحلق شعر بناتهنّ على “الزيرو”، قبل رحيلهن بأيام، أغلبهن عشن صراعات قلقة في التعامل مع الجسد الذي ظل مملوكاً للأسرة كلها، وهيمنتها الكاملة على أجسادهن باعتبارها “مقدسة” و”سرية” و”محرمة”.

نجمع جميعاً نحن المستقلات على سؤال لا نملك له إجابة محددة، لماذا استقلالنا كبنات يواجَه بالقتل والتهديد والتبرؤ من بنوّتنا واتهامنا بالتفلت الأخلاقي، بينما ليس الأمر هكذا في التعامل مع أشقائنا؟ هل لأننا نملك أغشية بكارة لعينة فقط؟ 

انشغل بيار بورويو في تفسير هذه الحالة في تحميس العائلات على انفصال الذكور دون النساء، يتحدّث في كتابه “الهيمنة الذكورية”، بالاستعانة بكتاب the reproduction لـN. J chodorow، عن ما يسمى بطقوس “الانفصال” التي تحتفظ بوظيفة تحرير الصبي من العلاقة مع أمه، وتأمين تذكيره التدريجي من خلال حثه وتحضيره لمواجهة العالم الخارجي. ويكشف التقصي الإنثروبولوجي في الواقع، أن العمل النفسي الذي على الصبية أن يتمّموه بغية انتزاعهم عن شبه التوحد الأصيل مع الأم وتأكيد هويتهم الجنسية الخاصة بهم، إنما يصحبه عمداً وعلناً، وحتى أنه ينظم من قبل المجموعة التي تشجع في كل السلسلة من طقوس التنصيب الموجهة نحو الترجيل وبشكل عام ضمن كل الممارسات المغايرة للوجود العادي “صيد، رياضيات، ألعاب رجولية”، على القطيعة مع العالم الأمومي، حيث الفتيات معفيات (ولتعاستهن مثل “أبناء الأرملة”)، الأمر الذي يسمح لهن بالعيش في ضرب من الاستمرارية مع أمهاتهن”.

الحشد الجماعي الذي شهدته ساحات التظاهر رفضاً للقمع السياسي يقابله ويلامسه داخل الفتيات في مصر، رفضاً للقمع الاجتماعي الشرس عليهن

فالمجتمع الذكوري وفق بورديو يعفي الفتيات من الاستقلال منذ قرون مديدة، وتبدو محاولات الفتيات، لكسر حالة الإعفاء هذه، نوعاً من التمرد على التاريخ والقواعد الراسخة بشراسة والخروج من العائلة، وتليين الروابط الحازمة ومحاولة فك الأحزمة المربوطة حول أجساد الفتيات، وذلك كله لن يكون سوى معركة دموية قد تدفع المستقلات حياتهن ثمناً لها، “وإلا تبقى النساء محبوسات في نوع من سور غير مرئي (النقاب منه ليس إلا ظاهرة مرئية)، هذا النوع من الحبس الرمزي إنما يتضمن ثيابهن عملياً، والتي لها مفعول التذكير المستمر بالنظام”.

تشبّه التنظيرات الاجتماعية العائلة بــ”معسكر الاعتقال المريح”، وهو المصطلح الذي أطلقته الكاتبة بيتي فريدان في كتابها “اللغز الأنثوي”، لكن للمفارقة أن العائلة في مصر باتت معسكر اعتقال وتعذيب وبالطبع غير مريح، تقول إن أسر العائلة كمعسكر اعتقال مريح يخلق من الفتيات شخصيات مأسورة من الخيال الطفولي والسلبية، إذ تعاني الأم مثلها مثل فتياتها، فالأم مأسورة أيضاً من مشاعر الذنب والخوف الزائد والصورة النمطية المثالية والخوف من أي تقييم سلبي لأبنائها سواء من المدرسة أو المجتمع، وهو ما كان واضحاً في الأربعينات. كانت النساء من دون اهتمامات جدية خارج البيت، ومع جعل العمل المنزلي روتينياً، أصبحن قادرات على تكريس أنفسهن لعبادة الطفل كنوع من التكافل، وهذا التكافل مدمر لأنه يحتجز تطور الفتيات عند مستوى طفولي تنقصهن فيه الهوية الشخصية مع ضعف أكيد في الجوهر الذاتي، وهذا ما يجعل الفتيات أسوأ الضحايا إضافة إلى أنهن “ناقلات عدوى” التجريد المتزايد لأبنائهن من الإنسانية”.

لذلك ليس غريباً أن ترتبط معدلات تزايد خروج فتيات عن عائلاتهن والعيش باستقلالية في مصر مع ثورة يناير وما بعدها، فهذا الحشد الجماعي الذي شهدته ساحات التظاهر رفضاً للقمع السياسي يقابله ويلامسه داخل الفتيات في مصر، رفضاً للقمع الاجتماعي الشرس عليهن، فرؤية فتيات من عائلات أقل تشدداً يقدن تظاهرات حاشدة، كان أبلغ صدمة لجيل كامل من الفتيات حتى وإن واجهت سلطات مضادة حضور الجسد الأنثوي في المجال العام بهذه القوة، إلا أن ثورة النساء التي اشتبكت مع ثورة المصريين كانت ناجزة في الوعي وعززتها وسائل التواصل الاجتماعي التي سمحت بوصول تجارب المستقلات إلى فتيات داخل معسكرات الاعتقال المريحة.

والدا فرح لن يستطيعا مواجهة موجة الاستقلالية بإبلاغ الشرطة ولا بالأحضان الزائفة، بل بفك الأغلال والتفهم والسماح الطوعي أو غير الطوعي لفتح مجرى لانفصال الفتيات بأقل قدر من الخوف. لن أنسى ما فعلته تجربتي وتجربة مستقلات كثيرات في وعي عمي الريفي حينَ سألته ابنته وهو ينظر إليّ بتقدير غريب، هل ستسمح لي بنزع الحجاب وبناء مستقبلي مثلما فعلت ابنة عمي إيمان؟ فقال، “إذا كنت ستصبحين نسخة عنها سأوافق وأنا أشك في ذلك”. أجابت: “هكون زيها لكن مش نسخة منها وأفضل منها كمان”.

 تبدو ابنه عمي مثل فرح تشبهني ولن تهدأ حتى تصبح هي وجيلها “أحسن مننا كمان”.