fbpx

“الكاريكاتير” في مواجهة الممنوع والمقدس من نابليون إلى النبي محمد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

غالباً ما يترافق تحريم التفكير بالمقدس وتجريم الفكر النقدي، مع انتشار العنف والجريمة. والمنظومات الدينية والأنظمة الفكرية التي تعجز عن مجابهة الفن إلا بالقمع والمنع، فهي تعيش مرحلة أفول وجدب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

من هنا، لا بد من إعادة الاعتبار إلى السخرية، التي تبدو في تاريخ الفن تقنية أساسية تدفع العقل إلى التفكير والمساءلة، وبالتالي إلى الوعي والاختيار. ومن هذه الفنون النقدية فن الرسم الساخر أو “الكاريكاتير”، الذي لطالما اصطدم عبر التاريخ مع الأنظمة الدينية والسياسية والثقافية التي عجزت عن فهم الدور الأساسي الذي يلعبه هذا الفن في الفكر الإنساني.

هنا، لمحة عن بعض المسار التاريخي للرسوم الساخرة.

السخرية سمة الحضارة الإنسانية

في كتابه عن فن الرسم الساخر يذكر المؤلف ممدوح حمادة أن الكاريكاتير كفن مستقل تبلور بشكل تقريبي في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل التاسع عشر وبشكل أساسي في بلدان أوروبا، على القاعدة الفنية لعصر النهضة الأوروبية. ولكن الكاريكاتير كفن مركب من عنصري التشكيل والكوميديا أو السخرية، له جذوره القديمة الضاربة في أعماق التاريخ، ويمكن العثور على الرسوم الكوميدية في آثار تعود إلى حضارات ما قبل التاريخ وفنونه، حين كان الإنسان يرسم على جدران الكهوف، وينقش على الصخور أشكال الحيوانات المحيطة به وسلوكياته الجمعية. وقد عثر على الكثير من الرسوم التي تحتوي على عناصر الكوميديا والسخرية على جدران الكهوف في فرنسا وإيطاليا وأميركا الجنوبية والجزيرة العربية والصحراء الجزائرية وقبرص وفي الكثير من الأمكنة الأخرى.


حضرت الأقنعة في معظم الحضارات الإنسانية، وحملت في طريقة صناعتها عنصر السخرية أو الكوميديا


رسوم جنسية على جدران الكهوف الأولى

 ارتبطت رسوم السخرية العائدة إلى الحضارات القديمة بالكثير من الرموز الجنسية، ويبدو أن المبالغات الأولى، أو بدايات أسلوب الرسم الساخر، تجسدت بشكل أساسي عبر رسم أعضاء تناسلية ضخمة. ففي منطقة الجرف الصخري (وادي الجرات) عثر على مجموعة كبيرة من الرسوم الجنسية ذات الطابع الساخر، وهي الرسوم الأكثر فحشاً التي عثر عليها وتعود إلى حضارات ما قبل التاريخ. وكذلك في الصحراء الجزائرية في منطقة تيسوقاي نافيلا، وُجد رسم لمخلوق غريب بأحجام أعضاء تناسلية مضخمة.

 ويرصد المختصون الأقنعة كواحدة من العلامات التشكيلية التي حملت عنصر السخرية. حضرت الأقنعة في معظم الحضارات الإنسانية، وحملت في طريقة صناعتها عنصر السخرية أو الكوميديا.  ومن الأقنعة الساخرة القناع الجلدي، (200-700 ق.م) وهو قناع ساخر من الأقنعة التابعة للحضارة التلينبكية في القارة الأميركية القديمة.

السخرية في التماثيل والجداريات عند الفراعنة والإغريق

لعل الحضارة الفرعونية هي الحضارة الأغنى والأكثر تطوراً في مجال الرسم الساخر، إذ تمتاز عن الحضارات الأخرى، بأن رسومها تستمد مواضيعها من الحياة وليس من الأسطورة وتضفي عليها طابعاً فلسفياً، فلا تكتفي بالفكاهة فقط، وإنما ترمز إلى أمور أخرى. 

في متحف تورنتو في إيطاليا رسم يصور أسداً وتيساً يلعبان لعبة تشبه الشطرنج. يمكن العثور على عناصر المبالغة والسخرية أيضاً في الكثير من التماثيل والمنحوتات الجدارية الإغريقية القديمة، وبطل هذه المنحوتات أيضاً كان في معظم الأحيان الإله ديونيس والمخلوقات المرافقة له، فيما تصوّر منحوتات أخرى أعياداً وأحداثا متعلقة به. ومعظم هذه المنحوتات كانت تلجأ إلى إظهار المبالغة بشكل خاص في تصوير الأعضاء التناسلية، ومن هذه المنحوتات، التمثال الذي يمجد الإله ديونيس، والذي يصور عضواً جنسياً ذكرياً ضخماً على قاعدة حجرية نحت عليها جسم رجل.

 السخرية في المسرح والأدب

مع نشأة المسرح، تحول الفن المسرحي إلى الحامل الأساسي للواء الفن الساخر، فعلى مستوى الأنواع المسرحية ظهرت مباشرةً الكوميديا، واستعملت الأقنعة، وابتكرت شخصية المهرج التي عرفتها معظم الحضارات. كل ذلك اجتمع في كوميديا ديلارتي الإيطالية الذي اعتبرت عروضاً ساخرة هزلية سادت في كامل أوروبا في تلك الفترة، وحملت معها تغيراً في تصاميم الديكورات المسرحية، التي انتقلت من الرصانة إلى الهزل. 

ومن تلك الفترة بإمكاننا العثور في الرسوم الشعبية الروسية، على رسم يجسد القيصر ككائن يمشي على أربعة أرجل، برأس إنسان وجسد قطة. وتجسدت المبالغات كأسلوب فني متجل بوضوح مع ليوناردو دافنشي. وتميز فنانون ملهمون كثر بأعمالهم الهجائية، الساخرة، أو تلك التي تغوص في التشوه الداخلي للإنسان، نذكر منهم: جيروم بوش، الفلمنكي بريغل، بيير لونيه غيتسي، وجاك كالو. لكن حتى هذه التجارب لم تكن السخرية تتجاوز حدود الهزل والمبالغة، من دون أن تصل إلى ميزة النقد.

رسم ساخر من حقبة القرن الثامن عشر يتناول نابليون

الكاريكاتير: السخرية + النقد

الرسام الإنكليزي ويليام هوغارت هو أول من استعمل الرسم الساخر بهدف النقد كما نعرفه اليوم بمضمون فن الكاريكاتير. وظف اللوحة الساخرة في موضوعات محددة، في الغالب هي قضايا اجتماعية، مثل مجموعته الأولى “مهنة الدعارة”، والمجموعة الثانية “مهنة التبذير”، أما الثالثة فكانت ذات طابع سياسي بعنوان “الانتخابات”. ومن بعده، برزت حفريات الفنان الإسباني فرانشيسكو غويا، التي جسدت المجتمع الجشع والنهم والقبيح بطريقة نقدية لتكون الأشهر من كل ما ذكرنا سابقاً. أصبح الكاريكاتير في القرن الثامن عشر فناً مستقلاً على يد مجموعة من الفنانين الإنكليز: توامس رولاندسون بمجموعة رسوماته “حراس النظام”، ومجموعة أخرى بعنوان “بإمكان الجميع أن يصبحوا ضباطاً”. ومنهم أيضاً جيمس غيلري، جون نيكسون، كروكشانك. أما الفرنسيون فكانوا أول من استخدم السياسة كموضوع مباشر للكاريكاتير. ومع ظهور الصحف في بداية القرن التاسع عشر تميز عدد كبير من فناني الكاريكاتير الفرنسيين، ترافيس، غافارني، غرانفيل، دوريه، ودومييه، والأخير هو الذي سخر من شخصيات سياسية كالملك لويس فيليب، ضمن مجموعة رسوم عنوانها “الكرش التشريعي”. وانتقد الرسام غرانفيل حياة الطبقة البرجوازية بموضوعاته. وفي تلك الفترة أسس شارل فيليبون مجلة “الكاريكاتير”، التي عمل فيها معظم الرسامين المذكورين آنفاً، ثم أسس مجلة “شاريفاري”، التي كرسها للسخرية من النظام الملكي مع رسامين مثل دومييه، ودوريه.

وفي روسيا يمكن التنويه إلى عدد من الفنانين مثل أسكندر أرلوفسكي، وألكسندر فينتسيانوف، وفي ألمانيا، غينريخ تسيلي، مع مجلة “ايلنشبيغل”. أما في الولايات المتحدة نذكر من بين التجارب “أسبوعية هاربر”، التي شنت حملات ساخرة على محافظ نيويورك في حينها. وهكذا دخل الكاريكاتير القرن العشرين فناً متجذراً بين الجمهور، له شعبية واسعة مستقطباً الكثير من المواهب والفنانين. 

أتاحت التقنيات الآتية من عالم الطباعة والحفر، وكليشيهات المطابع، المجال واسعاً لانتشار الرسوم وأعمال الفنانين. كان شارل فيليبون أبرز من افتتح الصحف الخاصة بفن الكاريكاتير، وهي: “الكاريكاتير”، 1830، “الصرخة”، 1932، “شاريفاي، 1933. أما في بريطانيا، فكانت صحيفة “البقدونس”، 1841، وفي ألمانيا كانت المصورة الساخرة “القصاصات الطائرة”، 1844. في الولايات المتحدة كانت “أسبوعية هاربر”، 1857. 

فن الكاريكاتير في الصراعات السياسية عبر التاريخ 

مارتن لوثر

استعمل الكاريكاتير كسلاح سياسي، في فترة الإصلاحات الدينية التي قادها مارتن لوثر ضد الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان. كان عمل على تكريس السخرية كسلاح في هذا الصراع، فقال: “يجب أن نرسم القساوسة والخوارنة على جميع الجدران، وحتى على أوراق اللعب، بشكل يجعل الناس يشعرون بالقرف عندما ينظرون إليهم، أو يسمعون عنهم”، ولعل أشهر الرسوم في تلك الفترة، هو الرسم الذي يصور البابا على عرش الفاتيكان، على هيئة حمار، وكذلك سلسلة الألماني لوكاس كراناخ بعنوان “الدجال وانفعالات المسيح”. 

ومن الأحداث التاريخية الأساسية التي حضر فيها فن الكاريكاتير بقوة: الثورة الهولندية البرجوازية (1599-1609)، وهي أول ثورة برجوازية في التاريخ، إذ قام الرسامون بالسخرية من قادة الجيش والبلاط الإسباني. ومن بعدها عقب أحداث كومونة باريس، 1861، صدرت صحف ساخرة، منها: “الكاريكاتير السياسي”، “المنشار”، “السهم”. ولعب فن الكاريكاتير دوراً مهماً في الحرب الأهلية الروسية، 1917)، والحرب الأهلية الإسبانية، 1936.

 شخصيات تاريخية أحبها فن الكاريكاتير

أول بطل من دون منازع للرسوم الكاريكاتورية هو نابليون بونابرت، الذي هاجمه معظم رسامي أوروبا، منهم الإنكليزي غيلري، والروسيان أرلوفسكي وشيفلار. وتالياً في التاريخ كان حفيده نابليون الثالث موضع سخرية في رسوم كثيرة، حتى ظهر أدولف هتلر، من أكثر الشخصيات التاريخية تناولاً من قبل فناني الكاريكاتير. لقد صرح هتلر أنه بعد احتلال موسكو سيقوم بشنق ستالين ومن بعده “الكوكرينيسكيون”، وهي جماعة من 30 فناناً من رسامي الكاريكاتير، منهم أوبريانوف وكريلوف وسوكولوف. وهكذا عبر التاريخ اتسم دور فنان الكاريكاتير بمواجهة السلطات السائدة الثقافية والسياسية، ما يعرض مصيره للخطر. فبينما كانت أوروبا غارقة في الخوف والصمت من تعاظم النازية الألمانية، أثبت شارلي شابلن أن المهرج الهزلي والبهلوان هو القادر على السخرية من الديكتاتور. عربياً، اغتيل الفنان الفلسطيني ناجي العلي عام 1987 في بيروت وهو من أشهر فناني الكاريكاتير العرب وأكثرهم تأثيراً في انتقاد السلطات العربية والإسرائيلية.

في فيلمها “كأننا نقبض على كوبرا” تتابع المخرجة هالة العبد الله مصير فن الكاريكاتير في فترة الربيع العربي. فعام 2011، ومع بدء الاحتجاجات الشعبية في سوريا، يكون الفنان علي فرزات أول الفنانين الذين يتعرضون للخطف والاعتداء وتحطيم الأصابع، يقول فرزات: “تمكن السخرية من الرقيب، خصوصاً أنه عاجز عن اكتشاف المعنى. فالرسم الساخر يلمح من دون تأكيد، مثال رسمتي بعنوان (الجنرال) رسمتها بالأصل للقذافي، لكن الكثير من الرؤساء العرب اعتقدوها ضدهم، الرئيس السوري، وزير الدفاع السوري السابق، صدام حسين وغيرهم”.

تقول الروائية سمر يزبك المشاركة في الفيلم: “على مدى 40 عاماً كانت الرقابة شديدة، تسعى إلى إلغاء كل خصوصية عند المبدع الكاتب أو الرسام. كان الكاريكاتير محصوراً لخدمة الشعارات العقائدية، والديماغوجية، ينشر في الصفحة الأخيرة من الجرائد المراقبة بشدة. تتعدد أشكال الرقابة في العالم العربي، لكنها تتماثل في خوفها من الخيال. تلجأ السلطات إلى قمع الخيال، لأن الخيال يقوض الأنظمة، والتخيل هو بداية انهيار الأنظمة المفروضة”، بينما يقول علي فرزات: “أشبه مهنة رسم الكاريكاتير في عالمنا العربي بالإمساك بالكوبرا، رسام الكاريكاتير يدفع إلى الضحك الأسود، لكن يمشي بمخاطر التهلكة”. بينما يقول الرسام وليد طاهر: “الصحافة مجرد أداة من أدوات السلطة. ومع ذلك علينا السعي المستمر إلى التغيير عبر الفنون، الرسم، المسرح، الموسيقى”.

 ويتابع الرسام وائل طاهر في شهادته عن التغيير الذي حدث في فن الكاريكاتير المصري بعد سقوط نظام حسني مبارك: “تغيير السلطة في مصر وسقوط مبارك. فرق كبير في إحساس الرسم. رسمنا عن الفرحة بالحرية. الفرحة بمشاركة الثورة. الكاريكاتير يجعلنا مؤثرين في الشارع”، أما الرسام مخلوف فروى عن تلك الفترة: “قررت الصحف التوقف عن نشر الكاريكاتير بينما تتبين ما الذي سيؤول إليه حال السلطة، فرسمنا في الميدان، قبل الثورة كانت المحرمات تتعلق بنظام مبارك، الآن يصعب انتقاد المجلس العسكري”، كذلك يبين رسامو الكاريكاتير أن حرباً إلكترونية تقوم منذ سنوات بينهم وبين حركة الإخوان المسلمين والحركات السلفية.

الكاريكاتير لإدانة التحرش الجنسي 

كذلك نتعرف في الفيلم إلى تجربة دعاء العبدول أول رسامة كاريكاتير مصرية. واجهت صعوبات كثيرة بسبب التمييز الجنسي، إلا أنها أثبتت إصرارها واستمراريتها، فنشرت في “الدستور” و”صباح الخير”. تقول دعاء: “الأصعب للفنان هو تجاوز الرقيب الداخلي. وقد عالجت في رسوماتي موضوعة التحرش الجنسي التي كان المجتمع يرفض الاعتراف بها، أو يقابلها باستخفاف وتجاهل، أما الآن، وبتوظيف الرسوم لم يعد بالإمكان التغاضي عنها”. كما يطالعنا الفيلم على تجربة كل من الرسام السوري حازم الحموي والرسام المصري البارز محي الدين اللباد في الأسابيع الأخيرة من حياته. 

بعد ثورات الربيع العربي، نشطت رسوم الكاريكاتير العربي، وخصصت مجلة Courier International، عدداً خاصاً عن كاريكاتير سقوط الأنظمة. ضمت رسوماً للرئيس التونسي زين العابدي بن علي وحيداً في القصر، هارباً يحمل بقجة، بينما حسني مبارك يطير عن الكرسي. الإسباني غواويدا رسم مكنسة ضخمة تكنس الرأس الضخم لبن علي. وشارك إيك من جريدة “الوطن” الجزائرية برسم عن سقوط تماثيل بن علي كما حال تمثال صدام حسين، أما كليز فجعل تماثيل الرؤساء، بن علي، القذافي، مبارك، تتهاوى على طريقة تراتبية الدومينو. كانت الأكثر تميّزاً في العدد رسمة الإيرلندي أوتوم التي تظهر شخصيات مجموعة من الرؤساء العرب مثل مصر، سوريا، ليبيا، الجزائر، ومجموعة من الملوك في المغرب والسعودية… أمام زهرة مثمرة نبتت من أرض الصحراء في إشارة إلى الربيع العربي، ونقرأهم يقولون: “لا محل لهذه الوردة في صحرائنا”.

في سوريا، برزت رسوم أكرم رسلان المحملة بالنقد لسلطة الفرد، والتي بلغت 300 رسم، لكنه اعتقل من مقر صحيفته “الفداء” ولفظ أنفاسه الأخيرة تحت التعذيب في العام نفسه، وهو في 39 من عمره. وركزت رسوم سعد حاجو على السلطة العسكرية، ورسوم هاني عباس على موضوعة اللاجئين، وتميز أسلوب جوان زيرو بالسلاسل الحكائية، فابتكر شخصية الملك الذي تاجه أكبر من رأسه. وفي مشروع لوحات وفنون كفرنبل، تلمع رسوم أحمد جلل.

السخرية ناقدة المقدس

عام 2005، نشرت صحيفة دنماركية 12 رسماً كاريكاتورياً عن شخصية النبي محمد، لتتابع نشرها صحيفة نرويجية، وأخرى فرنسية وألمانية، ما أشعل موجة احتجاجات شعبية عارمة وعنيفة. في دمشق وفي بيروت أحرقت سفارتا النرويج والدنمارك، واستمرت تبعات الحدث على المستوى الشعبي والدولي حتى عام 2008. يقول الرسام الدنماركي في الفيلم: “نحن لا نخاف. ونريد أن نهاجم الإرهابين بأفكارهم”. تعرض الرسامون للتهديدات بالقتل ما أجبرهم على التخفي.

لا يتوقف تاريخ الفن عن نقد المقدس، وتبرز في هذا المجال مقاربة ساخرة لقصة النبي موسى، هي فقدانه بعض الألواح من تشريعات الوصايا العشر، وتحطمها على الطريق. وفي رواية “الإغواء الأخير للمسيح”، 1955، نيكوس كازانتزاكس، تتسم شخصية المسيح بطابع مختلف، فيصبح أكثر جسدية وأكثر تفهماً للخطايا الإنسانية، فأدينت الرواية من قبل الكنيسة المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية، وأخرجها مارتن سكورسيزي في فيلم بالعنوان ذاته عام 1988. وفي فيلم “المسيح سوبر ستار”، 1970، يقدم الفيلم الموسيقي شخصية المسيح المتمردة والمنتمية إلى ثقافة الروك. والنسخة الأكثر نقدية وسخرية التي تتناول حياة المسيح، كانت فيلم “حياة برايان”، 1979)، لفرقة “مونتي بايثن” البريطانية، الذي يصوّر المسيح محاولاً التهرب من دوره الرسولي رافضاً قيادة الجموع، لكن أتباعه ما يلبثون أن يجبروه على الحكمة والقداسة. 

أما عام 1989، فأصدر الروائي سلمان رشدي روايته “آيات شيطانية”، 1988، التي تدمج بين الفانتازيا والسخرية من المقدس، في الديانتين البوذية والإسلامية. جوبهت الرواية برد فعل عنيف، وأصدر الإمام الخميني فتوى بهدر دم المؤلف الذي اضطر للهرب إلى بريطانيا، وقتل المترجم الياباني للرواية، والمترجم الإيطالي، وأضرمت النيران في فندق في تركيا لإيذاء المترجم عزيز نيسن، ما أدى إلى وفاة 37 ضحية في تلك الحادثة. لكن الأحداث الأكثر دموية كانت مع الهجوم على صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية الساخرة عام 2015، الذي خلف 20 قتيلاً، من بينهم 12 عضواً وفناناً من طاقم الصحيفة، إضافة إلى عشرات الجرحى. 

وراهناً، أخذت الرسوم الساخرة منعطفاً دموياً آخر مع ذبح مدرّس التاريخ الفرنسي صامويل باتي الذي عرض رسوم “شارلي إيبدو” خلال حصة عن حرية التعبير،  ما فتح الباب مجدداً أمام جدل لن يطوى سريعاً حول حرية التعبير ونقد المقدس.