fbpx

الإثيوبيون في عدن: هربوا من الفقر إلى التشرد والحصار

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“أوضاعهم مأساوية، وجائحة كورونا ضاعفت الأعباء التي كانت موجودة أساساً، يفتقرون إلى الأكل والشرب والمياه النظيفة والصحة، ولا غرابة فاليمن يعيش حرباً منذ عام 2015 أثرت في المواطنين أنفسهم فما بالك بالمهاجرين”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

آلاف المهاجرين الإثيوبيين تقطّعت بهم السبل في اليمن، وهم بحاجة إلى المساعدة الإنسانية، تقول منظّمات إغاثة أممية. وكأن اليمن بات ملتقى الوجع الإنساني للشعوب، وكأن معاناة شعبه وحده لا تكفي، ضم إليه شعوب الجوار، ليقتسم الجميع المآسي التي خلفتها الحرب وضاعفها الوباء. 

الخيمة الأولى

فوق أحد الأرصفة في حي الشيخ عثمان في مدينة عدن جنوب اليمن، تنتصب خيمة كالقبة. مصنوعة من البلاستيك الأزرق، شُدّت أطرافها إلى جذوع الشجر والقضبان الحديدية لسور خلفي. يحيط بها أشخاص من جنسية أفريقية، قررنا الدخول، حدّقت بنا الأعين مستطلعة، تحاول تخمين سبب الزيارة المفاجئة، بدا المنظر من الداخل كئيباً، فراش مهترئ تجلس فوقه فتيات في مقتبل العمر، أكوام من الملابس الرثّة. فراش آخر في الركن يرقد عليه شخص ملتف بغطاء، قدّرنا أنه مريض.

لم يكن التحاور سهلاً، فلا أحد منهم يتكلم العربية ولا الإنكليزية، حاولنا التفاهم بالإشارة وبكلمات متناثرة. تقدّم شابان، يحيى بنظرات متشكّكة وابتسامة ساخرة، في حين بدا حجازي أكثر هدوءاً يعلوه طابع الحزن. عملا في السعودية لسنوات. فكانا يتكلّمان العربية جيداً. فهمنا منهما أنهما من إقليم “التيغراي” في إثيوبيا. وصلا إلى عدن قبل أشهر، والوجهة كانت السعودية لكنهما علقا في اليمن بسبب جائحة “كورونا” وما تبعها من إجراءات غلق الحدود بين الدول. تكلّما بحذر وبعبارات متقطعة عن المهربين وعن الحوثيين وعن سجون في صعدة وصنعاء، وعن طلب مبالغ مالية مقابل الإفراج عنهما. لم يكن حاجز اللغة وحده الذي منع التواصل. بل الخوف أيضاً من الحديث مع غرباء، استقر الرأي على أن نجد شخصاً يتكلم لغتهما، ليطمئنهما، ويشرح لنا ما صعب علينا فهمه من حكايتهما، فكان أن تعرّفنا إلى إمام. 

من مهاجر إلى موظف أممي

كان الهدف أن نجد شخصاً يكون الصلة بيننا وبينهم، حين وجدناه علمنا أنه لم يكن مترجماً وحسب، وأن له حكاية هو أيضا. 

إمام علي (31 سنة) من إقليم أوروميا-أكبر أقاليم إثيوبيا- عمل هناك في تدريس اللغة الإنكليزية ثم التحق بالجيش برتبة “كونستابل”. وعام 2014 غادر بلاده. “لم يكن الراتب يكفي، تركت بلدي كي أساعد أبي وأمي”. دخل إمام اليمن من طريق الصومال مع مهربين إثيوبيين، كلفه الأمر 700 دولار. وفي قارب صغير حمل 130 شخصاً. انطلق في رحلة استغرقت 40 ساعة. “كنا نحمل بعض الأطعمة الخفيفة، نفدت في الساعات الأولى. وبقينا أكثر من 30 ساعة بلا ماء أو طعام”. وصلوا إلى الحدود البحرية في منطقة لم يستطع إمام تحديدها، ثم انتقل بالسيارة إلى صنعاء. كان ذلك في أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2014. أقام مع جماعة من الإثيوبيين المهاجرين. ومع اندلاع الحرب في 2015 اضطر إلى مغادرة  اليمن. “اتفقت مع مهرّبين للوصول إلى السعودية حيث تقيم أختي. دخلوا المنطقة الحدودية بالمشي فوق الجبال. كان عددنا يقارب 100 شخص، مات كثيرون بسبب الجوع والعطش”. يحكي إمام أنه مشى أربعة أيام، ثم أعياه الإنهاك ولم تعد قدماه تحملانه، فطلب من رفاقه أن يكملوا السير من دونه. “ذهبوا، وبقيت وحدي فوق الجبل، أكملت السير ببطء، شاهدت منزلاً يملكه راعي أغنام، رويت له حكايتي وطلبت منه أن يعطيني عملاً ومكاناً أنام فيه، وافق وعملت في رعي الغنم ما يقارب الشهر”. قرر إمام أن ينتقل إلى داخل الأراضي السعودية، اتفق مع مهرّب سعودي طلب 600 دولار. “حين اقتربنا من وجهتنا اتصلت بأختي كي تحوّل لي المبلغ. لم تكن تملك هاتفاً، فاتصلت بجوال كفيلها، لكنه كان مغلقاً”. لم يستطع إمام دفع المبلغ فقرر المهرب معاقبته.

“أدخلني إلى غرفة وأقفل علي، على مدى أيام تعرضت للضرب بعصا حديدية، كلمت أخي في إثيوبيا فأرسل المبلغ”. أطلق سراحه بعد استلام المال، بعدها صار يتنقل بين المدن والوظائف. عمل نادلاً، وسائقاً، وعاملاً في مطعم. كان هذا عام 2019، ولأنه لم يكن يقيم في البلد بصورة قانونية، ألقت السلطات السعودية القبض عليه وأعادته إلى إثيوبيا.

“لم يكن الراتب يكفي، تركت بلدي كي أساعد أبي وأمي”.

البحر مرة أخرى

مع مطلع عام 2020 ركب البحر مرة أخرى. لم تختلف الرحلة عن التي سبقت، عشرات الساعات في قارب صغير بلا ماء ولا طعام، ركاب يصابون بالهلع لرؤية البحر الممتد أمامهم بلا نهاية، لكنهم لا يملكون رفاهية الانهيار، فقد خصص ربّان السفينة لكل راكب حيزاً ضيقاً للجلوس فيه، ومن يفكر في التحرك من مكانه يتعرض للضرب. “أنا طويل القامة كما ترين، وأحتاج إلى مساحة أكبر، وفي كل مرة كنت أتحرك فيها كنت أتعرض للضرب”.  تعرّض إمام للضرب من قبل المهربين، ولإطلاق النار من قبل الشرطة على الحدود، رأى قبوراً تحوي جثث المهاجرين الذين ماتوا في الطريق. اختبر الجوع والعطش والبقاء أسابيع بلا استحمام، يهز رأسه بقوة وكأنه يطرد الصور التي تزاحمت في مخيلته. “أحتاج أن أنسى تلك المرحلة المريعة”. وصل إمام إلى عدن قبيل الغروب. أمضى ليلته في عمارة تحت الإنشاء. جد في البحث عن عمل، لكن الحياة كانت متوقفة بسبب “كورونا”. “دخلت مسجداً. كان المؤذن رجلاً طيباً. أخبرته قصتي فصار يأخذني معه لتناول الطعام كل يوم، ومع بدء شهر رمضان صرت أنام في المسجد”. ولأنه يجيد اللغة العربية، لجأ إليه مهاجرون وطلبوا أن يرافقهم إلى المنظمة الدولية للهجرة لمساعدتهم في الحديث مع المسؤولين هناك. “90 في المئة من الإثيوبيين المهاجرين ينحدرون من القرى، يفتقرون إلى التعليم وفي حاجة إلى الإرشاد. رافقتهم. وفي المنظمة شاهدوني أتكلم بالعربية والإنكليزية فعرضوا علي العمل معهم”، أخبرنا أيضاً أنه يتكلم اللغة الأمهرية التي تعد اللغة المشتركة بين القوميات الثلاث الأبرز في إثيوبيا (الأورومو تليها الأمهرة وأخيرا التيغراي). بعدها غادرنا برفقة إمام صوب إحدى خيم التيغراي.  

الخيمة الثانية

يقف عند مدخل خيمته، يداه معقودتان فوق صدره، أشاح برأسه المكلل بشعر أبيض وكأنه يرفض الحديث معنا، تركنا المهمة لإمام، أخبرنا أن اسمه أبرهة (56 سنة) لم تختلف قصته كثيراً عن التي سمعناها في الخيمة الأولى ولا التي سمعناها من إمام. خرج من التيغراي مع مهربين إثيوبيين، الوجهة كانت السعودية التي أقفلت حدودها بسبب جائحة “كورونا”. مشوا إلى صعدة، وهناك ألقى الحوثيون القبض عليهم، وطلبوا مبلغ 250 دولاراً، لإخلاء سبيلهم. ومن يمتنع عن الدفع فمصيره الضرب. سألناهم: “بماذا يضربونكم”، تعالت الأصوات: “بكل شيء، عصي حديد، كهرباء”. “وهل ضربوك؟”، سألنا أبرهة، أجاب: “لا، لأني دفعت لهم المبلغ الذي طلبوه”. تدخل برهاني (30 سنة) في الحديث: “أنا ضربوني، لأسبوع تعرضت للضرب كل يوم بالعصي. إلى أن دفعت المبلغ، أرسلته لي أختي التي تقيم في السعودية”. أما الطعام فكان وجبة واحدة في اليوم لا تزيد عن قطعتي خبز. بعدها يتم تحميل المهاجرين في شاحنات إلى الحدود مع المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها دولياً. وهناك يطلب المهاجرون من سائقي السيارات المارين أن ينقلوهم إلى عدن. كل ذلك توقعنا سماعه، غير أننا لم نتوقع ما قيل عن الأحداث التي يواجهونها بعد أن ينتصف الليل..  

إقرأوا أيضاً:

زوّار الليل

في كل ليلة تقريباً، وفي حدود الساعة الثانية بعد منتصف الليل، تمر سيارة وتلقي الحجارة على المهاجرين النائمين في العراء. يصرخ أحد المهاجرين: “جرحوا صديقنا في رأسه، هو الآن في المستشفى”. بحسب مهاجرين التقيناهم، فالأمر مستمر منذ شهور، سألناهم: “هل تحدثتم مع أحد من أفراد الأمن؟”. أجابوا: “الأمن يمنعنا من نصب الخيم. يقطعونها بالسكين”. تحدثوا أيضاً عن سرقات تحصل لهم بالليل، عن أشخاص يحملون الأسلحة ويرتدون زي الأمن يفتشون أمتعتهم ويسرقون ما لديهم من مال وأطعمة وأغراض شخصية. حكوا أيضاً عن إطلاق رصاص حدث مرة وأصاب أحد المهاجرين في ساقه. أما الأمر الأكثر إثارة للقلق فكان الذي هتف به شاب يقف في الخلف. “بعد منتصف الليل يأتي أشخاص يرتدون زي الأمن يأخذون النساء ويعيدونهن ظهر اليوم التالي”. 

طلبنا أن ننفرد بالنساء، انتحينا جانباً بثلاث منهن، أكدّن جميعهن ما قاله الرجل، لكنهن نفين تعرضهن لأي من أنواع الاعتداء الجنسي. “إذاً ماذا يحصل طوال الليل؟”، سألناهن فكان جوابهن: “لا شيء”، حاولنا تطمينهن  لكنهن أصررن على النفي. قصص تعيد للأذهان قضية أحد مراكز احتجاز اللاجئين في مديرية البريقة في عدن التي أثارها تقرير هيومن رايتس ووتش عام 2018 وكشف عن مسؤولين حكوميين يمنيين عذبوا واغتصبوا مهاجرين أفارقة، أوقفت وزارة الداخلية في حينها خالد العلواني الذي كان مدير المركز والذي شهد محتجزون بأنه كان يشرف على الانتهاكات. وبحسب ما ورد في التقرير فإن وزارة الداخلية أقرّت بأن لا سيطرة لها على “قوات الحزام الأمني” المدعومة من الإمارات التي كانت مسؤولة عن تجميع المهاجرين ونقلهم إلى مراكز الاحتجاز.

كان لا بد من زيارة إلى إدارة أمن عدن، هناك قابلنا مدير مكتب مدير الأمن، أخبرناه عن السرقات وعن أخذ النساء طوال الليل، لكنه نفى أي علم له في هذا الشأن، ولمزيد من التثبت، أحالنا إلى رئيس غرفة عمليات أمن عدن، الذي قال بشكل قاطع منهياً اللقاء بأن أي بلاغ لم تصل إليه حول هذه القضايا، لا بطريقة رسمية ولا شخصية.

حلول موقتة

يذكر عصام المخزومي مسؤول فريق الحماية في المنظمة الدولية للهجرة IOM، في عدن في حديث خاص أن عدد المهاجرين الإثيوبيين في اليمن يصل إلى أكثر من 14 ألف مهاجر. 5000 منهم في عدن. رجال ونساء وأطفال فوق سن العاشرة، أسباب هجرتهم غالباً اقتصادية، وهدفهم الأساسي هو الوصول إلى السعودية، أما اليمن فليس إلا نقطة عبور، علقوا فيها بسبب الحرب ثم بسبب “كورونا”. كما أكد تواصل المنظمة مع الحكومة الإثيوبية لتنسيق العودة الطوعية لمن يطلبها من المهاجرين. “آخر رحلة نسقتها المنظمة كانت في آذار/ مارس 2020  وأعادت ما يقارب 300 مهاجر كانوا في عدن”. لكن عمليات الإعادة توقفت بسبب الجائحة والإجراءات التي اتخذتها الدول من ضمنها اليمن وإثيوبيا في إغلاق الحدود، ما أدى إلى تراكم أعدادهم. راهناً أتى وفد من وزارة الخارجية وسلطة الهجرة والجوازات في إثيوبيا، للتثبت من جنسيات 1200 مهاجر بالتنسيق مع الحكومة اليمنية. ونحن في انتظار نتائج التثبت لترتيب رحلات الإعادة. وعن أماكن وجودهم في عدن وأوضاعهم قال إنهم يتمركزون في أربع مديريات: دار سعد والمنصورة والشيخ عثمان والبريقة. “أوضاعهم مأساوية، وجائحة كورونا ضاعفت الأعباء التي كانت موجودة أساساً، يفتقرون إلى الأكل والشرب والمياه النظيفة والصحة، ولا غرابة فاليمن يعيش حرباً منذ عام 2015 أثرت في المواطنين أنفسهم فما بالك بالمهاجرين”.  

نقلنا إليه ما ذكره المهاجرون عن تعرضهم للانتهاكات مثل السرقات وأخذ النساء في الليل، لكنه نفى علمه بها، وقال إن المنظمة لا تستطيع أن تؤكد أو أن تنفي مثل هذه الأقوال، مشيراً إلى عقد حلقات نقاش مع المهاجرين للمزيد من التثبت، لأن مثل هذه الأحداث خطيرة ولا بد للسلطات أن تطلع عليها. وعن المضايقات الأخرى التي يتعرض لها المهاجرون يقول المخزومي إنهم  في حالات قليلة يتعرضون للتنمر والإقصاء، وإلى حملات أمنية واعتقالات قسرية مردّها إلى أن المواطنين يشتكون من وجودهم.

يدخل اليمن 100 ألف مهاجر سنوياً.

وقال إن المنظمة تدير مراكز استجابة للمهاجرين في عدن، تعنى بتقديم خدمات مثل العيادات المتنقلة، وتوزيع القسائم الغذائية وبرنامج لتوفير فرص عمل يشارك فيه ما يزيد على 1200 مهاجر، لكن البرنامج لا يغطي الأعداد التي تزيد كل يوم. وهي في مجملها حلول موقتة وتظل المشكلة الجذرية في رأيه في شبكات التهريب المنتشرة في مناطق الدخول إلى اليمن في الصومال وجيبوتي والتي نشطت بسبب الانفلات الأمني الذي أعقب الحرب. “يدخل اليمن 100 ألف مهاجر سنوياً. يُخدعون بالوهم في حياة أفضل، وينتهي بهم الحال إلى الاحتجاز من قبل المهربين والتعذيب والمطالبة بدفع فدية لإطلاق سراحهم”.

يتباين رد فعل الأهالي في عدن حيال المهاجرين. أثناء حديثنا معهم أوقف رجل سيارته وهتف. “ساعدوا النساء، ينمن في العراء تحت لسعات البعوض”. آخر ناولهم كيساً يحوي طعاماً، وثالث اشتكى لنا من وجودهم وتنبأ بتفاقم المشكلات في الحي.

لا جدال في أن المهاجرين يعيشون أوضاعاً متردية. فلا مأوى ولا طعام، وعن المياه التي يستعملونها أشاروا إلى حفرة مكشوفة على الرصيف المقابل ممتلئة بمياة لا يبدو عليها أنها صالحة للاستخدام. غير أنك تجد نفسك ملتبس الشعور إزاءهم، من ناحية يحزنك وضعهم الكارثي، ومن ناحية أخرى تخشى أن يتحول وجودهم إلى كارثة جديدة على البلد. هم ضحايا لا ذنب لهم إلا الفقر، وهو ذنب لا يد لهم فيه، لكن وجودهم يفتح كل الاحتمالات، فمن الجائز وتحت وطأة معيشتهم القاسية أن يعمدوا إلى السرقات أو ارتكاب الجرائم، ومن المحتمل أن تستغلهم إحدى الجماعات المتطرفة في بلد يموج بالكثير منها. تزداد الخطورة في زمن الحروب حيث لا دولة ولا مؤسسات. 

قبل أن نغادر الخيمة الأولى، لفتني وشم على ذراع حجازي، حروف يحوطها رسم قلب، سألت عن معناه قال: “أحبك”. سألته: “لمن تقولها؟”، أجاب: “لزوجتي وطفلي في إثيوبيا”. 

إقرأوا أيضاً: