fbpx

الوباء كلعنة سياسية… من “أوديب” إلى توفيق الحكيم

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في حالة طوارئ يدرس الكاتب مشاعر إنسانية بعضها يبعث فيه الحياة ويسمو إلى مصاف المعجزات كما هي قيم الحب والتضحية، بينما بعضها الآخر يهدم الإنسان كالكراهية والخوف والأنانية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ليس إيماناً بالغيبيات اعتبار الوباء سبباً لضرورة التغيير السياسي، فالعجز الطبي وسوء التصرف الإداري في معظم دول العالم، حتى تلك الثرية والأكثر تقدماً منها، في مواجهة وباء فايروس “كوفيد-19″، يدفعان إلى سؤال، هل يكون الوباء عاملاً في تغيير متتالٍ في الحكومات في دول عدة من العالم؟ 

وهل يكون الوباء عاملاً في سقوط سلطات حاكمة في دول أخرى؟ وقد رأينا كيف أن تعامل إدارة الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب مع الوباء كان عاملاً حاسماً في خسارته الانتخابات الأميركية بداية العام وتولي الرئيس الحالي جو بايدن إدارة الولايات المتحدة، منتخباً بشكل أساسي لأجل الخطة الصحية والاقتصادية لمواجهة “كوفيد-19″، التي وعد بها خلال حملته الانتخابية والتي يعمل على تطبيقها كأولوية في فترة حكمه الحالية.

في ألمانيا أيضاً، خسر “الحزب الديموقراطي المسيحي” الحاكم بزعامة أنغيلا ميركل الانتخابات في مقاطعتين ألمانيتين في ولايتي بادن- فورتمبرج وراينلاند- بفالتس، بسبب السياسة الحكومية في مواجهة الوباء، دل على ذلك ما صرح به خبير الشؤون الخارجية في الحزب نوربرت روتغن بأن على حزبه أن يُثبت للجمهور الألماني بسرعة وبصورة موثوقة “أن التطعيم والاختبار جزء من استراتيجية الحزب لمكافحة الجائحة”. كذلك حصل تغير كبير في تآلف الأحزاب الحاكمة في إيطاليا، نتج عنه تغير في رئيس الوزراء الإيطالي. ويبدو أن ما حدث مع ترامب سيتكرر أيضاً مع صديقه البرازيلي المخلص الرئيس جايير بولسونارو. فبعد خروج رئيس البرازيل الأسبق من الاعتقال لقضايا فساد، وثبات عدم تورطه فيها، ارتفعت شعبية لويس لالو دا سيلفا بشكل كبير، من خلال الانتقادات التي وجهها إلى حكومة الرئيس الحالي وسياسة حكومته في مواجهة الوباء. يذكر أن البرازيل ثاني أكبر دولة من حيث الإصابات وأعداد المتوفين بسبب الوباء، بينما ما زال رئيسها بولسونارو يرفض وضع الكمامة، ويدلي بتصريحات “غبية” حيال الوباء، على رغم إصابته به، مكرراً أن المرض غير قوي، متخذاً من فلسفة صديقه ترامب نموذجاً للتعامل مع الوباء. وقد غيّر بولسونارو للمرة الرابعة وزير الصحة في البرازيل منذ انتشار الوباء. ومنذ أيام، تم تغيير وزير الصحة الأردني إثر عطل أصاب نظام الأوكسجين في مستشفى السلط في الأردن أدى إلى وفاة 8 أشخاص.

كل ذلك يؤشر، أو يدعم فرضية أن يؤدي “كوفيد-19” إلى تغير في كل حكومات وسلطات الدول الديموقراطية مبدئياً، ذلك أن الوباء في الدول الديموقراطية يحل كلعنة على الحكومات والسلطات، بينما في الدول الشمولية والديكتاتورية فالوباء يحل كلعنة على الشعوب غير القادرة على تغيير السلطة الحاكمة. لطالما كانت هذه هي المعادلة عبر التاريخ، فالوباء لطالما كان مؤشراً للشعوب بضرورة تغيير السلطات، إما إن لم يصل الشعب إلى ذلك، فإن اللعنة مستمرة في جثمانها على كاهل الشعوب نفسها. هذا ما يحصل في واحدة من أشهر المسرحيات على مر التاريخ.

الوباء يشبه القدر المفروض على المجتمع، يحتجر حياة الأفراد في ظروف حتمية من البلاء، ولا يبقى أمام المجتمع سوى خيار واحد وهو تحمل المسؤولية والإقدام للكشف عن الحقيقة وتغيير السلطة. 

الوباء كلعنة من تسلط الحكم

في مسرحية “أوديب ملكاً”، سوفوكليس، تقع مدينة طيبة تحت أثر الوباء وتتكاثر عليها الكوراث، كما هو الحال في سوريا ولبنان، فكما يرد في المسرحية أن الوباء لا يريد أن يرتحل عنها والمجاعة تفتك بها والأشجار لم تعد تثمر، والماشية صارت عجافاً في المراعي الدارسة، وحتى النساء غدون عاقرات. وتقول العرافة في معبد أبولو إن في طيبة شيئاً ملوثاً يلوث المدينة ويجب نبذه. وهذا الشي الملوث رجل لا بد من نفيه من المدينة أو قتله. وهذا الرجل كما هو معروف، هو الملك نفسه أوديب. يكتب روجيه عساف عن ذلك: “ما إن يشرع الملك أوديب في التحقيق حتى تنطلق آلية جهنمية سوف تسحق المحقق، وتحوله بشكل صارم من بريء إلى مذنب، ومن بصير إلى أعمى، ومن محسن إلى مجرم”. إن السعي إلى مواجهة الوباء تتطلب تغيير السلطة، يكتب عساف: “ما يعني أن الخير والشر لا يتطابقان مع سوء النيات أو صحتها، ولا مع أهداف الإرادة التي أحدثتهما”، فالوباء يشبه القدر المفروض على المجتمع، يحتجر حياة الأفراد في ظروف حتمية من البلاء، ولا يبقى أمام المجتمع سوى خيار واحد وهو تحمل المسؤولية والإقدام للكشف عن الحقيقة وتغيير السلطة. 

إن الحكم المتسلط هو الوباء في مسرحية أوديب، فيؤكد روجيه عساف أن خطأ أوديب ليس قتل والده والزواج من أمه، بل هو التسلط الذي مارسه أوديب مذ صار ملكاً: “يمارس الملك أوديب السلطة بشكل فردي كملك مطلق لا يثق إلا بنفسه، ويقرر بمفرده مصيره ومصير المملكة. وإذا بالمصيبة تنزل بشعب طيبة من جراء أخطائه”. لقد كان زمن المسرح الإغريقي هو زمن بلوغ الديموقراطية الناشئة ونمو الروح الفلسفي. أي زمن ولوج العقلانية في الثقافة والسياسة. وبذلك، تجسد المسرحية المنطق المدني الجديد الذي يريد التخلص من الوباء ومعرفة حقيقته بقوة العقل، من دون اللجوء إلى الغيبيات، فتكتشف المدينة أن حكم ملكها الفاسد هو سبب الوباء، يكتب العساف: “الأزمة السياسية هي أزمة أخلاقية، والإفراط يولد الاستبداد هذه الفكرة التي ترددها الجوقة تعبر عن قلقها إزاء خطورة الحكم الفردي: الشعب الذي يعهد السلطة إلى قائد واحد مهدد بالديكتاتورية، وبالأحرى مهدد بالوباء والفناء”. 

الكاتب الفرنسي ألبير كامو استعمل هذه الفكرة في عملين أدبيين الأول هو رواية “الطاعون” والتي اختار لأحداثها ميناء وهران الجزائري، ومسرحية “حالة طوارئ”، والتي اختار لأحداثها ميناء آخر، هو ميناء قادش الإسباني، ولعل تفسير ذلك أن الطاعون غالباً ما يبدأ تفشيه في الموانئ وينقل من طريق الفئران التي تعيش في السفن، حين ترسو السفينة على الميناء، وينزل أحد الفئران حاملاً الجرثومة إلى الميناء. خصوصاً في المسرحية، يربط الكاتب بوضوح بين الوباء واللعنة السياسية، فتدرك مدينة قادش أن الوباء سيفرض عليها بعد مرور أحد النجوم المذنبة بالمدينة، وهو نذير شؤم كان عادة يتبعه ظهور وباء الطاعون. أهل مدينة قادش كانوا يعيشون تحت سلطة حاكم أناني لا يفكر إلا بملذاته الخاصة، وينفر من أي تغيير يستتبع مجهوداً، وكان سكان المدينة يتحملون رذائل الحكم الذي كان يضغط على أنفاس المدينة. وحين تظهر النبوءة السماوية لا يجرؤ أحد الإعلان أو التحدث عنها، ويضع الشعب السدادات حتى لا ينتقد الحكم، ويستفيد الانتهازيون من هذه الظروف. 

إقرأوا أيضاً:

الوباء الاقتصادي

في ترجمتها للمسرحية، تكتب كوثر عبد السلام البحيري أن “الطاعون بالنسبة إلى كامو لا يعني الوباء في حد ذاته، بل المصائب الكبرى التي قد تشمل الديكتاتورية والاستعمار وقهر الإنسان للإنسان. وهو يرى أنه مهما كان المصاب جللاً، لا بد له من نهاية. ونهايته لا تأتي إلا بالإرادة وتمسك الإنسان بحريته وإيمانه بها. وإذا كانت الأغلبية العظمى من الناس تدخل في نطاق القطيع أو السائمة مسلوبة الإرادة التي تجر إلى مصيرها جراً فإنه يكفي جود فرد واحد ليوقظها لتتخطى الصعاب وتسير على الأشواك في سبيل تحرير إرادتها”. 

تلك هي الفلسفة العظمى التي نادى بها ألبير كامو. في حالة طوارئ يدرس الكاتب مشاعر إنسانية بعضها يبعث فيه الحياة ويسمو إلى مصاف المعجزات كما هي قيم الحب والتضحية، بينما بعضها الآخر يهدم الإنسان كالكراهية والخوف والأنانية. 

رأينا كيف تمكن الطاعون من السيطرة على المدينة ببث الكراهية بين الناس، وكيف أن الأنانية تجعل الفرد يرفض إعطاء لقمة من الخبز لفرد آخر، هذه الصورة تذكرنا بوباء من نوع آخر يعيشه السوريون واللبنانيون، وهو البلاء الاقتصادي، فقد تكاثرت في لبنان أحداث النزاعات بين المواطنين/ات للحصول على السلع المدعومة من قبل الدولة، وكذلك الحال في سوريا حيث طوابير من الناس في انتظار الخبز أو السكر. كل ذلك، يمكن اعتباره وباء اقتصادياً يؤشر إلى ضرورة تغيير السلطة السياسية والاقتصادية الجاثمة على البلاد. 

في مسرحية “حالة طوارئ” لألبير كامو تمثل شخصية المنادي البروباغندا السياسية، فهو يظهر بين الحين والآخر بين الفصول والمشاهد لينادي بين الناس، بما يفيد تهدئة الناس وفرض الخطاب المطلوب لاستمرار السلطة الحاكمة: “أمر من الحكومة، على كل فرد أن ينسحب ويستأنف مزاولة أعماله. إن الحكومات الصالحة هي الحكومات التي لا يحدث فيها شيء. تلك هي إرادة الحاكم ألا يحدث شيء في حكومته حتى يزل حاكماً صالحاً كما كان دائماً. فنحن نؤكد لأهالي مدينة قادش أن شيئاً لم يحدث اليوم يستحق أن يفزعوا ويقلقوا”، مما يذكر بمقولة “لا داعي للهلع” التي أنتهجتها الحكومة اللبنانية في بداية وباء “كوفيد-19″، وكذلك بسياسة وزارة الصحة السورية التي تثير الأرقام التي تنشرها عن عدد الإصابات بالوباء، السخرية، من تدني الأرقام، فيما يحصد المرض أعداداً كبيرة بحسب تقديرات الخبراء، ونظراً إلى الشخصيات الجماهيرية التي تفارق الحياة بسبب المرض، أشهرها وزير الخارجية الأسبق وليد المعلم، إضافة إلى إعلان إصابة الرئيس السوري نفسه وزوجته.

“الطاعون بالنسبة إلى كامو لا يعني الوباء في حد ذاته، بل المصائب الكبرى التي قد تشمل الديكتاتورية والاستعمار وقهر الإنسان للإنسان”.

الوباء كخلل أخلاقي في الثقافة

في روايته “العمى” يتخيل الروائي البرتغالي الحائز جائزة نوبل خوسيه ساراماغو وباء العمى، وقد راح ينتشر في المدينة وينتقل في اللمس، وعبر هذه الفرضية الروائية يثبت لنا الكاتب عطب المنظومة السياسية والأخلاقية الحالية، يجسد ذلك في الرواية في تعامل السلطات الحاكمة مع ظاهرة الوباء، ومن ثم حجم الجرائم والسرقات والقتل والاغتصاب، المنتشرة في المدينة حين يصاب معظم سكانها بالعمى، فتعامل السلطة المرضى كالمجانين والمعتقلين لتحجزهم خارج المدينة في أماكن أشبه بالزنازين، بينما يتهجم المرضى على بعضهم بعضاً، وتنتشر الجريمة في المدينة، هذا الجانب يبين أن النظام الأخلاقي الإنساني أيضاً يتطلب إعادة النظر.

في مسرحية “الخرتيت” يفترض الكاتب يوجين يونيسكو أن وباءً حل بالمدينة أدى إلى تحول الناس إلى كائن غريب هو “الخرتيت- وحيد القرن”، هذه الحبكة إشارة رمزية إلى العطب الأخلاقي الذي يمتد على كامل المجتمع. أما في المسرحية الشهيرة “نهر الجنون” للكاتب المصري توفيق الحكيم، فيصاب سكان البلاد بالجنون بسبب تلوث في المياه سببه نهر البلدة، فيما لا تعمل السلطة، المتمثلة في المسرحية بشخصية الملك ووزيره، على إنقاذ الجموع، بل يقرر الملك والوزير أن يشربا من نهر الجنون ليتماثلا في فقدان العقل مع أهالي المملكة. 

الدعوة إلى التغيير

أخيراً، نذكر رواية “الوباء” للروائي السوري هاني الراهب، التي تتناول التغيرات السياسية والاجتماعية في سوريا بعد عام 1963 وترصد التحولات الاجتماعية الكبيرة التي أصابت بعض الشرائح الريفية المنضوية تحت لواء العسكر والتي أصبح لها القول الفصل في السياسة. في الرواية شخصيات عدة في قرية الشير وهي قرية تاريخية تابعة لمدينة اللاذقية. تنتهي الرواية بأن الاستبداد هو الوباء الذي يفتك بالبلاد والعباد. في أشهر فقرات الرواية يكثف الراوي الفكرة التي قامت عليها روايته: “عندما كنا صغاراً، وحصلت بلادنا على استقلالها، شعلت نار في الجيل الجديد. خلال عشر سنوات كانت أفواج وأفواج من الشباب تحمل راية التجديد، تقف ضد الظلم، والاستغلال، والعبودية، والتخلف. كنا مؤمنين أن هذه الأوضاع كلها ستنتهي. والحرية والعدل ستنتصران، ليس فقط في سورية، وإنما في العالم بأسره – في عشرين أو ثلاثين سنة. أين نحن الآن؟ طبقة تمضي وطبقة تجيء ولا جديد تحت الشمس. ترى الناس يضحكون على أنفسهم؟ لأنه لم يتغير شيء. بقي الغني وبقي الفقير، وصارت الحالة أسوأ. الكذب، الاستغلال، الاضطهاد، البؤس، هي التي تنتصر. والصدق، والعدل، والحرية، والفرح، التي تنهزم. العالم كله يمشي على الطريق الغلط بالقوة، ومنذ الأزل”.

إقرأوا أيضاً: