fbpx

الكنس تحت سجّادة “الفيرمونت”: “الطاووس” يزعج السلطات المصرية!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يلمس مسلسل “الطاووس” أكثر من وتر حساس يصيب المجتمع والسلطة أيضاً. العنف المستشري ضد النساء الذي يرفض المجتمع الاعتراف بمدى اتساعه وعمق ما يسببه من معاناة، هو أحد الموضوعات المزعجة بالنسبة إلى كثيرين…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ انطلاق الحلقات الأولى من مسلسل “الطاووس”، مع بداية شهر رمضان، بدا جلياً حجم التداخل الكبير بين قصة المسلسل وقصة جريمة “الفيرمونت” التي شغلت الرأي العام المصري عام 2020. 

إنها قضية الاغتصاب الجماعي التي سجلت وقائعها في فندق الفيرمونت ومع ذلك نجا المرتكبون ولم تتحقق العدالة للضحية. 

وعلى رغم من جرائم الاغتصاب حاضرة بشكل مروّع في الحوادث اليومية المصرية، إلا أن تفاصيل كثيرة في المسلسل تكاد تتطابق مع الجريمة التي نجا منها المرتكبون قبل شهور في قضية “الفيرمونت”، بذريعة عدم توافر الأدلة، فيما وقعت الضحية، ضحية من جديد للمجتمع والإعلام والسلطة والقضاء على السواء.

لم يتحمل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام كجهة رسمية طرح جريمة ارتكبها متنفّذون في سياق درامي، فقد سارع لإصدار بيان يلوح بإمكان وقف المسلسل لأنه “يستخدم لغة لا تتفق مع الأكواد (codes) التي أصدرها المجلس”، مؤكداً “ضرورة حماية القيم الأسرية وعدم المساس بها”. هذا البيان استفزّ جمهور المسلسل، والنشطاء المنادين بالحرية على مواقع التواصل الاجتماعي، وتصدّر هاشتاغ  #أدعم_مسلسل_الطاووس النقاشات على موقعي “تويتر” و”فايسبوك”، وهو ما ساهم ربما في تراجع خطر وقف عرض المسلسل، مع تداول أنباء عن تأجيل التحقيق الذي سبق أن أعلن عنه المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام.

ردود الفعل على بيان المجلس كانت في معظمها رافضة لقراره، وإن أبدى البعض تأييدهم وعبروا عن انزعاجهم من المسلسل من خلال هاشتاغ مضاد هو #مسلسل_الطاووس_ضد_القيم.

الطاووس وقضية الفيرمونت

مسلسل “الطاووس”، يتناول قصة فتاة من الطبقة دون المتوسطة تضطر للعمل في وظائف موقتة لإعالة أسرة تتكون من أبيها المريض وأختها المطلقة وأولادها. في الوقت الذي تحتاج فيه الفتاة التي تؤدي دورها الممثلة المصرية سهر الصايغ إلى مبلغ مالي كبير لسداد أقساطها الجامعية، تعرض عليها صديقتها العمل لمدة شهر في أحد المنتجعات في الساحل الشمالي براتب يغطي ما تحتاجه. 

 الوظيفة الموقتة التي تحصل عليها الفتاة تقودها لتكون في حفل زفاف ابن أحد كبار  رجال الأعمال المتنفّذين، يحضره أشخاص من النخبة الاقتصادية المصرية وبينهم أصدقاء العريس الذين يتحرشون بالفتاة البسيطة بخطف هاتفها المحمول والسخرية منها، ثم ينجحون في دس مخدر لها قبل أن يقتادوها إلى أحد شاليهات المنتجع ويتناوبوا على اغتصابها وهي فاقدة للوعي.

الحدث المحوري هو تعرض الفتاة للاغتصاب وهي فاقدة للوعي من قبل مجموعة من الشباب، جميعهم من أبناء الطبقة المتنفذة والعائلات المرموقة، وهذا هو التقاطع الأساسي بين  قصة المسلسل وقضية فندق “الفيرمونت” التي كانت موضع اهتمام كبير خلال العام الماضي.

وفي المقابل يبدو واضحاً أن صناع المسلسل كانوا حريصين على تجنب أي قدر من الإثارة الحسية، فلا يظهر في المسلسل أي مشهد للاغتصاب وإنما تلميح له. ولكن المسلسل في المقابل يعرض صورة صادقة لأسر مصرية من طبقتين متباعدتين في المجتمع، وجميع هذه الأسر تعاني من صور مختلفة من التفكك الاجتماعي والأخلاقي، كما أنه يعكس صورة واقعية، إنما مزعجة عن استغلال محامين وإعلاميين مهنهم لتحقيق مصالح وأغراض شخصية.

 محامي التعويضات الذي يؤدي دوره الفنان السوري جمال سليمان، يسعى في البداية إلى استغلال واقعة الاغتصاب لابتزاز عائلات الجناة والحصول على مبلغ مالي كبير مقابل دفن القضية وتجنيبهم الفضيحة، وهو يغير موقفه بالتدريج نتيجة إصرار الضحية على الدفاع عن كرامتها المهانة ومحو الصورة المشوهة التي خلقتها مواقع التواصل الإجتماعي لها.

والد أحد الجناة يجد أن سلوك ابنه وأصدقائه “طيش شباب مفهوم ومقبول”، ولا يهمه إلا تجنب الفضيحة وتبرئة ابنه، حتى إذا استدعى ذلك تزييف الحقائق التي يقدمها من خلال لقاء إعلامي رتبت له الإعلامية البارزة التي تؤدي دورها الممثلة رانيا محمود ياسين، وهي والدة مشارك آخر في جرم الاغتصاب، تستغل برنامجها لتقدم من خلاله صورة زائفة للقضية لتبرئة ابنها.

إقرأوا أيضاً:

عرض الواقع، يشوّهه؟

وضع العناصر السابقة الواحد إلى جانب الآخر  يطرح أسئلة مختلفة حول البيان الذي نشره المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، خصوصاً أنه استند إلى ما سماه “شكاوى وصلت إليه”، ولم يشر إلى ماهية هذه الشكاوى وماذا تضمنت، ولم يعط أمثلة عن “اللغة التي لا تتفق مع أكواده”. ولكن الإشارة إلى “عدم المساس بالأسر المصرية… أو إظهارها في صورة تسيء إليها”، هي على صلة واضحة بالصورة الواقعية التي قدمها المسلسل لنماذج من أسر مصرية من الطبقتين العليا والدنيا في المجتمع المصري.

نماذج الأسر المقدمة من خلال المسلسل، تعكس بالتأكيد تشوهات اجتماعية حادة وتبرزها في مفارقة واضحة على جانبي الفجوة الهائلة بين الأكثر  ثراءً والأكثر فقراً في مصر. فمن جانب يصور المسلسل ما ينتجه الفقر من تحلل أسري وعلاقات استغلال وقمع ذكوري، يعكسها بوضوح في صورة زوج أخت الضحية الذي طلق زوجته وترك مهمة إعالتها لأختها، ثم عاد ليطرد الضحية من منزل أبيها بدعوى التخلص مما جلبته من عار على أسرتها، وكذلك في صورة سائق “التوكتوك” الذي وعد الضحية بالزواج ثم تخلى عنها بعد تعرضها للاغتصاب، وشارك أهل الحي في لومها واعتبارها جانية لا ضحية.

وعلى الجانب الآخر يصور المسلسل نماذج أسر الطبقة العليا التي تعاني أيضاً من التفكك، إضافة إلى نشأة أبنائها في ظروف يكتسبون من خلالها شعوراً بالتفوق والقوة، ما  يسوغ لهم السعي لإرضاء رغباتهم من دون، قيود وبصفة خاصة على حساب الآخرين الأضعف، في توازنات القوى التي يخلقها التفاوت الطبقي، وقدرة المتنفذين على التحكم بمفاصل الأمن والقضاء. 

هذه النماذج هي بالتأكيد واقعية تماماً، وربما يتحفظ صناع المسلسل في تقديم جوانب أكثر ظلمة وسوءاً من الحياة الواقعية لهؤلاء، في وقت يطرح بيان المجلس الأعلى فكرة متناقضة تقوم على ان عرض الواقع… يشوّهه! 

 المدافعون عن المسلسل يصنّفونه على أنه أحد نماذج “الفن الهادف والملتزم اجتماعياً”، وسواء كنا نتفق أو نختلف مع هذا المفهوم، فهو في النهاية متسق تماماً مع المعايير التي يفرضها المجلس، في سياق التزامه بالمسار العام لخطاب الدولة المحافظ بصورة تقليدية، في سعيه، المفترض، لأن يعلي الفن من القيم الأخلاقية ويدافع عنها. ففي نهاية المطاف كيف يمكن أن يقوم الفن بمثل هذه المهمة من دون تقديم الظواهر السلبية والإشارة إلى ما تنتجه، ومن دون أن يتحول إلى سلسلة من المحاضرات التي تمتدح القيم الأخلاقية المثالية وتحض الناس على التمسك بها؟

تجنب الكنس تحت السجادة

يتفق المدافعون عن المسلسل على أن حديث المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام عن تشويه صورة الأسر المصرية غير متسق مع صمته حيال الكثير من الأعمال الدرامية المقدمة في هذا الموسم الرمضاني والمواسم السابقة، مع إشارتهم إلى مسلسلات وبرامج شهدت تجاوزات مختلفة مثل مسلسل “ملوك الجدعنة” ومسلسل “موسى” وبرنامج رامز جلال، وكثير منها يخالف المعايير التي يفرضها المجلس، وذلك يدعو إلى السؤال عن السبب الحقيقي الذي لأجله اهتم المجلس بمسلسل “الطاووس” بصفة خاصة من دون غيره. 

أكثر المشاركين بتعليقاتهم من خلال هاشتاغ #أدعم_مسلسل_الطاووس عبروا عن اقتناعهم بأن التحقيق المعلن عنه والتمهيد ربما لوقف عرض المسلسل هو امتداد لسلسلة من محاولات دفن قضية الفيرمونت طوال الشهور الماضية. كثر من مستخدمي الهاشتاغ أعادوا نشر قائمة بأسماء المتهمين في قضية الفيرمونت مع الإشارة إلى آبائهم من أصحاب المال والنفوذ المعروفين، في إشارة واضحة إلى أن استهداف المسلسل ومحاولة وقف عرضه سببهما خوف المتورطين في قضية الفرمونت من أن يتجدد الاهتمام بالقضية وإخراجها من النسيان، بعدما عمل متنفذون على طيها وإقفالها.

لا يمكن التقليل من وجاهة مثل هذه الشكوك، ولكن إضافة إليها يبقى بيان المجلس متسقاً مع توجه سائد وتقليدي في التعامل مع الظواهر الاجتماعية المتناقضة مع الصورة المثالية سواء للأسرة أو المجتمع، والذي يميل إلى السعي بكل السبل إلى حجب هذه الظواهر وصولاً إلى ملاحقة من يتناولها بأي شكل يبرزها ويلفت الانتباه إليها. 

هذه المقاربة تمكننا تسميتها بآلية تجنب “الكنس تحت السجادة” هي في الواقع تعكس مثيلتها في الثقافة السائدة، التي تهتم بالمظهر الخارجي للسجادة، أكثر مما يختبئ تحتها من “أوساخ”. فطالما أن الغبار بعيد من العيون، لا مشكلة مهما كان المكان متسخاً.

مؤيدو قرار المجلس يعكسون في الحقيقة هذا الميل السائد في المجتمع للانزعاج من إبراز مشكلات واقعية يعلمون يقيناً بوجودها.

يلمس مسلسل “الطاووس” أكثر من وتر حساس يصيب المجتمع والسلطة أيضاً. العنف المستشري ضد النساء الذي يرفض المجتمع الاعتراف بمدى اتساعه وعمق ما يسببه من معاناة، هو أحد الموضوعات المزعجة بالنسبة إلى كثيرين، بخاصة إذا ما عولج بطريقة تكشف أن المجتمع شريك فيه ليس بإنكار وجوده وحسب، ولكن أيضاً بإصراره على معاقبة ضحاياه بدلاً من دعمهم والوقوف في صفهم.

أما الجانب الآخر الذي يعالجه المسلسل ويزعج كثيرين من أصحاب نظرية تجنّب “الكنس تحت السجادة”، فهو الظلم الطبقي الناشئ عن التفاوت الهائل في الثروة والدخل، وما ينتجه من جرائم في حق الفئات الأكثر ضعفاً، واختلال في موازين القوى، وبذلك لا يحصل المتضرر على حقه في الإنصاف. وهذا موضوع لا شكّ أنه يزعج السلطة،  التي تصرّ على المضي في سياسات اقتصادية تزيد من اتساع الهوة الطبقية، وتمنح المتنفذين المنتفعين منها، قدرة كبيرة  على الإفلات من العقاب على الجرائم التي قد يرتكبها أفرادها. 

هكذا تحاول السلطة، ومعها “منتفعاتها” دفن قضية الفيرمونت ومعها الكثير من القضايا و”الأوساخ” الناتجة عن فسادها ولا عدالتها، تحت “سجادة” صالون الأسرة المصرية و”قيمها”.

إقرأوا أيضاً: