fbpx

“العفو الرئاسي في مصر”:
لماذا لا يشمل أيمن موسى ورفاقه السياسيين؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“عاملوه كابن صغير حتى لو غلط وادوله فرصة تانية، مش كفاية 7 سنين ونص؟ أخويا كان 19 سنة، ودلوقتى عنده 27 سنة والسنين اللي راحت من عمره دي كفايه”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“بدلاً من أن أرتدي قبعة التخرج والعباءة مع أصدقائي حاصلاً على شهادة تخرجي، ارتديت بدلة سجين وأصفاد يد، منتظراً  نقلي إلى سجن آخر. هذا العام، تغيبت عن جنازة أبي… أنا أفتقد أبي، أنا مُتعَب… أنا مُتعَب من انتظارِ لا شيء إلا الخسائر. أنا مُتعَب من عَيشِ حياةٍ غَير طبيعية، أنا أريد أن أعود إلى بيتي قبل أن أخسر شيئاً آخر… قبل أن أخسر شخصاً آخر”.

كأغلب وجوه ثورة يناير، الذين تحولوا إلى نزلاء في المعتقلات والسجون، أو لاجئين سياسيين، أو مدرجين على قوائم الإرهاب، يمضي أيمن موسى أيامه خلف الأسوار الحديدية، التي تسلب الإنسان روحه وعمره وشغفه بالحياة. كان عمره 19 سنة ألقي القبض عليه في تظاهرات رمسيس، في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، وواجه اتهاماً بالانتماء إلى جماعة محظورة والتحريض على العنف والتعدي على قوات الأمن. 

جسده الضئيل، الهش، الذي لا يليق بشاب أمضى ما تقدَّم من حياته طالباً متفوقاً بالمدرسة الثانوية البريطانية، لا يقوى على إيذاء أي إنسان، إلا أنّ التحقيقات الرسمية صنفته بالمعتدي على قوات أمن تدير أمورها بالرصاص الحيّ والخرطوش وقنابل الدخان، ويوم تعطف على المتظاهرين، تفضّ حراكهم بالهراوات، وقد حكم عليه إثر ذلك بالسجن 15 عاماً في ما يعرف بـ”قضية الأزبكية“. لتبدأ مسيرة الظلم التي حصدت أرقاماً هائلة من البشر في مصر حتى أصبحت شيئاً عادياً، لكن التركيز عليها في حياة شخص واحد راح عمره هدراً بين المحاكم والزنازين والسجون وعربات الترحيل يكشف جانباً من المأساة.

“جحيم” أيمن موسى… السجن إذ يقضي على الأحلام الجميلة

كان أيمن مدرب كرة ماء في نادي هليوبوليس الرياضي، ولاعباً في منتخب مصر للغطس، حقق ميداليات في أكثر من بطولة، وكان يمارس رياضة “الباركور” إلى جانب كونه مدرساً مساعداً في المدرسة البريطانية في مواد صعبة كالرياضيات والفيزياء، وهي مكانة لا يصل إليها إلا أكثر الطلاب تميُّزاً، قبل أن يلتحق بالجامعة البريطانية في القاهرة لدراسة الهندسة، وحين وصل إلى الصف الثاني، وجد نفسه في السجن، يحمل “رقم نزيل” بدلاً من رقم الجلوس، ولا تقبل الجامعة امتحاناته. توالت السنوات التي لا يحضر خلالها الامتحانات النهائية حتى تعرّض للفصل من “هندسة الجامعة البريطانية” ليلتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.

تخرجت الدُفعة التي التحق بين صفوفها في كلية الهندسة، واحتفت به بـ”حفل تخرج رمزي” هاتفةً: “بص واسمع واتفرج! أيمن موسى بيتخرج”. 

كان أيمن مفصولاً من الجامعة، لولا السجن لكان ضمن الخريجين الآن، يرتدي عباءة المكرَّمين وقبعة النجاح، وهم يتسلّمون شهاداتهم، وربما كان من أوائل دفعته. يروي صديقه عبد الرحمن الجندي، الذي كان نزيلاً ورفيقاً له في السجن، على خلفية قضية سياسية أيضاً، وخرج بعفو رئاسي، أنه لا ينسى بكاء أيمن، وهو يشاهد مقطع فيديو الهتاف على هاتف مُهرَّب، امتناناً وتأثراً بأصدقائه، الذين احتفظوا به في ذاكرتهم، يقول: “مشاعر أيمن كانت مختلطة ما بين الامتنان الرهيب لأصحابه، وأنه صعبان عليه نفسه لأنه مش واقف معاهم”.

تمرّ 4 سنوات، ويتخرج أيمن موسى من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (الجامعة البريطانية)، في تموز/ يوليو 2020، وبعد نحو عام، يكمل 8 سنوات في السجن، على خلفية جريمة لم يرتكبها، وتسرق الزنزانة من عمره أياماً لن تعود أبداً. 

الأزمة بالنسبة إلى أيمن موسى، يفسّرها الجندي، وهي أنه بعد التخرج من الجامعة خلال فترة السجن “يعيش أصعب شعور بالخواء يمكن أن يشعر به بعدما فرغ من الدراسة، الشيء الذي كان يشغل دماغه ووقته ويمنحه هدفاً مستمراً ودافعاً للحياة. يملؤه الفراغ، وعدم القدرة على تشتيت نفسه بدوافع تجاه أشياء ملموسة تشعره بأي تقدم، فيشعر بأنه يقف مكانه، بينما الجميع يتحركون ويحققون شيئاً”.

بعد وفاة والده تحول البيت إلى قاعة عزاء، سجن الابن ثم وفاة الأب، وأحزان الأم، التي تشعر بالتدمير مذ اختطف “آخر العنقود”.

موت بطيء يحلق حول شاب يبلغ نحو 27 سنة، قاد إلى تصاعد حملة إلكترونية تحت شعاري #الحرية_لأيمن_موسى، و#عفو_رئاسي_لأيمن_موسى، تضمَّنت 15 ألف توقيع تطالب بمنحه عفواً رئاسياً، بمناسبة إنهائه نصف المدة، التي عوقب بها في قضية “أحداث الأزبكية”، إلى جانب آلاف التدوينات.

شروط العفو الرئاسي تنطبق على أيمن موسى، تمنح رئيس الجمهورية الحق في إطلاق سراحه، والشاهد أن عدداً كبيراً من المدرجين بالقضية ذاتها خرجوا في نصف المدة. 

أشياء كثيرة تغيّرت في حياة أيمن موسى، كبر 7 سنوات وخرج من فئة الطالب الجامعي إلى الشاب اليافع الذي يجب أن يبدأ حياته العملية، ويعيش أياماً هادئة. أرهق الحنين أمه فانقلب حالها، وتوفي والده بينما نجله في السجن، وكان مشهد الوداع يشير إلى وقاحة منظمة بحق سجين في لحظة إنسانية صعبة.

بحسب روايات أصدقائه، رحّل سجن وادي النطرون أيمن – فجأة ومن دون إنذار أو معرفة مسبقة – إلى سجن المزرعة، لم يعرف الشاب أن والده توفى، لم يخبره أحد بما حصل. أمضى الليلة في زنزانة انفرادية، وفي الصباح، اقتاده مسؤولون في السجن إلى مدرعة، ركب وفجأة وجد نفسه أمام منزله في ضاحية مدينة نصر بالقاهرة. هنا عاجله الضابط بقوله: والدك توفى. نزل الخبر عليه كالصاعقة، ذهب إلى أمه وشقيقه وودع والده،بصدمة كبيرة، إذ إنه تركه قبل سنوات في حالة صحية جيدة، لم يكن يعاني من أوجاع وتقاريره الطبية لم تشر إلى أي مرض أو عطب أو شيخوخة. أمضى دقائق قليلة برفقة أهله، وعاد إلى محبسه في وادي النطرون.

بعد وفاة والده تحول البيت إلى قاعة عزاء، سجن الابن ثم وفاة الأب، وأحزان الأم، التي تشعر بالتدمير مذ اختطف “آخر العنقود”، لقب الابن الأصغر الذي يملأ البيت شعوراً بالحياة، وتنتظر أن يعيد نجلها الحياة إلى الأسرة بأكملها، هكذا يلخّص شقيقه الوضع، وهو مطالباً بالإفراج عنه. وانتشر وسم في هذا السياق يطالب المسؤولين بالنظر إلى أخيه بعين الرأفة: “عاملوه كابن صغير حتى لو غلط وادوله فرصة تانية، مش كفاية 7 سنين ونص؟ أخويا كان 19 سنة، ودلوقتى عنده 27 سنة والسنين اللي راحت من عمره دي كفايه. أيمن هيكمل نص المدة بعد بكرة، هل يمكن العفو الشرطي عنه بنص المدة؟ أو عفو رئاسى في أي مناسبة قادمة؟ ممكن يبان قرار بسيط، لكنه هينقذ حياة إنسان اتدمرت بالكامل وهيرجعله الروح تاني ليه هو وأسرته، ويخلينا كلنا ممتنين بشكل لا يوصف للأبد”.

إقرأوا أيضاً:

العفو الرئاسي… “المسكن” الخادع للسجناء وأسرهم

كان أيمن موسى يحلم بالخروج يومياً، ويحكي صديقه الجندي، أن “أيمن بدأ يجيب كتب في التغذية والتشريح ويقرأ أكتر ويتعلم ويبني خطط علمية للتغذية والتمرين لكل عضلات الجسم، وكتير قعدنا نحكي وإحنا سهرانين بنشرب قهوة والناس نايمة عن أحلامه إنه في يوم يقدر يكون ليه مركز تمرين خاص مبني على نظام علمي في التغذية و اللياقة. كنت شايفه بعيني بيحقق ده بأبسط الإمكانيات، وإزاي بيلهم الناس كلها تقوم وتتمرن وتصدق إنها ممكن توصل للياقة الجسم”.

وفي مناسبة أخرى، كان على يقين من خروجه قبل أحد الأعياد، وبدأ يتخيّل ويروي لزملائه كيف سيمضي هذا العيد مع أسرته. خروج بعض المتهمين على ذمة القضية ذاتها، في ما يعرف بالإفراج الشرطي، والإفراج بعفو رئاسي، منحه أملاً مزيفاً بالإفراج عنه قريباً، شعر بأنه لم يبقَ غيره، فاعتقد أن اللحظة حانت لخروجه. انتظر قرار العفو، وقرأ جميع الأسماء، ولم يجد اسمه، فعاد محطَّماً إلى الزنزانة، ينتظر العفو المقبل.

كأن العفو أداة لزيادة قهر السجناء، تضاعف انتظارهم، وخضوعهم للسجانين، فلا تمرّد أو معارضة للأوامر القاسية، وجحيم السجن، خوفاً من تلويث تقارير حسن السير والسلوك، التي يمكن أن تحرمه من العفو، أو تؤجّل خروجه لما بعد نصف المدة. هذا المخدّر، يمنع الأهل من إثارة أي مشكلات داخل السجن، أو الحديث عمّا يعانيه ذووهم من ظلم أو تنكيل، على أمل أن يشملهم العفو الرئاسي في أقرب فرصة ممكنة.

العفو فرصة السلطات لمضاعفة آلام السجناء، واغتيالهم معنوياً، وهو يمنّيهم بخروج قريب إذا لم يخالفوا الأوامر، وجه آخر للعفو لا يريد أن يشير إليه أحد، خوفاً من زواله، فعلى الأقل، يمنح العفو الحرية للبعض، ويقضي على أحلام آخرين، ليطرح سؤالاً جوهرياً: ما هي شروط العفو؟ من يحصل عليه؟ وهل تحكمه لوائح أو ضوابط؟ 

تتلخص أهداف “لجنة العفو الرئاسية” (وهي لجنة استشارية لا تملك أي سلطة كما قالت عضوتها نشوى الحوفي)، التي أعلنها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسى، فى مؤتمر الشباب في شرم الشيخ عام 2016 في بحث حول حالات الشباب، الذين لم يتورطوا فى عنفٍ أو ترويع مواطنين أو تخريب مؤسسات، فما سبق جرائم تندرج تحت مسمى ارتكاب جناية يعاقب عليها القانون أياً كانت دوافعها، ويمكن أن يخرج أصحابها بالعفو الرئاسي، الذي يتزامن مع شهر رمضان، والأعياد الدينية والوطنية.

تنطبق الشروط بالكامل على عدد من السجناء، إلا أنهم يمضون أعمارهم حتى الآن في السجون، واحد منهم هو أيمن موسى. 

التلاعب بـ”التحريات وحسن السلوك” يطيح بأيمن ومن معه

معضلة القانون، أن الاتهامات الموجّهة لبعض الذين شاركوا في تظاهرات، أو لم يشاركوا وقُبض عليهم من قبيل المصادفة أو الوشاية، كأيمن، يواجهون اتهامات بالاعتداء والانضمام لجماعات إرهابية، تعطل إطلاق سراحهم، بينما ينصّ قرار السيسي الذي تحول إلى المادة 155 من دستور 2014، على أن “لرئيس الجمهورية قراراً بالعفو الرئاسي عن المسجونين أو تخفيف عقوبتهم، ولا يتم العفو الشامل إلا بموافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب، والعفو الرئاسي يشمل نوعين من القرارات هما العفو الشامل والعفو عن العقوبة”، ولكن “هناك جرائم تخرج من دائرة العفو الرئاسي لخطورة المحكوم عليه الإجرامية مثل جرائم الإرهاب والتخابر وتجارة المخدرات والسلاح و الاعتداء علي المال العام والدعارة والزنا”.

هذا الاستثناء يخرج أيمن موسى، وآلاف السجناء، من دوائر المرشحين للإفراج عنهم، طبقاً لخبير قانوني، رفض نشر اسمه، إذ إنّ هؤلاء يُكتب لهم في تحريات الضبط والإحضاء أنهم شاركوا في عمليات إرهابية، أو تورطوا في العنف، ليتم الحكم عليهم، و”لا يحصلون على براءة من أول جلسة في المحكمة، حتى أن بعض الأقسام لفّق اتهامات وأدلة”، رغم أن معظمهم لم يشاركوا بشيء، أو على أقصى تقدير، شاركوا في مظاهرة من دون تصريح.

من جهة أخرى، طبقاً للشروط واجبة التنفيذ، الصادرة عن وزارة الداخلية المصرية، “يتم تشكيل لجنة قانونية من الإدارة العامة لمصلحة السجون، تقوم بفحص ملفات نزلاء السجون، في إطار قانون لتحديد مستحقي الإفراج بالعفو عن بقية مدة العقوبة، أو الإفراج الشرطي، وعقب فحص ملفات النزلاء، هناك جرائم لا تشملها قرارات العفو، مثل الاتجار فى السلاح، والإرهاب والإعدام، وقضايا المخدرات بضبطيات أكثر من 10 كيلوغرامات، وقضايا الهيروين، حتى لو غرام واحد، وقضايا الثأر”. 

تصدر اللجنة، المكونة من ضباط شرطة بمصلحة السجون قائمة بالمفرج عنهم، طبقاً لملفات النزلاء، التي تحتوي على مجموعة معلومات، وتقارير “حسن سير وسلوك” يمكن أن يعبث بها، أو يضيف إليها، أو يحذف منها أي مأمور، أو مسؤول، بناءً على مكيدة، أو رشوة، أو توصية، أو غضب، ليتحكم في مصير سجين في قضية سياسية، ويبقيه سجيناً لمدته بالكامل، أو يفرج عنه بعد انتهاء نصف المدة مباشرة. هذه العملية ليست جديدة، عمرها طويل وقديم، حتى أنها اكتسبت اسماً داخل أدبيات السجون، هو “حكم النفس على النفس” الذي يدير المصائر داخل الزنازين ويتحكم بها. 

إقرأوا أيضاً: