fbpx

43 عاماً من الانتظار : رحلت أم بشارة ولم يعد بشارة من سجون الأسد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في قريتنا يعرفها الجميع بأم بشارة، حتى أنني لم أكن أعرف اسمها الحقيقي حتى قرأت خبر وفاتها، فقد ارتبط وجودها بذاك الانتظار الذي امتد 43 عاماً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

على ورقة نعوها، كتبوا تحت اسمها “أم بشارة”، إذ لا يمكن ألا يرتبط اسمها بابنها بشارة رومية (1962-) حتى في لحظة رحيلها الأخيرة. إنها أم بشارة، هو لقب يكفي لاختصار حياة كاملة، حياة أمضتها ميرندا العرم في انتظار بشارة الذي اعتقل كما كثيرين في أقبية الظلام والتعذيب عند النظام السوري، الذي لا يوفّر فرصة ليخبرنا عن شهامته ومقاومته العدوّ الغاشم. وهو أيضاً لا يوفّر فرصة للقتل والظلم والتدمير وإحراق الأعمار.

لقد رحلت أم بشارة، وذكر اسم بشارة في ورقة النعوة مع عبارة “المعتقل اللبناني في السجون السورية”. وهذه إدانة كاملة لنظام المعتقلات والجحيم. بشارة اعتقل في الثمانينات خلال الحرب اللبنانية (1975-1990)حين كان مراهقاً من بلدته البقاعية، رياق، كانت أمه تستطيع زيارته في الثمانينات على نحو متقطع في السجون السورية، حتى منعت نهائياً من ذلك.

تنقّل بشارة في سجون كثيرة، وعام 1988، رآه شقيقه في حافلة بين معتقلين مفرج عنهم، لكنّ الفرحة لم تكتمل، وأعيد بشارة مع آخرين إلى السجن قبل تسليمه إلى ذويه. وحينها أصيب والده بذبحة قلبية وفارق الحياة بعد فترة وجيزة. 

منذ عام 1978 وبشارة في أقبية السجون السورية التي اختفى فيها آلاف السوريين واللبنانيين. أم بشارة تنتظر تلك الأخبار المتقطّعة من مساجين سابقين عرفوه أو شاهدوه. كان يكفيها ربما أن تشعر بأنهما معاً يتنفّسان في كوكب واحد، مهما بدا ظالماً. كانت جزءا من مشهد ساحات الاعتصام الطويل والمرير مع أهالي المخفيين والمفقودين في لبنان. تعرف صوتها والحسرة التي تتصبب منه.

لن تتقبل العائلة التعازي حضورياً، بسبب “كورونا” مع أنّ العدالة تقتضي بأن يُحمل نعشها على الأكتاف وتبكي البلاد كلها ويعتذر العالم عن قسوته، وتحضر كاميرات الإعلام لتخبر عن نظام أباد شعبين، مختبئاً بشعارات الممانعة والبسالة الفارغة. لقد أحرق ذلك النظام أعمار كثيرين. علماً أن17415  هو العدد الرسمي للمفقودين اللبنانيين في الحرب الأهلية ، بينهم مئات المعتقلين في سجون النظام السوري. يضاف إليهم عدد لا يحصى من الضحايا والجرحى وأصحاب العاهات الدائمة.

في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، أقرّ مجلس النواب اللبناني، بعد سنوات من المطالبات، “قانون المفقودين والمخفيين قسراً” (القانون رقم 105). يكرّس القانون المذكور “حق المعرفة” لذوي المفقودين والمخفيين قسراً، ما يعني أن كل شخص يمتلك معلومات عليه مسؤولية إخبار “الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً” المستقلة المنشأة بموجب القانون بما يعرفه.

لكنّ الدولة نسيت الأمر برمته، فلا أحد يريد حقاً فتح الملف، إلا من باب المزايدات وحصد الأصوات الانتخابية وإثارة الجماهير.

إقرأوا أيضاً:

“بين أنياب الموت”

“يرموننا بين أنياب الموت… يعذبوننا… يجلدوننا… بالسياط، والعصي والكرابيج، وبالحجارة يرجموننا، بالماء والكهرباء… ونجرؤ نحن على العيش… لعنة الله عليهم”. كتب المعتقل اللبناني المحرر علي أبو الدهن في الصفحة 113 من كتاب مذكراته في المعتقل “عائد من جهنم/ ذكريات من تدمر وأخواته”. وهو مقطع قد يكون أقل مأساة إذا ما قورن بما رواه أبو الدهن في كتابه عن أنواع العذاب والذل في سجون النظام، الذي يخبرنا ليل نهار أنه يقاتل “داعش” حتى لا نُسبى نحن النساء وحتى يخلّصنا من ظلم الإرهابيين. إنه النظام الذي يقول إنه يحارب الإرهاب! 

في بلدتي وهي بلدة أم بشارة أيضاً، هناك معتقل سابق للجيش السوري منذ زمن الوصاية، إنه في الحقيقة مدرسة بنيت أيام الانتداب الفرنسي، لكنّ الوصاية حولت مباني منه إلى ثكنة وسجون وأماكن للتعذيب. لقد أخبرني كثيرون عما عانوه داخل تلك الجدران، من الفلق مروراً بالكرسي الكهربائي والدواليب وصولاً إلى تلفيق التهم والإهانات على مدار الساعة. قالت أمي مرّة: “أحياناً أسمع أصواتهم حين أمرّ من هناك”.

قريتنا كانت تحوي أكثر من مركز للقوات السورية وهي بيوت أو أماكن يملكها ناس، لكن جيش الأسد سطا عليها ليبث رعبه فينا. لقد عاشت أم بشارة كما عشنا جميعاً بين عيون جلاديها وخاطفي ابنها المراهق الذي اتهم يومها بالانتماء إلى “حزب الأحرار”. أفكر فيها، كم مرة ماتت قبل الآن، وهي تمر قرب تلك المراكز وتشتم رائحة الظلم. فتلك الأماكن حولها الجيش السوري إلى خرق، حتى أن أصحابها تركوها ولم يعودوا إليها بعد انتهاء الوصاية. ربما هاجروا، ربما ما زال الرعب يمنعهم، ربما لم يقتنعوا أن تلك الحقبة انتهت حقاً. وعلى الأرجح هم محقّون، إذ لا يمكن أن تنتهي تلك الأيام السود من دون معرفة مصير المخفيين قسراً واعتراف النظام بجرائمه بحق اللبنانيين. لكنّ للنظام حلفاء وأصدقاء ما زالوا يقدّسونه وأحياناً يموتون من أجل بقائه.

أم بشارة المصلية، صاحبة الوجه الحنون الذي أدماه البكاء والخيبات، في السماء الآن، تلتقي ربما أمهات أخريات لشبان وشابات سرق النظام السوري وأمراء الحرب أعمارهم، من حافظ إلى بشار. ربما هناك ينتهي البكاء وتثمر الصلاة… أيها العالم، لقد سقطت وردة أخرى منك، فارتَعِد!

إقرأوا أيضاً: